الأوضاع في المنطقة قبل الربيع العربي

أولاً : الدول العربية

تخلت الدول العربية عن أدوارها فى المنطقة وتنازلت عن نفوذها المكتسب تاريخياً وجغرافياً وأضعفت النظام العربى الذى يُجسد إرادتها المشتركة ويُمثل حركتها الجماعية وتجاهلت القضايا الإستراتيجية واكتفت بدور الوساطة والتهدئة بشكل منفرد.

وتراجع القرار الوطنى واستقلاله بشكل كبير وانقسمت الدول العربية إلى دول موالية للسياسات الغربية ودول معارضة لها ودول تابعة للقرار الأمريكى ودول مؤيدة للمحور الإيرانى.

وتباينت مواقف التجمعات العربية، فمنطقة الخليج العربى تتمسك بعلاقتها مع الأمريكان وتلتزم باستحقاقات هذه العلاقة.

ومنطقة المشرق العربى وتضم دول وحركات مختلفة ومتنافسة بدرجات متفاوتة وتتنازع على ساحتها اتجاهات وتيارات سياسية وأيدلوجية مُتباينة، ومنطقة المغرب العربى منكفأة على مشكلاتها الداخلية والبعيدة عن قضايا المنطقة.

هذه الإنقسامات بمستوياتها المختلفة أدت فى النهاية إلى إخلاء الساحة وبروز إيران كقوة إقليمية لتمارس نشاطها وتحقق طموحها ، معتمدة على التحالفات السياسية والامتدادات الطائفية؛ كما سمحت لإسرائيل بخوض العديد من المعارك وسمحت للأمريكان بإحتلال العراق وإعادة رسم الخرائط السياسية فى المنطقة وترتيب موازين القوى وفق أولويات المصالح الأمريكية والإسرائيلية.

ثانياً : الولايات المتحدة الامريكية

تبنت الولايات المتحدة مجموعة من الإستراتيجيات في المنطقة العربية يمكن إيجازها فيما يلى :-

أولاً : تبنى إستراتيجية الحرب الاستباقية للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط وإعادة صياغة الأوضاع بها تبعاً لمفاهيمها وتصوراتها للدور الإسرائيلى وظهر ذلك من خلال احتلال العراق وأفغانستان والتدخل المباشر في منطقة الشرق الأوسط بالإرادة المنفردة والأسباب الزائفة حفاظاً على المصالح البترولية والهيمنة الأمريكية.

ثانيا : اتخذت الاستراتيجية الامريكية من الارهاب محوراً لسياستها وعلاقتها بدول العالم وصعدت نظراتها للإرهاب فى إطار الدول الإسلامية بناء على قناعات امريكية أن الإرهاب يندرج في صلب الثقافة الإسلامية، وأن المناخ السياسى والبنية الفكرية بهذه الدول يسمح بتفريغ الإرهاب وتصديره .

ثالثاً : إعتماد الإستراتيجية الأمريكية على القوى الخارجية الحليفة لها للقيام بأدوار بديلة عنها فى المناطق التى لا ترغب التدخل المباشر فيها بهدف السيطرة من بعيد على الصراعات أو الحركات المضادة عن طريق الدول المجاورة والحليفة.

رابعاً : العمل على تفتيت الدول العربية والتعامل مع القضايا المشتعلة في المنطقة فرادى مع تفادى الاعتراف بالعلاقة المتبادلة وتأثيراتها الممتدة.

خامساً : تقسيم المنطقة إلى محورين أحدهما الدول العربية وإسرائيل تحت القيادة الأمريكية والثانى كل الدول والحركات الممانعة للسياسة الأمريكية تحت قيادة إيران وهى إستراتيجية تسمح باستخدام إيران كفزاعة وصناعة عدو يسمح للأمريكان بالتلويح لهذا الخطر لاستمرار السيطرة على منطقة الخليج وذريعة للتواجد العسكرى الكثيف في المنطقة.

ثالثاً : إيران

تتحرك إيران في منطقة الشرق الأوسط بعد غياب الدور العربى وفق إستراتيجية تهدف إلى الحصول على اعتراف دولى بدورها كقوة إقليمية تمتلك مقدمات وأدوات هذا الدور وتمتد تحالفاتها ومصالحها من الخليج إلى العراق وسوريا ولبنان حتى فلسطين .

وفي المقابل يعارض الأمريكان والإسرائيليون هذا الدور توجساً من تأثيراته على موازين القوة في المنطقة وعلى نفوذ ومصالح إسرائيل والمملكة العربية السعودية وكذلك لإصرار الأمريكان على الانفراد بالهيمنة السياسية والعسكرية والإقتصادية والأمنية على منطقة الشرق الأوسط بالسيطرة على منابع البترول وصولاً إلى الحفاظ على أمن إسرائيل ودول الخليج.

رابعاً : إسرائيل

تعمل الإستراتيجية الإسرائيلية على تعميق الشعور بالإحباط لدى المحيط العربى والفلسطينى من خلال السيطرة العسكرية الكاسحة المؤيدة بالرصيد الأمريكى اللامُتناهى، وتُصر على تفادي الوصول إلى تسوية حقيقية للنزاع العربى الإسرائيلى وتتجنب الالتزام بتعهدات نهائية لقيام الدولة الفلسطينية.

على أساس أن عنصر الوقت ومسار الأحداث في المنطقة يصب في صالحها كما أنها تؤيد المشروع الأمريكى الداعى إلى تقسيم المنطقة إلى محورى الإعتدال بالقيادة الأمريكية ومحور التطرف بالقيادة الإيرانية وتعتقد أن هذا التقسيم وهذه الإصطفافات الإستراتيجية تدفع بالقضية الفلسطينية إلى خلفية المشهد في أولويات دول المنطقة إلا أنها تواجه أخطار صعود الدور الإقليمى لإيران وتحالفاتها مع حزب الله فى لبنان والأسد في سوريا.

– خلاصة الموقف فى منطقة الشرق الأوسط قبل الربيع العربى

الموقف الكلى في المنطقة كان مثالياً تماماً لتحقيق الأهداف الأمريكية والغربية فالدول العربية منقسمة على ذاتها والنظم الحاكمة تستمد بقاءها من التبعية الأمريكية والغربية، مما يسمح بالسيطرة على منابع البترول، والحفاظ على أمن إسرائيل وتغييب القضية الفلسطينية والهيمنة علي منطقة الشرق الأوسط.

الربيع العربى وتداعياته على المنطقة : سيناريوهات المسار

انطلقت ثورات الربيع العربى من تونس وسرعان ما تدحرجت إلى مصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا والعراق، وعلى الرغم من أن الثورات العربية ركزت على الفساد والفقر وانعدام الحريات وتجاهلت بصورة أو بأخرى الهيمنة الغربية والإحتلال الإسرائيلى إلا أن حقيقة الانطلاق ضد الديكتاتوريات المدعومة من الغرب تعنى بشكل مباشر أن ثورات الربيع العربى تهدد النظام الإستراتيجى على المستوى الإقليمى والعالمى.

– سيناريوهات مسار الثورات من المنظور الغربى

وضع صانع القرار الغربي مجموعة من السيناريوهات المُحتملة لمسار ثورات الربيع العربى ومدى تأثير ذلك على المنطقة ومدى تقاطعه مع المصالح الأمريكية والغربية في الشرق الأوسط.

السيناريو الأول : نجاح الثورات في إطار مشروع نهضوى عربى إسلامى

وتقوم فكرته على أن قادة حركات التغيير لديهم إدراكات أن نهضة بلادهم لا ترتبط فقط بالمشروعات المحلية وأنه لابد من مشروع وحدوي لمواجهة حالة الضعف والانقسام التى تعانى منها الأمة وأن عملية النجاح والإصلاح داخل القطر مرهونة بنجاح شقيقاتها في الأقطار الأخرى وأن التكامل والاتحاد يعطى قوة في مواجهة تحديات الداخل والخارج ومن هنا يمكن للدول العربية أن تصل إلى توافق داخلى يستهدف إعادة كافة الدول إلى منظومة تحالفاتها الطبيعية داخل الإطار العربى يمكنها من وضع تصور مشترك للتعامل مع القضايا الإستراتيجية في المنطقة ومن ثم التأثير في تطوراتها والمشاركة في توجيه مسارها وكذا تعديل الأوضاع الجائرة في التحالفات والمعاهدات التى لم يأخذ رأيهم فيها أو يساهموا في إتخاذ قراراتها فضلاً عن تكوين تحالفات وكيانات إقتصادية جبارة تستطيع أن تؤثر بشكل كبير في الاقتصاديات العالمية.

تقييم هذا السيناريو وفق الرؤية الغربية

نجاح هذا السيناريو يعنى خروج الدول العربية عن حيز الهيمنة الغربية والأمريكية مع إحتمالية إمتداد الثورات لدول الخليج مما يعنى تأثيرات سلبية على الغرب من الناحية الإقتصادية والأمنية والسياسية والعسكرية ، فهناك تهديد لتدفق البترول وبوار للسلع الغربية في السوق العربية وهناك تهديد للكيان الصهيونى حال وجوده وسط تحالفات معادية كبيرة ومؤثرة، وهناك تهديد للهيمنة الأمريكية في المنطقة حال تكوين تحالفات عسكرية ومعاهدات للدفاع المشترك .

السيناريو الثانى نجاح الثوارت فى الإطار المحلى للدولة

وتتركز فكرته على أن يتم تغيير بنية النظام السياسى إلى نظام يعبر بشكل أفضل عن حالة ديموقراطية تعبر عن إرادة الشعب في الوقت الذى ينكفئ فيه النظام على ذاته وينشغل بالعشرات من الهموم المحلية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية والأمنية والتنموية.

وهذه النظم التى تقود دول أشبه ما تكون بالجزر المنعزلة وفق هذا السيناريو تحتاج إلى معجزة تستوعب فيها المناكفات الحزبية الرخيصة والضغوط الخارجية والدولة العميقة مع إحتياجها إلى تحقيق منجزات سريعة يشعر بها المواطن العادى على المستوى الإقتصادى والأمنى والسياسى.

وهذا السيناريو يعنى نشأة ديموقراطيات هشة غير مستقرة ينغمس قادتها في التطلعات والإصلاحات الداخلية بعيداً عن الإهتمامات الخارجية والإقليمية.

تقييم السيناريو

وهذا السيناريو وإن كان لا يمثل خطراً على المدى القصير فإنه بإمكانه أن يمثل مخاطر جمة على المدى المتوسط والبعيد حال نجاح هذه الديموقراطيات الهشة في تثبيت أركانها وحال وصولها لقناعات بضرورة التحالفات الإقليمية للخروج من أزماتها.

وعند ذلك تشكل مخاطر على الدول الغربية لا تقل عن السيناريو الفائت.

السيناريو الثالث إعادة إنتاج الأنظمة القديمة بوجوه جديدة

ويتأسس هذا السيناريو على أن التغيير الذى حدث إنما مس رؤوس الأنظمة وبقيت بنية النظام وشبكة مصالحة قائمة وخصوصاً البنية التى تشكل الدول العميقة المتمثلة في الجيش والشرطة والإعلام والقضاء والإقتصاد مع إمتلاكها للكثير من أدوات الضغط والقدرة على تعطيل وإفشال أى تغييرات جذرية. وأن هذه القوى عليها إستيعاب حركات التغيير وإمتصاص حالات المد الثورى والعمل على إنهاك القوي الثورية والقضاء عليها وإفشالها والانقضاض عليها والتقدم برموزها من جديد سواء على ظهر دبابة لتقدم منقذاً عسكرياً أو بناءً على وصفه البنك الدولى لتقدم منقذاً إقتصادياً وفي الحالتين يُعاد إنتاج الأنظمة السابقة بوجوه جديدة مع تقديم بعض المكاسب من الدول الإقليمية أو الدولية المساندة لعودة النظم القديمة.

تقييم السيناريو

هذا السيناريو يصب في صالح الدول الغربية من عدة أوجه

اولاً : وقوع الثقل الأكبر على قوى الممانعة في الداخل ويقتصر دور الخارج على الدعم السياسى والمادى وربما العسكري إذا لزم الأمر وبالتالى تقل الكلفة إلى حد كبير حال فشل هذا السيناريو كما أنه يسمح بمساحة كبيرة للمناورة من الدول الغربية ولا يضع هذه الدول فى عداء مباشر مع الشعوب الباحثة عن الحرية والاستقلال .

ثانياً : يسمح هذا السيناريو بإجهاد القوى الثورية إلى حد كبير مما يساهم فى إضعافها والقضاء عليها ومن ثم القضاء علي الثورات

ثالثاً : يعطى هذا النموذج مثالاً سلبياً للثورات مما يمنع من تمددها وانتشارها الى دول الخليج

رابعاً : هذا السيناريو يعطى مساحة للإنقسام المجتمعى الحاد والعنف والعنف المقابل مما يؤثر على الحالة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية للدولة مما يقل فرص التعافى المستقبلية .

خامساً : يسمح باستعادة النظم القديمة الموالية للنظم الغربية مع خضوعها الدائم للابتزاز الغربى ووقوعها تحت مظلة الخوف من ارتداد الثورات .

السيناريو الرابع تفتيت المنطقة وتفكيكها على أسس طائفية وعرقية

ويرتكز هذا السيناريو على مدى قدرة الخارج على تشكيل خريطة المنطقة وعلى قابلية المنطقة نفسها لعمليات التفتيت العرقى والطائفى ومدى حصانتها الذاتية ضد هذا السيناريو.

ويرتكز كذلك هذا السيناريو على مسلمة ان الثورات تضعف الحكومات المركزية وتضعف الشعور بالأمان على المستوى الدينى والثقافى والإجتماعى مما يدفع أبناء الطوائف والأقليات والأعراق للتكتل والتمحور حول طوائفهم لحماية أنفسهم بعد إنحسار ظل الدولة المركزية عنهم.

وينبنى كذلك على أن الحكومات الطائفية أو العرقية سواء كانت القديمة أو الجديدة ستسعى إلى حماية نفسها وتقوية نفوذها من خلال الاستعانة بالطائفة أو العرق الذى تنتمى إليه وهو ما من شأنه أن يعمق الفجوة مع المكونات الأخرى التى تسعى بالتبعية إلى تكوين أحزاب وقوات خاصة بها والسيطرة على مناطق نفوذها وبالتالى تصبح قابلية الصراع والصدام والحرب الأهلية قائمة وتصبح فرص التقسيم والتفكيك مواتية وفرص التدخل الأجنبى قائمة بشكل كبير.

تقييم هذا السيناريو

– سيناريو مثالى للكيان الصهيونى إذ تتحول إسرائيل إلى دولة طبيعية وسط دول طائفية علوية أو درزية أو شيعية .

– يحول هذا السيناريو الدول الكبرى في المنطقة إلى دويلات صغيرة وبالتالى يتقزم الدور العربى أكثر فأكثر من خلال السيطرة على تلك الدويلات.

– يحقق الأهداف الغربية في السيطرة الكاملة على منطقة الشرق الأوسط بعد استمالة تجمع هذه الكيانات الطائفية نظراً للعداوة المستقبلية والصدام المتوقع فيما بينهم.

الأهداف الامريكية والغربية فى منطقة الشرق الاوسط

اعتمدت الإدارة الأمريكية جملة من الأهداف التى تريد تحقيقها من تواجدها في منطقة الشرق الأوسط يأتى على رأسها:

1- الحفاظ على المصالح الأمريكية وتدفق النفط وهذا يستوجب

– الحفاظ على الحكومات المصدرة للنفط.

– حماية هذه الحكومات من الثورات والانقلابات.

– إبقاء الحكومات العربية تحت الهيمنة الأمريكية والغربية.

2- الحفاظ على أمن إسرائيل وهذا يستوجب

– عدم صعود قوى إقليمية تمثل تهديداً لإسرائيل.

– تقسيم دول المنطقة علي أسس طائفية وعرقية.

– إضعاف دول المنطقة للحفاظ على توازن القوى لصالح إسرائيل.

– عدم السماح بتكوين تحالفات دولية تؤثر على مسار المنطقة.

– عدم السماح بتكوين رأى عام إيجابى مؤيد للقضية الفلسطينية وحماس.

3- الحفاظ على الممرات المائية في المنطقة وهذا يستوجب

– تدعيم وتوسيع القواعد الأمريكية فى المنطقة.

– استخدام جيوش المنطقة في عمليات نوعية.

– وجود تبادل معلوماتى ومخابراتى مع دول المنطقة.

4- الهيمنه العسكرية والإقتصادية علي العالم وهذا يستوجب

– الهيمنة علي سوق السلاح والنفط في المنطقة.

– عدم السماح بوجود منافس دولي كـروسيا الإتحادية، والصين.

– منع التحالفات العسكرية والاقتصادية غير المسيطر عليها في المنطقة.

5- صناعة خطوط أمامية لمقاومة التنظيمات الجهادية قبل الوصول إليها- تحت مُسمى الحرب على الارهاب- وهذا يستوجب إستخدام جيوش المنطقة في عمليات نوعية وصناعة تحالفات دولية للتدخل في المنطقة .

تقييم السيناريوهات وفق الأهداف

إذا كانت هذه هى أهداف الإدارات الأمريكية والغربية المتعاقبة؛ فالترجيح السائد لديهم في التعامل مع ثورات الربيع العربى ينحصر في السيناريو الثالث الداعى إلى إعادة إنتاج الأنظمة القديمة بوجوه جديدة، والسيناريو الرابع الداعى إلى تفتيت المنطقة على أُسس طائفية وعرقية، بحيث يتم إفشال ثورات الربيع العربى وإجهاضها بشكل كامل ثم الإنتقال إلى إستعادة الأنظمة الديكتاتورية أو الطائفية أو التقسيم بحسب الدولة وقابليتها لأى المسارات.

وفي الجزء المقبل نتناول كيف تم اجهاض الثورات العربية