امرأة في منتصف العشرينات، تجلس في عربة خاصة، وحُرّاس، وتحظى بأفضل مقعد في الكولوسيوم (صرح روما الأعظم والشاهد على الصراعات الشهيرة بين الإنسان والحيوان)، تلك المرأة تقوم بالتصويت مثلها مثل الرجل الروماني، وتمتلك إرادة حرة في زمن كانت النساء فيه تقع ضمن أملاك الرجل، سواء كان والدها أو أخوها أو زوجها. امرأة جميلة ترتدي زي العروس الرومانية، لكن حياتها بكل ما فيها تساوي شعلة من نار، إنها «عذراء فيستال»، كاهنة من كاهنات الإلهة فيستا.

من هي الإلهة فيستا؟ ومنْ هن أشهر عذارى فيستال؟

الإلهة فيستا العذراء، هي واحدة من الآلهة الرومانية، وأقلهم شهرة. لا يوجد لها تماثيل، إذ يُصوِّرونها بالنار المقدسة في معبدها، الذي بُني في قلب روما، ليُعبِّر عن قلب المدينة. يخدم تلك الإلهة ست كاهنات عذارى، يُحافظن على استمرارية الشعلة المقدسة في المعبد، ويتم اختيارهن بصورة دقيقة ليمثلن إلهتهن.

لكي تصبح الفتاة من عذارى فيستال، يجب أن تكون ابنة لأب وأم أحرار، تجري في عروقها دماء أرستقراطية، وأن يكون والداها على قيد الحياة، لا يظهر عليها أي مشاكل جسدية ونفسية، ويتم أخذها من أهلها في السادسة أو العاشرة من عمرها، لتعيش ثلاثة عقود من حياتها في خدمة تلك الشعلة.

خلال أول عشر سنوات يتم تدريب عذارى فيستال على واجباتهن، وفي العقد الثاني يكُن في خدمة الإلهة، وفي العقد الأخير تقمن بتعليم العذارى الجدد. وبعد الثلاثين يمكنهن الانخراط في الحياة العادية والزواج.

تعيش عذارى فيستال طوال فترة خدمتهن في أماكن مخصصة، ويمتلكن دخلًا خاصًا، لذا لم يكنّ هدفًا مناسبًا للرجال ذوي التوجه الذكوري، إذ كنّ يمتلكن معاشًا لإعالتهن، وبالتالي لديهن القدرة على اتخاذ قراراتهن الذاتية، وصولًا إلى المشاركة في الحياة السياسية.

أمّا أولئك الرجال الذين كانوا مهتمين بالزواج من امرأة مثقفة ومتعلمة، أو حتى يريدون رفع مكانتهم الاجتماعية، فكانت عذارى فيستال اختيارهم الأمثل.

لعل أول منْ فهم مكانة أولئك النساء هو الاجابالوس، واحد من أسوأ أباطرة الرومان، والذي تزوِّج من «أكيليا سيفيرا»، التي كانت عذراء من عذارى فيستال، إيمانًا منه بأن إنجاب أطفال من هكذا زواج سيكون حدثًا مهمًا، حيث الأم كاهنة لفيستا، والأب كاهنًا لإله الشمس، إلا أنهم لم ينجبوا.

العذراء الأخرى هي «ريا سيليفا»، تلك التي وضعها عمها في معبد فيستا ليضمن انقطاع نسل أخيه بعدما انقلب عليه، لكنها أنجبت التوأم رومولوس وريموس، زاعمة أن والدهما هو الإله مارس، ليؤسِّسا روما، لكن زعمها لم يُنجِيها من عقاب كسر القواعد الخاصة بعذارى فيستال.

العقاب ما بين روما والعصر الحديث

كان الرومان يعتبرون نيران معبد فيستال هي قلب روما الدافئ، إذا ما انطفأت سقطت المدينة، فكانوا إذا ما خمدت النار، أو حتى خسر الجيش الروماني، وبدلًا من لوم القادة، كانوا يلمن بضع نساء، كانوا يدعون أن إحدى الكاهنات فقدت عذريتها، لذلك انطفأت النار، ولهذا خسر الجيش.

ولأن دماءهن كانت مقدسة لا يجب هدرها كونهن كاهنات، فكان يتم وضع المتهمة في غرفة مظلمة، ويتم ضربها دون أن تنزف نقطة واحدة، ويتم تغطيتها في كفن أبيض وإنزالها في قبر تحت الأرض بعد وضع قليل من الطعام فيه، ويغلقون عليها تمامًا فلا ترى النور بعدها إلى أن تموت من الجوع، وهكذا يكونوا قتلوها دون تلويث اليدين بالدماء.

مع اختلاف الأزمنة، توقفت العائلات عن إرسال بناتهن نظرًا للاتهام الذي يسيء لسمعة العائلة إلى الأبد، ومع دخول المسيحية، انتهت تلك الممارسة، وانطفأت نار فيستا للأبد، تلك النار التي قتلت العديد من الفتيات.

ربما تُذكرنا عذارى فيستال بوضع النساء في مجتمعنا. تمكث الفتاة حياتها تحمي شرف العائلة، فإذا ما ظهرت إشاعة واحدة وسمعها رجل العائلة، يُعاقِب الفتاة بداعي فقدانها لشرفها، دون تبيّن الحقيقة، ودون أن يتم محاسبة المُخطئ الحقيقي. يسارعون لإلقاء اللوم على الحلقة الأضعف، كانت حياة الكاهنة الرومانية تساوي شعلة من النار تشتعل بقطعة حطب وتنطفئ بقليل من الماء، وحياة الفتيات الآن تساوي إشاعة قد يُطلقها إنسان بلا أخلاق.

بينما كان الرومان يُعلِّقون فشل حروبهم وحملاتهم العسكرية على مجموعة نساء يحملن شعلة، ولم يقو شخص واحد على محاسبة أولئك الرجال، بل صدّقوا كذبة «العذرية التي جعلتنا نخسر الحرب»، يقوم رجال اليوم بتبرير جرائمهم المرفوضة بموجب القانون والدين على شماعة شرف المرأة، وبدلًا من محاسبة الجاني الحقيقي، سواء مُطلِق الإشاعة أو مُكرِّرها، يقومون بمحاسبة الفرد الآمن في منزله، تمامًا كما فعل الرومان، حاسبوا نساء بعيدات كل البعد عن ميدان المعركة، حاسبوهن على خسارة لم يرونها ولم يشاركن فيها.

وقد أشار المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، أن 70% من جرائم الشرف ارتكبها الأزواج ضد زوجاتهم، و20% ارتكبها الأشقاء ضد شقيقاتهم، بينما ارتكب الآباء 7% فقط من هذه الجرائم ضد بناتهم، أمّا نسبة الـ 3% الباقية من جرائم الشرف، فقد ارتكبها الأبناء ضد أمهاتهم، في وقت تراوح عدد ضحايا جرائم الشرف من 900 لـ 2000 جريمة سنويًا، و79% منها ارُتكبت بدافع الشك.

قُتلت عذارى فيستال بسبب إخفاق الجيش، وتُقتَل النساء اليوم بسبب هشاشة بعض الرجال، وشكهم فقط.

جرائم قتل النساء مستمرة منذ القدم مع اختلاف الذرائع ومُسمياتها. ففي فترة زمنية من تاريخ البشر قُتلن بسبب انطفاء شعل النار، وفي فترة تم وأدهنّ، وفي بقعة أخرى قُتلن فقط بسبب موت أزواجهن، والآن يتم قتلهن باسم الشرف، ولا ندري أي ذريعة أخرى سيجدون ليدفنوا نساء أخريات.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.