بدأت الوجودية فلسفة مؤمنة تبحث في المطلق متجاوزة العالم المادي، ثم تطورت في مطلع القرن العشرين لتصبح فلسفة نافية للغيب بكل مسالكه، معتبرةً الأنا أساس العالم، الأساس المفكر والمنتج الأوحد للمعرفة، وما من أحد يختلف مع الوجوديين في أهلية العقل البشري، ولكن موطن الاختلاف هو ما سنناقشه في هذه المقالة، ولكن في الجانب الأخلاقي، نظرياً وعملياً.

لعل وجودية القرن العشرين من أهم المذاهب الفلسفية التي تستدعي الالتفات لا سيما في تنظيراتها الأخلاقية، لأن انعكاسات تلك التنظيرات أطّرت أدبيات القرن العشرين بمختلف إنتاجاته، سواء العلمية والروائية والفلسفية، أقصد تلك التي تنزع نفسها عن خيار التدين والإيمان، فتلك المؤلفات وإن لم تتعلق بالشق الأخلاقي في مواضيعها الرئيسية، إلا أنه ما من أحد يطّلع عليها ولا يشم رائحة الوجودية في ثناياها، ولهذا فإن إفرادها بالمناقشة ضرورة عند كل باحث، بمعزل عن المذاهب الأخرى التي تملك أطروحتها الأخلاقية الخاصة.

كما لا يجب إهمال الاختلاف بين مذاهب الوجوديين المعاصرين أنفسهم، كالفارق الكبير بين وجودية مارتن هايدغر وجان بول سارتر[1] على سبيل المثال، وهو اختلاف وصل إلى حد التشنيع، فهايدغر استنكر تفسير سارتر لفلسفته واتهمه بتحريفها وتوجيهها لمسلك لم يرده أبداً، وهذا يدل على أهمية الفصل بين تلك المذاهب، الأمر الذي يجعلنا نركز بالتحديد على تنظير وجوديين اثنين في هذه المقالة، جان بول سارتر وفريدريش نيتشه[2] دون هايدغر، لنتعرف على رؤاهم للأخلاق.

وجودية سارتر ونيتشه

من أبرز مظاهر وجودية جان بول سارتر، الاغترار بالواقع المادي الذي نعيشه واعتباره المطلق الذي لا يتعالى عليه شيء سوى الإنسان نفسه، وبحسب تعبيره الخاص فليس ثمة شيء أمامنا سوى الوجود وأي شيء آخر فهو عرضي ولا مبرر له بصورة مطلقة، ومن هذا المنطلق رفض سارتر أي تأسيس غيبي للقيم الأخلاقية، لأن الإنسان هو منْ يصنع واقعه، وهو الوحيد المطلق في الوجود، وفرض أي قوانين أخلاقية عليه يعني تقييد لحركته في فضاء الوجود، ونجد ذلك في صراحة من صراحات نيتشه المعتادة، عندما قال:

إن الأخلاق خاضعة لقانون (يجب عليك) و(لا يجب عليك) وهي طريقة لمقاومة الحياة والطبيعة، وما هي إلا بمجموعها ضد غرائز الحياة.

ويقول في موضع آخر:

إن الفضيلة يجب أن تكون من ابتكارنا نحن، كل واحد منّا يبني فضيلته الخاصة، ولا يمكن للأخلاق أن تقوم على أساس العقل وإلا لأصبح عقلي شيئاً آخر عن عقلك. [3]

هنا نلاحظ أن نيتشه يعتبر الأخلاق تجاوزاً على إرادة ووعي وحرية الإنسان، الذي هو يُقرِّر قيمه المطلقة، ممّا يعني أن هذا الإنسان عليه أن يلغي تلك القيم المفروضة عليه، مثل الصدق والكذب والإحسان والعدل، وهذا الكلام لا يبتعد في دلالته عمّا قرّره جان بول سارتر [4] في كتابه الأشهر على الإطلاق «الوجود والعدم» عندما قال:

الحرية هي الأساس الفريد للقيم، ولا شيء على الإطلاق يبرر اعتناقي لهذه القيمة أو لتلك، فأنا الموجود الذي توجد بواسطته القيم، وأنا أساس القيم التي لا أساس لها. [5]

ولهذا يشير بعض مؤرخي الفلسفة إلى أن نيتشه، وإن كان سابقاً في الترتيب الزماني عن سارتر، إلا أنه التمثيل الأكثر صراحةً لفلسفته، والأكثر وضوحاً وبعداً عن الألغاز الاصطلاحية.

أساس الشرعية الأخلاقية

من النصوص الماضية تتضح الرؤية العامة للأخلاق في المذهب الوجودي الحديث، فهو مذهب لا يحرص فقط على تقديم الإنسان معياراً لكل شيء، بل يفعل ذلك مع إلغاء أي معيار أخلاقي تماماً، وهذا هو سقف التطرف الأخلاقي الذي لن نجد من طال فيه عن الوجودية، لأن حتى قوانين البراغماتيين والماركسيين الأخلاقية هي مجرد قيود على الإنسان الحقيقي، فلا المنفعة التي وضعها ويليام جيمس تصلح معياراً هنا، ولا المصلحة الإنتاجية التي وضعها الماركسيون تقودنا لأخلاق حقيقية، فالوجودية ترى الإلغاء والنفي هو طريق الحق، عبر رفض جميع القيم الأخلاقية التي تلزم الإنسان بطريقة ما لترجيح فعل على آخر.

لهذا صرّح نيتشه بأن الإنسانية يجب أن تقوم على مبدأ وجود أخلاق للسادة وأخلاق للعبيد، وهذا الطريق الذي يقودنا إلى الإنسان المتفوق، فالواقع البشري البائس لا يمكنه أن يتعاطى مع المثل العقلية والأساطير التاريخية، وعليه يجب أن نتخلص منه بواسطة نموذج الإنسان «السوبرمان» الذي يفرض قيمه بلا مبالاة.

تفسير الوجوديين لوجود القيم

يقول نيتشه مُجيباً عن ذلك بأنها اختراعات عقلية، فقيم مثل الصدق والوفاء والإحسان والعدالة والمساواة ستكون اختراعية محضة إذا أفرد الإنسان حريته المطلقة مُتجاوزاً كل ما هو مطلق، ومن أجل ذلك فإن أصل النقاش مع الوجودية لا يجب أن ينطلق من الأخلاق، بل بالعودة إلى مناقشة رؤيتها عن أصل الوجود، وقد يستغرب القارئ عندما يعرف بأن الوجودية المحدثة لم تقدم اعتراضاً واحداً على الغيب سوى الإصرار على تفرد الإنسان بالوجود، وهنا نتساءل أيضاً: ما هي المآلات التي تترتب على ذلك؟

إلغاء الوجودية لهذا الهامش الكبير من الحياة، هو ما يجعلها عاجزة إلى يومنا هذا عن تقديم تصور لمجتمع سعيد كغيره من المجتمعات المتدينة أو حتى الإلحادية التي لا تؤمن بوجود الإله، والسبب الأول يعود إلى إلغائها أي رابطة إلزامية في أي صفة أخلاقية على البشر، وعلى الرغم من الأصل الباطل للمجتمعات البراغماتية، فإنها يمكن أن تصل لسعادة دنيوية، والأمر مثله بالنسبة للماركسية.

أمّا عند الوجوديين فالحياة بائسة والقلق مستمر على جميع الأصعدة، لأن الأخلاق وسيلة مادية لمسايرة الحياة والصبر إلى أن يفنى الإنسان ويتحول عدماً، ويأتي غيره ليمارس نفس الدور في حلقة طويلة مستمرة.

الحياة البائسة في أدبيات الوجوديين

الجواب يتمحور في جزئية عالم الوجودية الذي لا يكترث بالإنسان أبداً، فالإنسان كما ذكرنا بلا مستقبل، وطموحاته وإن كانت هائلة وكبيرة، ولكنها لن تجد طريقها للنجاح لا في الدنيا ولا في ما بعد الدنيا، حيث لا يوجد بعد الدنيا شيء، ولا شك أن ذلك كافٍ لسيطرة البؤس والقلق على حياة الإنسان الوجودي وجميع تصوراته التي تتعلق بالعالم وصيرورته، فهذا الإنسان لا يرى أمامه سوى الموت الذي ينهي كل آماله، ويحطم كل بناءاته وطموحاته.

هذا هو بالضبط ما تحدث عنه الوجودي «ألبير كامو» حينما قال إن الإنسان مفروض عليه الشعور بأن كل شيء عبث، فالعالم والإنسان والتاريخ، كل ذلك لا دواء له، وهذا من أكثر الاقتباسات المشهورة عن كامو، التي تصوّر جحيم التصور الوجودي للبشر وعالمهم المدمِّر لكيان الإنسان.

وجهة نظر الرؤية الدينية

تدعو الرؤية الدينية أولاً لأسس موضوعية لفهم الواقع الخارجي الذي يشترك فيه الجميع، وفهم العالم وحقائقه مثلما هو، ومن ثَمَّ إثبات خالق صانع مختار وعالم ومريد، يُعنى بالإنسان وبمستقبله ويرعى حركته ويحقق آماله بواسطة ما أنزله من وحي وشرع ورؤى تجاه كل قضايا الوجود، ومنها قضايا البؤس والشرور وكافة المعوقات الحياتية.

ثم إن الهدف من تشريع الدين ليس تقييد الإنسان، بل مدّه بمجموعة من القواعد التي تُحدِث توازناً بين قلقه وأمله، ليكون هذا القلق دافعاً أمام ما سيواجهه من معوقات، وذلك بواسطة تواصل الإنسان مع الله والالتزام بهذه القيم المطلقة، ليزيل تواصله مع ربه ما يتصوره من صور ذهنية قاصرة عمّا يسميه بالمعاناة والشرور وحالات البؤس، وهذا التواصل هو نافذة النجاة أمام كل إنسان، فهذه النافذة ما سيرفع الألم عن صدره، ويزيل الشك عنه، ويمنحه الحرية الحقيقية المنشودة.

في الوقت الذي رأت الوجودية حل النفي هو ما سيخرج الإنسان من دائرة الوهم نحو الحقيقة، جاءت الرؤية الدينية لتثبت أن الإيمان هو سبيل الحرية الحقيقي، لأن القيمة الفعلية لتلك الحرية إنما تتأتى بكشف غوامض الوجود، لا البقاء العاجز في متاهاتها.

المراجع
  1. جان بول سارتر (1905-1980م) فيلسوف وأديب فرنسي، ينتسب للمذهب الوجودي، نادى بتمجيد الفعل كمبدأ رئيسي للوجودية، وقال إن الإنسان لا يوجد إلا بقدر ما يحقق نفسه، وليس في الوجود شيء إلا مجموع أفعاله، كما قال بأن الإنسان هو من يصمم إمكانياته وغاياته وليس ثمة مشرّع إلا هو، الأمر الذي يحتم عليه أن يتحرك لينقذ نفسه بنفسه من الماضي والحاضر وإلا لتحجّر. موسوعة الفلسفة للدكتور عبدالرحمن بدوي، ج1 ص563، إصدار: المؤسسة العربية للدراسات والنشر (الطبعة الأولى).
  2. فريدريش نيتشه (1844-1900م) فيلسوف ألماني، كان يرى أن الإنسانية تعيش على عبادة أصنام، وهي أصنام الأخلاق والسياسة والفلسفة، ورأى أن مشروعه يجب أن يرتكز على تحطيم هذه الأصنام الذي يزعم عدم جدواها في سبيل تحقيق فلسفة القوة التي هي الأصلح للبقاء البشري. – موسوعة الفلسفة للدكتور عبدالرحمن بدوي، ج2 ص805، إصدار: المؤسسة العربية للدراسات والنشر (الطبعة الأولى).
  3. أقدم لك نيتشه، لورانس جين وكيتي شين، (ترجمة: إمام عبدالفتاح) ص37، إصدار: المجلس الأعلى للثقافة بجمهورية مصر العربية (الطبعة الأولى).
  4. بالرغم من تباين فلسفة نيتشه عن سارتر في الفروع التي تتعلق بمدى انطلاق الإنسان في بحر الوجود وصلاحيات قوته، إلا أنهما يشتركان في تشريع الطغيان البشري على جميع القيم، وهو من يملك الحق وحده في قمع الدين والميتافزيقيا.
  5. الوجود والعدم: بحث في الأنطولوجيا الظاهراتية، جان بول سارتر، (ترجمة: د. عبدالرحمن بدوي) ص72، إصدار: منشورات دار الأدب (الطبعة الأولى).

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.