تمضي «إسرائيل» في عملية «كاسر الأمواج» التي تمارسها في الضفة الغربية، وتشير التقديرات الإسرائيلية إلى مقتل 50 فلسطينيًا منذ بداية عام 2023، ووصفت عمليتا جنين ومخيم عقبة جبر بأنهما الأكثر دموية منذ سنوات. تنوعت أهداف العمليات المندرجة تحت العملية الكبرى، فتقول الصحف الإسرائيلية، إن عملية جنين استهدفت خلية تابعة لحركة الجهاد الإسلامي، بينما استهدفت عملية أريحا خلية تابعة لحركة «حماس».

تريد إسرائيل من تلك العمليات المكثفة ردع أي عمليات ضد جيشها ومواطنيها. كما تريد من ضرب المجموعات المسلحة في الضفة، خصوصًا المجموعات المتشكلة خارج الإطار التنظيمي للفصائل التقليدية. وتريد كذلك قمع أي احتمالية لانتفاضة ثالثة عبر سحق الجيوب التي تخرج منها العمليات المنفردة. كما أن إسرائيل تُطبق في الضفة ما تعلمته من دروس الانتفاضات السابقة، وتسعى لمنع تكدس السلاح أو البنية التحتية القادرة على التحول لمنصات إطلاق صواريخ أو دروع. بكلمات أخرى يبدو أن إسرائيل تتجنب الوصول لمرحلة القيام بعملية شاملة، كالتي قامت بها عام 2002، عبر القيام بعديد من العمليات الصغرى.

تلك العمليات الصغرى يمكن تقسيمها إلى نمطين يتكرران مع كل عملية فدائية أو حادثة طعن أو دهس فردي. الأول تكثيف مهاجمة المدن والمخيمات. تستهدف بذلك تنظيمات مسلحة تابعة لفصائل فلسطينية معروفة، أو تنظيمات صغيرة محلية مثل كتيبة جنين في مخيم جنين، وعرين الأسود في نابلس. النمط الثاني هو اتخاذ قرارات عقابية، للجميع، ردًا على العمليات الفردية، كي تردع المنفذين اللاحقين.

 فغالبًا ما تُغلق منازل المنفذين، ثم تهدمها لاحقًا. وتوسع تسليح مواطنيها وتُسهل تراخيص حصولهم على أسلحة. وتسحب تصاريح الإقامة من منفذي العمليات وكل من يمت لهم بصلة. كما تتجه لطرد عائلات المنفذين كذلك. وتزيد من الوجود العسكري في القدس والضفة الغربية. كما تحاول امتصاص الغضب اليميني الداخلي بإعلان بناء مستوطنات جديدة، مثل مستوطنة حانون التي تبعد 7 كيلومترات عن الشريط المتاخم لقطاع غزة.

أجندة داخلية للفوضى

لكن رغم ذلك فالتقديرات الإسرائيلة نفسها ترى أن كل تلك الإجراءات العقابية لن تؤدي لوقف العمليات المسلحة بل ستزيدها. خصوصًا رغبة اليمين الإسرائيلي في إسقاط السلطة الفلسطينية بالكامل. لأن العمليات تحدث في المناطق التي فقدت السلطة السيطرة عليها مثل جنين ونابلس. ربما يجدر الإشارة هنا إلى أن الحكومة الإسرائيلية بها، مثل كل حكومات العالم، أصحاب أجندات سياسية يرون في الفوضى الحادثة حاليًا، وفي زيادتها لأقصى حد، فرصة سانحة لتنفيذ ما يريدون.

فمؤخرًا أقر الكنيست في قراءة أولية عقوبة الإعدام. فتشريع عقوبة الإعدام للفلسطينين مطلب لليمين المتطرف. كذلك ستؤدي الأحداث في الضفة إلى شرعنة أحوال المستوطنات، وطرد السلطة الفلسطينة من مناطق نفوذها التي تمثل 60% من مساحة الضفة. ثم طبعًا هدم المنازل الفلسطينية وإخلاء سكانها من الضفة تمامًا. ما يعني تضييق الحيز الفلسطيني لأقصى حد ممكن تمهيدًا للضم الكامل للضفة.

السلطة الفلسطينية بدورها منزعجة من تجاهلها وعدم التنسيق الأمني معها في عمليات المداهمات المتكررة للضفة. لكن يبدو أن الحكومة الإسرائيلية ترى السلطة داعمة بدورها للإرهاب، ولولا إصرار المؤسسات العسكرية الإسرائيلية على بقاء قدر من التنسيق بين الحكومة والسلطة الفلسطينية لما استمرت الحكومة الإسرائيلية في هذا القدر الضئيل من التنسيق. لكن يبدو أن الجميع يريد ألا تتطور الأمور لمواجهة مفتوحة.

فمثلًا حين ضربت إسرائيل خلية عسكرية تابعة لحركة حماس، لم ترد حماس بما يتناسب مع الفعل. فكان إطلاق الصواريخ من قطاع غزة أقرب لكونه فعلًا تضامنيًا مع الضفة والقدس. فحماس تريد أن تبقى غزة هادئة، بينما الضفة مشتعلة. وربما يكون للتدخل المصري دور في منع مزيد من التصعيد بسبب اقتراب شهر رمضان والأعياد اليهودية كذلك. فمصر ترى الوضع قد يصل إلى الانفجار في الأيام القادمة، وهو ما لا تريده مصر.

التصعيد يلد التصعيد

إذا توافقنا على أن هناك رغبة لدى الجميع في عدم التصعيد، فهل تساعد إسرائيل الفلسطينيين على عدم التصعيد؟ الإجابة بالتأكيد لا. فالعمليات العسكرية تصبح أكثر دموية. وفرض العقوبات الجماعية واستمرار الاستيطان سينتج عنه رد فعل انتقامي. ما يدفع إسرائيل بدورها للتصعيد ردًا على ردود الفعل الفلسطينية.

لكن إذا أردنا أن نضع سيناريو آخر للأحداث فيمكن القول إن الأوضاع قد تصل إلى الاستقرار النسبي. هذا السيناريو يمكن استنباطه بناءً على معطيات متعددة. منها أن الحكومة الإسرائيلية لا تريد أن يبقى الفلسطينيون شاغلًا للمجتمع الدولي لفترة طويلة بشكل متواصل. كما أن الهدوء في فلسطين، والضفة، سيساعد الحكومة الإسرائيلية في مزيد من التطبيع مع الدول العربية، التي قد تتحرج من التوقيع أو الإعلان عن التطبيع في ظل أزمة مشتعلة ويُسلط عليها الإعلام أضواءه.

كما أن استمرار التصعيد قد يؤدي لانهيار السلطة الفلسطينية بالكامل، وهو الأمر الذي لا تبدو إسرائيل مستعدة له. كما أن استمرار العمليات قد يوسع رقعتها أصلًا، فتدخل مدن كانت هادئة في الأعوام الماضية حيز الاشتعال ضد إسرائيل. وفي هذا السيناريو تكون عودة التنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل. كما أن إسرائيل والولايات المتحدة، بمساعدة السلطة، ستعملان على تحسين أوضاع الضفة الغربية في محاولة لتخفيف الضغط الاقتصادي الذي ربما تراه إسرائيل عاملًا في غضب الشباب الفلسطيني.

إذا كان سيناريو الهدوء النسبي موجودًا نظريًا، باعتبار كل الخيارات مفتوحة، فإن سيناريو التصعيد ومزيد من التصعيد، يبدو هو الأقرب للواقع. خصوصًا أن العمليات العسكرية الإسرائيلية في الضفة أصبحت فعلًا متكررًا ومستمرًا. كما أن اقتراب الأعياد اليهودية، وما يصاحبها من دخول اليهود بصورة متكررة وفجّة للمسجد الأقصى سيزيد من حالة التوتر والتصعيد. كما أن هامشية القضية الإسرائيلية الفلسطينية حاليًا في أجندات المجتمع الدولي المنشغل بالحرب الروسية وتداعياتها، ربما تجعل الضغط الدولي على الجانب الإسرائيلي ضغطًا خجولًا، ما يفتح الباب أمام إسرائيل للاستمرار فيما تقوم به.

إسرائيل تبالغ في تقدير العرب

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لم يتوقف عن التهديد والتوعد لكل من يهدد الإسرائيليين. فرغم أن قتل إسرائيلي لستة فلسطينين في 8 مارس/ آذار الجاري حدث يدعو للتصعيد في ذاته، فإن تصريحات نتنياهو تأتي لتصب المزيد من الزيت على النار. في حين أكدت الفصائل الفلسطينية أن الشهداء الستة، وتصريحات نتنياهو المستفزة، ستجعل الفلسطينيين أكثر تصميمًا على المواصلة والانتقام.

ما يعود بنا للنقطة السابقة، التي تحدثت عنها الصحف الإسرائيلية منذ بداية عام 2023. هو أن هذا العام سيشهد تصعيدًا مؤكدًا، أما الاختلاف فيقع في درجة التصعيد. وهل سيكون ضم الضفة كاملًا في هذا العام، أم أن ما يحدث هو مجرد خطوات على طريق الضم. خصوصًا أن الحكومة الإسرائيلية الحالية تتحدث عن حسم الصراع مع الفلسطينيين، لا تستخدم مصطلحات مثل إدارة الملف أو حل الصراع أو تقليص الأزمة، بل مصطلح واحد وصريح، حسم الصراع.

تتأتى الجرأة للحكومة الإسرائيلية للحديث بهذه اللهجة لمراهنتها أن ردود الأفعال، الفلسطينية والدولية، يمكن معالجتها واحتواؤها. وترى الحكومة الحالية أن اليمين الإسرائيلي أخطأ سابقًا في تصور حجم رد الفعل الفلسطيني والدولي، وتكهن أنها ستكون ضخمة وكبيرة لهذا أحجم عن استكمال الأهداف الإسرائيلية. فمثلًا حين نقلت واشنطن سفارتها للقدس، وحين أُعلنت صفقة القرن، واعترفت بضم إسرائيل للجولان، لم يحدث رد فعل ضخم كالذي توقعته إسرائيل، بل استمرت الأوضاع كما هي. بل تعمق الانقسام في الداخل الفلسطيني نفسه.

الانقسام الفلسطيني، والصراع الأهلي الفلسطيني، هو الاحتمالية المرعبة في كل المشهد الحالي. فإذا تعمق الانقسام بين الفصائل، وبدأت نغمة إلقاء اللوم على من المسئول عن التصعيد أو الرد الانتقامي الإسرائيلي، فقد ينشب اقتتال داخلي. خصوصًا في حالة انهيار السلطة الفلسطينية، فيولد صراع بين الراغبين في الوصول لخلافة السلطة. كما قد يفتح الباب لعودة الوصاية العربية على السكان الواقعين تحت السيادة الإسرائيلية.

المعجزات ممكنة، لكن مستبعدة

في الشأن الفلسطيني قد تنهار كل التحليلات أمام حجر طفل غاضب. لهذا فإن رغم المجازر وقتامة الوضع سياسيًا ونظريًا، فإن المعجزة لا تزال قابلة للتحقق. قد نتجرأ ونضعها ضمن السيناريوهات الواردة. في ذلك السيناريو الإعجازي قد تحدث انتفاضة شاملة. شاملة بمعنى أنها تقوم بشكل أساسي على المقاومة الشعبية غير المُنظمة والمؤدلجة، وفي نفس الوقت لا تستثني المقاومة المسلحة المنظمة. ربما قد لا تكون تلك الانتفاضة قادرة على المطالبة بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي ككل، أو استعادة السيادة الكاملة على دولة فلسطين.

لكن تستطيع تلك الانتفاضة أن توقف الاستيطان وتمدده. وتمنع خطط المحتل في التقسيم الجغرافي والتاريخي لفلسطين والضفة. كما تجعل الرباط في الأقصى هدفًا دائمًا لها، ما يعيد الحكومة الإسرائيلية لنقطة الصفر في الحديث عن المساواة بين اليهود والفلسطينيين في التمتع بالمسجد الأقصى. كما قد تؤدي تلك الانتفاضة إلى حماية المناطق المعرضة للمصادرة والتهويد.

هذا التصور خيالي ومستبعد واقعيًا لأنه كي يحدث يحتاج إلى أرضية مشتركة تقف عليها كافة قيادات فلسطين العسكرية والسياسية. كما يحتاج أن يُسبق ببلورة شاملة لرؤية كاملة. كما يحتاج بالطبع إلى حدوث تغييرات إقليمية كبرى في الدول العربية المؤثرة تمثل دعمًا لوجيستيًا وسياسيًا لمثل هذه الانتفاضة التحررية. لكل يبدو هذا السيناريو مستبعدًا، وتبدو سيناريوهات التصعيد المتزايد هي الأقرب للواقعية.

خصوصًا إذا نظرنا للصورة الكبرى، الحرب الروسية الأوكرانية. فإذا انتصرت روسيا في حربها، فسيكون النظام الدولي متعدد الأقطاب بنسبة ما، ما يضعف من هيمنة الولايات المتحدة على صنع القرار في الشرق الأوسط. لكن إذا هُزمت روسيا فإن قبضة الولايات المتحدة ستقوى.

الفلسطيني يخوض معركته وحده


ما يبرر ما قاله نتنياهو لوزرائه حين طالبهم بمهلة سنتين فقط لتحقيق كل ما يريدون. يشير بذلك إلى انتخابات الرئاسة الأمريكية، وإمكانية فوز رئيس جمهوري جديد، ما سيطلق يد نتنياهو أكثر وأكثر.

 وهو ما يعني أن ربما يتوقف نتنياهو عند نقطة ما حاليًا، انتظارًا لفرصة سانحة، مرتقبة، ينقض فيها على الضفة الغربية بالكامل. لا تبدو النهاية واضحة لما يحدث في الضفة الغربية اليوم. ولا يعرف أحد النقطة التي قد يتوقف فيها العدوان الإسرائيلي على الضفة، كما أن المقاومة تبدو ممزقة بين رغبتها في المبادرة لبدء معركة عسكرية قبل أن تتعرض لعدوان عسكري إسرائيلي مكثف، وضرورة الانتظار ومراكمة القوة كي يلتقط السكان في باقي مناطق فلسطين أنفاسهم.

والأهم انتظار لحظة يتوافق فيها محور المقاومة على توفير عمق ودعم لتلك الخطوة. فتركيا مشغولة في الزلزال الذي أصابها، وفي الانتخابات الرئاسية التي تطرق الأبواب. أما حزب الله وإيران فمن غير المرجح أن يخوضا حربًا مع إسرائيل سببها ما يحدث في فلسطين. خصوصًا أن حزب الله يعاني مثل بقية لبنان من الأزمة المأساوية التي يحياها البلد. كذلك فإن الصين لا تريد المجازفة بعلاقاتها مع إسرائيل، ولا يوجد ما يدفعها لتغيير موقفها الداعي للدبلوماسية والحوار فحسب.

خلاصة الأمر، أن الفلسطيني هو وحده من يخوض معركته. هو قاطرة مصيره، والقطار الذي يحمل عبء دولته وحده. وهو من سيحدد مصير ما يحدث حاليًا، سواء برد فعله على التصعيد الإسرائيلي، أو بفعله الأول حين تظن إسرائيل أن احتلالها بات سهلًا ومسلمًا به، فيريد الفلسطيني التأكيد لها أنها قد تحتل ما تشاء من أرض فلسطين، وقد لا يقدر الفلسطيني الفرد على ردعها عن الاحتلال والاستيطان، لكن يقدر منفردًا أن يجعل هذا الاحتلال مكلفًا عليها.