في رواية «معزوفة العطش» الصادرة عن عالم الأدب للترجمة والنشر (معرض القاهرة الدولي للكتاب: صالة 2 – A35)، ينتقل بنا الكاتب مهاب السعيد عبر عالم متخيل يحلم البعض بأن يستيقظوا ليجدوا أنفسهم فيه، ويبدأ بصورة أدبية سلسلة كما جرت العادة في كتابات مهاب السعيد السابقة التنقل عبر واقع محير جدير بالنظر في حقيقته بعيداً عن التصورات المتُخيلة.

نيرال.. أسرعي.. بدأ الناس يستيقظون.

تبدأ الحكاية مع نيرال.. فتاة لا تخبرنا التفاصيل عن سنها أو هيئتها أو رفقائها الذين تأخرت عنهم في السير بسبب ما رأته في الطريق.. ينتهي الفصل وتستمر الأحداث وتتلبسنا حالة من الحيرة والتساؤل عن حقيقة ذلك العالم الذي يبدو لنا وللحظة الأولى أنه مخيف أكثر مما نتوقع، وأن نيرال المجهولة منطلقة إلى مصير مجهول، ولن نتوقف عن السير عبر الصفحات التالية حتى نعرف إلى أين ذهبت.

تطرح «معزوفة العطش» فرضية جديدة تماماً، تشكل النقيض الكامل لحالة الواقع المعاصر، فالمجتمعات المعاصرة وعلى كافة اختلافاتها وأزماتها، يتخذ العامة فيها بصورة ثابتة الجانب العقائدي والديني كمرجع أساسي للتعامل مع الآخر والقبول والرفض وإصدار الأحكام، وعلى كل تلك الملاحظات والأحكام التي يمكن إصدارها على ذلك النموذج، فقد انطلقت الرواية نحو منحى مغاير تماماً، يصبح فيه المنظور العلمي البحث الخالي من أي معتقد ديني أو عقائدي هو السائد وتتغير العقيدة المجتمعية بصورة كاملة إلى «الكيمتية».

تتحرك بنا الرواية عبر منظور فانتازي ربما يمكن تصنيفه جزءاً من المستقبل، العام 2050 مثلاً إذا جرى اعتبار تلك فرضية تقوم عليها الرواية، الكيمتيون هم الغالبية العظمى من الناس، ويداهمنا من حين لآخر ظهور «المتشيئين» وهم دون أي تفاصيل فرعية لا نعرف عن تصرفاتهم في الرواية عند بدايتها سوى أنهم يرتدون زياً مميزاً كعباءة بيضاء تتخللها خيوط خضراء، يعرف الناس بمجرد رؤيتها أنهم المتشيئون، وتأتي بعدها صرخة الفزع.

بمجرد الوصول إلى الفصل الأول تداهمنا الكارثة، حادثة انتحار جماعي مخيف من فوق أحد المعالم الشهيرة في المدينة، يجتمع الناس حول ضحاياها ويتأسفون عليهم، ثم سريعاً ما يتكشف لهم أن الضحايا هم المتشيئون، فتبدأ الجموع في الانصراف وإطلاق الجمل الساخطة تجاه الضحايا.

عالم بلا تابوهات!

تنتقل بنا القصة إلى منعطف تًستكمل به الدائرة، تابوهات عالم الكيمت الجديد، حيث يظهر البروفيسور الشهير تومان نيقه وهو يستعرض مشروعه العلمي الاستكشافي على سلطات بلاده لاستكشاف ما إن كان العالم حقاً له حافة ينتهي عندها أم أن هناك عالماً آخر أكثر اتساعاً وتطوراً من الدائرة المغلقة التي يحياها البشر ويصدقونها، وهو ما يُقابل بالسخرية والتعجب وأزمة نقص التمويل.

في ذلك الجزء من الرواية يتبدى لنا جانب مهم يطرحه الكاتب، يتعلق في المقام الأول بالمفاهيم المجتمعية المرتبطة بالأيديولوجيات والعقائد بوجه عام، ففي اللحظة التي يمكن أن يعيب فيها اللادينيون على سبيل المثال على النموذج الديني إيمانه بأمور غيبية نابعة من النصوص العقائدية والدينية، فالنموذج المخالف هنا – اللاديني – يمتلك من التابوهات الغيبية ما يمتلئ بالخرافة كما جاء سياق الحديث بين البروفيسور نيقه وكالينا مساعدة المسئول الشهير التي تؤمن بأن «سولي تراك» هو الوحيد الذي استطاع الوصول إلى حافة العالم وأثبت أنها النهاية ولا شيء بعدها، وينشأ الخلاف هنا بين البروفيسور نيقه الذي يرى أن «سولي تراك» خرافة وبين كالينا التي حتى وإن حاول مديرها تحويل الأمر إلى مزحة، لا تستطيع إخفاء إيمانها واعتقادها بأسطورة سولي تراك.

جرعة مكثفة من دراما الغموض

تلك الحادثة الغامضة التي هاجمت الرواية في بدايتها كانت كفيلة بأن تفتح بوابة للعديد من التساؤلات، فانتحار مجموعة من البشر بشكل مفاجئ أمام الجميع، كفيلة بطرح الأسئلة والبحث عن أجوبة، خاصة وأن الفصول التالية لا تحمل لنا أي خبر واضح عن نيرال.. تلك المسكينة التي انتابها الكثير من الألم وذرفت الكثير من الدموع، دون أن نعرف كيف بدأت الرحلة بالنسبة لها وكيف انتهت.

تتعمق القصة بشكل أكبر لتصل بنا إلى نقطة التحول الأكبر في تفكير البشر تبعاً لعقيدتهم الجديدة، فقدان الروح والمعنى.. ذلك الذي ستقابله بوضوح في مصنع ليبتنس، يتساوى كافة البشر هناك باعتبارهم «أشياء»، مجرد قطع مادية تقوم بمهام محددة، وحينما يصل الأمر بها إلى نقطة انعدام الإنتاج والكفاءة ويتحول الوجود في حد ذاته إلى ثِقل وعبء وتكلفة، تظهر طريقة جديدة للتخلص من تلك الأشياء.. ستخبرنا الرواية في البداية أن ذلك المصنع العملاق يوفر على أصحاب تلك المعاناة الدخول في مزيد من الأزمات ويحرق أجسادهم بعد القيام بعدة عمليات محددة، لكننا لن نفهم في البداية الغرض الحقيقي من ذلك، وهو ما ستكشفه الأحداث بالضرورة.

لذا يمكننا القول: إن الرواية سحبت خيطاً من منتصف الطريق، خيط مجهول من بين العديد من الخيوط، لن نعرف إن كنا في منتصف الحكاية أم في نهايتها، كل ما نعرفه أن الخيوط تبدأ في التجمع تباعاً مع امتداد الكثير من الأنسجة الجانبية، وربما لن يمر الكثير من الوقت حتى يكتمل ذلك النسيج ونرى لوحة كاملة تحمل الكثير من الإجابات والمعاني التي أراد الكاتب أن يقدمها في النهاية بصورتها الأقرب للقلوب، والأكثر تقبلاً وبحثاً بالنسبة للجميع.. الدراما في صورتها الروائية الغامضة التي تدفع للتساؤل وتسحب محبها وقارئها إلى مسار يبحث فيه عن الحقيقة.

وبقدر ما يمكن أن تحمل الرواية العديد من الأفكار المهمة التي تستحق البحث، فسيجد القارئ نفسه في مسارين.. كل منهم للبحث عن إجابة ما، إجابة عقائدية تحملها الأحداث والشخوص والمفاجآت، وإجابة درامية لمعرفة كيف ستتغير الأحداث في منظور أبطال الرواية، وذلك النوع الثري من الروايات لهو جدير بالقراءة والفحص والتنقيب لاستخراج مضمونه الحقيقي الكامل.