لاَ بِقَوْمِي شَرُفْتُ بَلْ شَرُفُوا بِي … وَبِنَفْسِي فَخَرْتُ لاَ بِجُدُودِي وبهم فخـر كل من نطق الضا … دَ وعوذ الجاني وغوث الطريد

بهذه الأبيات تغنى «المتنبي» باللغة العربية وبكُنيتها التاريخية «صاحبة الضاد»، وهو اللقب الذي عُرفت به منذ قرون، ولطالما تفاخر به أهلها وأدباؤها، فها هو شوقي يقول:

إن الذي ملأ اللغات محاسنًا … جعل الجمال وسره في الضاد

فينضم إليه «فخري البارودي» ويقول: بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان … لسان الضاد يجمعنا بعدنان وقحطان.

اللغة «العربية» لا لغة ضاد ولا لغة صاد ولا يحزنون، وأن المتابعة المُدققة للغات كالفرنسية والنيبالية والألبانية كشفت أن جميعها تحوي «ضادًا» أيضًا.

ولشد ما يؤسفني أن أعطل هؤلاء العِظام عن فنهم حين أصدمهم وأقول أن «العربية» لا لغة ضاد ولا لغة صاد ولا يحزنون، وأن المتابعة المُدققة للغات كالفرنسية والنيبالية والألبانية كشفت أن جميعها تحوي «ضادًا» أيضًا.

ربما تكون الصدمة الأكبر من نصيب هؤلاء الذين هبطوا باللقب من أبيات الشعراء الفحول، إلى أغلفة مذكرات مُدرِّسي الدروس الخصوصية في اللغة العربية، والتي وصف عليها أحدهم نفسه بأنه «غُول الضاد».

ومن نصيب الشخص الذي أراد التباهي بعلومه الصرفية والنحوية فتلقب بـ«ابن الضاد» على (فيسبوك)، ولكل طالب ينتمي إلى جيل الثمانينيات امتحن اللغة العربية في ورقة ذُيّلت بعبارة «مع خالص تمنياتنا بالتوفيق لأبناء الضاد».

نتيجة لكثرة الفتوحات وتمدد الأمة الإسلامية وانضواء أجناس أخرى غير العرب تحت عباءتهم، كانت هناك حاجة ماسة لشرح كافة تفاصيل اللغة شرحًا وافيًا، لأن المسلمين الجُدد لا يُحسنون نصبًا ولا رفعًا ولا يعرفون كيف ينطقون كلمة عربية واحدة، ولو تُركوا لسليقتهم ما وقرت آيات القرآن ولا علوم الفقه في قلوبهم.

وهو ما دفع «سيبويه والخليل» وغيرهم لإفراد المؤلفات التي تُعنى بكل حروف اللغة، وتشرح تفصيليًا كيفية نطقها، وهو ما نفعنا بشدة في طرح قضيتنا هذه، لأنهم حين وصفوا كيفية نُطق الضّاد قالوا عنها إنها «مجهورة، رخوة، مستعلية، مطبقة، مستطيلة».

مزيج من الظاء واللام (ظْ لْ)، تخرج من حافة الفم وما يحاذيها من أضراس النواجذ»؛ وهو الوصف الذي لا ينطبق على (ضادنا) أبدًا، والتي يعتبرها كثيرون دالًا (د) مفخمة ليس إلا، استُبدلت محل الأولى لصعوبة نطقها التي وصفها الإمام شريح بأنها «أعظم وأشق على القارئ».

بمعنى آخر أكثر بساطة إن الضاد التي تغنى بها المتنبي والأقدمون وتلقبت بها العربية في الشعر والأدب هي (ظْ لْ) وليست (د) مفخمة. التفكير المنطقي يجعلني بداهةً أرفض لقب «لغة الضاد» من أول لحظة تفكير.

فعندما يُقال إن لغة العرب أهل له لأنها الوحيدة التي احتوت بين حروفها على حرف الضاد دونًا عن غيرها من كلام العجم -وهو قولٌ لم أعثر أبدًا على صاحبه-، فهو مصطلح لا يستقيم أبدًا إلا إذا أقرَّ علماء اللغة أنهم مروا على جميع بلاد الأرض من أقصاها إلى أقصاها، وحفظوا عن سُكَّانها لغاتهم بلهجاتها ولكناتها المختلفة وفحصوها ومحصوها جميعًا حتى تأكدوا من خلوها من ضاد العربية.

عندها عليهم جميعًا أن يُعلنوا بقلبٍ مستريح أنها هي «أميرة لغات الأرض» على هذا الحرف، وهو أمر مستحيل لم يحدث ولن يحدث، وهي وجهة نظر دعمتها حديثًا «د. سلوى ناظم» في بحثٍ علمي عرضته في المؤتمر الـ65 للغة العربية حينما أكدت أن اللغة الحبشية القديمة كانت تحوي حرف «ضاد» أيضًا؛ داعيةً إلى تحويل لقب العربية من «لغة الضاد» إلى «لغة الظاء».

بينما نادى بذلك قديمًا «دريد» حينما قال:

إن الضاد غير معدومة في لسان غير العرب»؛ وهو رأيٌ أيده فيه «ابن جني، وابن فارس، وابن منظور». أما الحديث الشريف «أنا أفصح مَن نطق بالضاد» الذي استند إليه البعض في منطقة هذه المقولة فإن معظم علماء الحديث ضعَّفوه واعتبروه «لا أصل له».

يرجع السبب على الأرجح؛ إلى تسمية «العربية» بلغة الضاد بهذا اللقب، جاء من بعض المستشرقين الذين درسوا اللغة العربية، وعجزوا عن نطق هذا الحرف الصعب فوسموا اللغة به تمييزًا لها.

أغلب الظن أن هذه التسمية جاءت من بعض المستشرقين الذين درسوا اللغة العربية دراسة وافية، وعجزوا عن نطق هذا الحرف الصعب، فوسموا اللغة به تمييزًا لها.

فها هو «برجشتراسر» يصفه بأنه «حرف غريب جدًا، ولا يوجد عند أحد من العرب الآن لأنه كان يستلزم مهارة غير عادية في الفم، لأن مَخرجها كان حافة اللسان من جانب أو واحد أو اثنين.

بينما يعتبره «هنري فليش» صوت مفخم كان يجمع الظاء واللام في ظاهرة واحدة، ولكنه اختفى ولم يعد موجودًا. ومن ناحية نُطْق هذا الحرف المُطلسم اختلف معهما الدكتور «إبراهيم أنيس»، الذي اعتبر أن النطق الصحيح للضاد القديمة كان ممتزجًا مع الظاء (ضْ ظْ)، مؤكدًا أن نفرًا من أهل العراق وتونس لا يزالون حتى الآن ينطقونه بالشكل الصحيح.

ويبدو أن نطق الضاد القديمة كان بالغ الصعوبة للدرجة التي فرَّقت اللسان العربي الفصيح نفسه عليها. فبعض كتب التاريخ تحكي لنا واقعة «عمر بن الخطاب» مع رجلٍ قال له: يا أميـر المؤمنين أيضحى بضبي؟ قال: وما عليك لو قلت: بظبي؟!

قـال: إنها لغة. فردّ عليه الخطاب: انقطع العتـاب ولا يُضحى بشيء من الوحـش. بالإضافة إلى تأكيد «مكي» في كتاب «الكشف» أنه توجد قراءة للقرآن متصلة لـ«ابن كثير، والكسائي» عن الرسول الكريم نُطقت فيها كلمة «ضنين» في سورة التكوير «ظنين».

وخلاف ذلك ما يذهب إليه «الزمخشري» عندما ذكر في كتابه «المفصل» أن بعض العرب تقول: «الطجع» بدلاً من «اضطجع» مستبدلة الضاد باللام. وخلاصة ذلك أن المخرج الصوتي (الحقيقي) للضاد كان شديد الوعورة على اللسان فتباين فيه العرب أنفسهم، لذا كان طبيعيًا أن تلقى أفواج الإسلام الجديدة نفس المعاناة فصاغه كلٌّ على هواه.

حيث نرى أن المصريون نطقوه (دالًا) مفخمة، ونطقه غيرهم (لامًا) مطبقة وغيرهم (ظاءً) واضحة، وتخلى عنه الجميع حتى قرّاء القرآن؛ فعدَّه مخضرمو اللغة خطأ لا يُغتفر، وتحريفًا للكلِم عن مواضعه ولحنًا واضحًا في أسفار الله يستوجب التصحيح والاعتراف بالزلل.

لهذا علينا أن نبدأ أولًا بأنفسنا، وأن نكفَّ فورًا عن أوهام تفاخر واهية ليست لنا، وعندما يتباهي أمامك أحدهم قائلا: «أنا ابن الضاد» أجبه واثقًا: «محصلش»!.