بمجرد أن تتناولها بيديك، لن تفيق إلّا وأنت تقرأ في الصفحة الأخيرة؛ إنها رواية «وقائع حارة الزعفراني» للكاتب الكبير «جمال الغيطاني»، والتي تُعد رابع أعماله، وقد صدرت بعد روايته الأشهر «الزيني بركات».

لكل رواية مذاق، هذه جملة صحيحة، لكن رواية «وقائع حارة الزعفراني»، حلوة بطعم الخمر الذي ربما لم تتذوقه في الدنيا، لكن جنة الغيطاني تحولت نارًا في صفحات قليلة، يأخذك من عينيك وعقلك، يرميك في حارة الزعفراني بطريقة كتابة تُشبه الطبخ، خلطة عبقرية كتبها بوذا ورماها إلى حيّ الحسين لتنزل على رأس الغيطاني وتتلبّسه، إنه «إله السرد» المنشود، السرد الروائي الصحفي المعلوماتي بامتياز.

الزمن والوعي عند الغيطاني

لا يبدو عليك الاندهاش بينما تتجول في عوالم اللا وعي واللا معقول، رغم أنك عندئذ تتزعم كبار المتعجبين والمستغربين وتمارس انبهارك باللا وعي بكل وعي وعقلانية، إنّه العقل يفكر في غير المعقول، هذه هي روايتنا، والوسيلة لذلك عبر طريقة السرد المتحررة من الزمن، تتجول بين الماضي والحاضر لشخص واحد أو أكثر في نفس الموقف، لربما ينقلك من شخص لآخر أثناء ذلك السرد بواسطة كلمة أو صورة تقع عليها عين البطل أو مفتاح أو فتاة أو اسم، كما تخرج من غرفتك للبلكونة، كما تنقل عينيك بين البشر في محطات المترو.

إن الفهم العميق للزمن في رواية الغيطاني صعب المنال، لأن الأحداث لا تشي لك بفترة زمنية معينة، بينما المكان هو حارة صغيرة، لا يحكي لك سوى قربها من الحسين، ربما ليعطيها الطابع الأسطوري الذي تجد أصداؤه «الطلسمة» التي تصيب الحارة بالعجز الجنسي.

وهذا هو ما يختلف فيه عن نجيب محفوظ كليةً، فالزمن لدى أديب نوبل مُحدد في الأغلب، تستدل عليه من وصف دقيق للملابس، وأواني الطعام، والتكنولوجيا الموجودة في البيت، لكن الغيطاني لا يصف سوى ما يخدم سرده من الملابس، ولا يعطيك إلا ما يرغب أن تعرفه، فقد استخدم الهوامش التي يُعدّها الكتاب في شكل «ملفات» عن الشخصية، فكتب لكل شخصية ملفًا داخل الرواية، وكأنه يُشرِك القارئ في عملية التأليف.

عمارة جميلة

في بناء متماسك جدًا كعمارة جميلة -حسب وصف الناقد «خوان جويتسيلو»- ستتعرف إلى شخصيات حارة الزعفراني الواقعة قرب حيّ الحسين؛ يبدأ الغيطاني برسم حياة كل شخصية بترتيب ظهور المشكلة/ الحبكة، التي هي عجز جنسي يُصيِب عددًا من رجال الحارة، الذين يترددون على شيخ يقطن أسفل سلم بآخر بيت بالحارة، يُحدّدُ لهم موعدًا ليجتمعوا ويكتشف كل منهم أنه ضُرب بنفس الكارثة، يُستثنى منهم رجلٌ واحد لا يعرف أنَّه غير مصابٍ، وكل النساء من الحارة ملعونون بنقل «الطلسم» إلى الرجال خارج الحارة، ويُستثنى منهم أيضًا امرأة واحدة، لا تعرف أنها غير مصابة، وليقطع عنهم كل المعونات الخارجية، فكل مَنْ يدخل الحارة أو يتعامل مع أهلها أو يتواصل بأي شكل كان، فإنّه يُصاب بهذا العجز الجنسي.

أثناء رسم الشخصيات، يمكنك أن تعيش أجمل فترات الرواية، تلك التي يسرد فيها الغيطاني -كفرس جامح- كل الحكايات التي تلذ وتُمتِّع وتُضحِك وتُبكِي، عن شخصيات الحارة، التي يُطلقُ عليها في العادة «الفصل الأول»؛ كيف يبدأ يومهم؟ وكيف يستمر؟ ما هي أسباب مشاجراتهم وأحوالهم الاجتماعية والاقتصادية على مدار اليوم؟ يقدم لك كل هذا في طبق ممتع شهيّ تتمنى معه لو يستمر إلى يوم القيامة.

تطور الأحداث

تتطور الأحداث بفعل إجراءات يفرضها الشيخ على الحارة حتى تزول اللعنة (الطلسم)، ويُفاجئهم أنه صاحب الطلسم وصانعه، فلا فرار منه إلا إليه، ولا حاكم لأمرهم إلا هو، يبدأ عدد منهم في التمرد، فلا يكون للعاصي إلا الهلاك البطيء، كأن يُسخَط حجرًا أو حيوانًا، فيتلذذ الغيطاني برسم رعب هادئ غير معقول، وكأنه وجد ثغرة كـ «كعب أخيل» لينفذ سهمه منها، ليُطبِّق أفكاره الخاصة على شخصياته، ليلوي أذرعتهم ويجبرهم أن يسمعوا، يُشعِرك أنهم لو أغلقوا آذانهم وصبّوا بها إسمنتًا، سيُخلق لهم آذانٌ يسمعون بها ويعقلون.

وتلاحظ تناوله الساخر لسريان الأمر في الصحف المحلية والعالمية، وكتابته لنصوص تقارير الأجهزة البيروقراطية لتعرف فكرته عن «كيف تُدار الأمور أثناء الأزمات الحقيقية؟» من خلال طريقته في الرواية، ويُبرز تحييده الكامل لكل أدوار المؤسسات المسئولة عن حضور الدولة في الواقع المُعاش للحارة، لتكتفي هذه الأجهزة بالرصد والتحليل دون اقتراب خوفًا من «الطلسم».

السوداوية أم الملل؟

في بداية الفصل الأخير -ذروة الحبكة- قد تُصاب بالملل، لأنه حسب البنية القوالبية للرواية، فإنّ الفصل الأخير هو أوان ظهور الحل، لكن الغيطاني يُشعِل داخلك نار الإثارة ويشحذ كل مهاراته السردية ليحرق كل فحمه حتى لتكاد سفينته تغرق قبل نهاية الرحلة، فلا يوجد حل لهذا الطلسم، تضرب حالة من الجنون كل الحارة، فجأة تجد الحزن والموت والجنون والتشرد والهزيمة، لتشعر وكأنك تريد الفرار ليس فقط من الحارة بل من الرواية، وقد تلاقى ذلك مع جملة التحية التي اخترعها الشيخ لأهل الحارة، وهي «هذا زمن الفرار».

على الرغم من كون الأجواء الاجتماعية التي أنتج فيها روايته كانت النصر الذي هزّ النفسية المصرية عام 1973 وحلّق بها في آفاق الأمل، لكن الغيطاني في الحارة يجعلك تعتاد الجنون، فهو المصير الواقف على أبواب كل الشخصيات، يهرب الأبطال منه ليكتشفوا أنهم وقعوا في أسره بلا وعي.

لعل ما يُسلِّيك في نهاية الرواية ويجذبك كآخر عشر دقائق مباراة لكرة القدم، تصاعُد الأحداث عالميًا، حين يُقرِّر الشيخ نقل ذلك «الطلسم» المُعطِّل لآلة الجنس -التي تعد عند الغيطاني أهم وسائل إنتاج الحياة عمومًا والمتعة خصوصًا- عالميًا، ليضرب بها كل المدن الكبرى، حتى تتحقق مفاهيم العدالة والمساواة، وما هذه المأساة إلا طلقة الرصاص التي تُطلِق فوضى وشغب الآمال والأهواء البشرية، وختم الرواية بجملة: «لقد بدأ زمن الطلسم، ليتغير العالم».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.