ما يقرب من الترليون دولار! هذا هو حجم مبيعات سوق الدواء في العالم. تستحوذ الشركات الأمريكية على 30% منها، والشركات الأوروبية على 30%، واليابانية على 21%، أما الباقي فموزع على بقية دول العالم.

بعد نظرة سريعة على هذا الرقم، يتبادر إلى الذهن تساؤل رئيسي يتعلق بكيفية وصول حجم المبيعات إلى هذا الرقم؟ يتعلق الأمر بالطبع بظهور التقنيات الحديثة لصناعات الأدوية، والمنافسة الشرسة بين شركات الأدوية، وعمليات التسويق لمنتجاتها، لكن الواقع يشير إلى أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل يمتد إلى حد اختراع الداء نفسه إن لزم الأمر.

قبل التطرق إلى كيفية اختراع الداء نفسه، لنفترض أولًا أنك اخترعت أداة جديدة وترغب في تصنيعها وبيعها، لكن المشكلة الوحيدة التي تواجهك هي أنها غير ضرورية، لا أحد يحتاجها، كيف يمكنك تصنيعها والكسب من ورائها؟

يعتمد الأمر ببساطة على مدى قدرتك على إقناع الناس بحاجتهم إلى تلك الأداة، عليك خلق هذه الحاجة. ورغم أن هذا سلوك لا أخلاقي، فإنه المنطق الذي تنطلق منه شركات الأدوية وتفرضه علينا، فهذه الشركات تخلق وتطور أدوية قد لا نكون بحاجة إليها، لكنها تخلق هذه الحاجة، فتجعلنا نحن من نقبل على شرائها بل نتهافت عليها أيضًا.

أوجدنا الدواء، هيا نبحث عن داء يناسبه!

الداء قبل الدواء.. هذا منطق كثير من شركات الأدوية العالمية، فبدلًا من العمل على إيجاد دواء يعالج مرض معين، تجدها تعمل عكس ذلك، فتقوم في كثير من الأحيان بتطوير العقار أولًا، ثم تخترع مرضًا يمكن لذلك العقار معالجته.

قد يبدوا الأمر غريبًا بعض الشيء، لكنه واقع كثير من شركات الأدوية، وهو أيضًا الواقع الذي دفع إلى ظهور العديد من الدراسات والكتابات التي سعت لتقديم صورة أكثر وضوحًا لعمليات هذه الشركات، والتي عرفت في بعض الأحيان بـالترويج للمرض، وفي أحيان أخرى بـالبناء المؤسسي للمرض، وأحيان ثالثة بـاختراع المرض.

أشهر هذه الكتابات كتاب «الترويج للأمراض: كيف يجعلك الأطباء وشركات الأدوية وشركات التأمين تشعر بالمرض»، الصادر عام 1992 للصحفية الطبية لين باير. من خلاله عرفت باير عملية الترويج للأمراض بأنها «محاولة إقناع الناس بأنهم مرضى، أو إقناع المرضى قليلًا بأنهم مرضى للغاية».

جاء من بعدها كل من راي موينيهان وإيونا هيث وديفيد هنري –أطباء وكتاب في المجلة الطبية البريطانية- ليطلقوا على هذه الاستراتيجية البناء المؤسسي للمرض ويؤكدوا أن هدفها الربح وجني الكثير من الأموال من خلال إخبار الأصحاء بأنهم مرضى وإقناعهم بذلك.

الترويج للأمراض أو اختراعها هنا بمثابة عملية توسيع الحدود التي تحدد المرض الطبي لتوسيع الأسواق لمن يقدمون العلاجات ويبيعونها. هذه العملية تتخذ العديد من الأشكال، من قبيل تصوير المشاكل الخفيفة على أنها أمراض شديدة، وبناء فئات جديدة كاملة من الأمراض الطبية.

طبقًا لهذه الاستراتيجية، تختلق بعض شركات الأدوية الأمراض، عبر إشاعة المخاوف من أمراض غير موجودة ومحاولة إقناع المريض بوجود علل ليست فيه إلى أن يتوهم وجودها، أو الترويج إلى وجود أعداد كبيرة من السكان يعانون من المرض.

لكي يحدث هذا، فالفرق البحثية التابعة لشركات الأدوية عادة ما تطور أدوية لها مجموعة من الآثار الفسيولوجية، ثم يبدأ قسم التسويق بمحاولة لإيجاد أمراض تناسب هذه الأدوية. وبمجرد حصول تلك الأمراض على درجة معقولة من الشرعية الثقافية بين الناس والتي تتم من خلال إشاعة المخاوف بشأنها، تختفي الحاجة لإقناع أي شخص بضرورة الحصول على أدوية تلك الأمراض، والتي يحصل عليها الشخص معتقداً أنه اشتراها دون أن يجبره أحد على ذلك، وهذا نظريًّا صحيح، لأنه في نهاية المطاف، لم تطرق الشركة المصنعة للأدوية بابه، بل هو من فعل.

حدث بالفعل: أمراض أوجدتها شركات الأدوية

بالفعل جربت هذه الاستراتيجية من قبل عديد من شركات الأدوية، وفي كثير من المنتجات والأدوية التي ما زلنا نعتقد أنها تعالج أمراضًا نعاني منها، رغم أنها ليست كذلك. وحققت الشركات أرباحًا لا يمكن تصديقها، فمقابل كل دولار أنفقته البيج فارما على الإعلان والترويج للمرض بين المستهلكين مباشرة، حققت مبيعات بقيمة 4.2 دولار تقريبًا.

لقد اختلقت الشركات أمراضًا وأشاعت المخاوف منها بيننا، وكان في مقدمتها أمراض مثل:

1. الاكتئاب: ذلك المرض الذي حاولت شركة ميرك آند كو وضع استراتيجية لنشره عقب اختراعها مضادًّا جديدًا له سمته أميتريبتيلين. كان ذلك في الستينيات، وفي ذلك الوقت كان الاكتئاب الإكلينيكي يعتبر حالة نادرة، رأت الشركة أن عقارها لن يحقق الأرباح التي تسعى إليها، فسعت للوصول لتلك الأرباح بأي طريقة ممكنة.

زيادة وتيرة التشخيص بالمرض.. كانت هذه هي الفكرة التي قفزت في رأس إدارة الشركة، وفي محاولة تنفيذها اشترت الشركة 50 ألف نسخة من كتاب فرانك أيد المسمى بـ«المريض المكتئب»، ووزعتها مجانًا على جميع الأطباء النفسيين في الولايات المتحدة.

نتيجة لذلك، راحت كلمة أميتريبتيلين تغزو روشتات الأطباء النفسيين. وعلى الرغم من حقيقة أن مضادات اكتئاب مشابهة كانت متاحة في ذلك الوقت –مثل إيميبرامين المتاح بالسوق منذ منتصف الخمسينيات– إلا أن الشركة نجحت من خلال حملاتها التسويقية في ربط نفسها بعلاج ذلك المرض في لا وعي المريض.

2. رائحة الفم الكريهة: عرض سعت شركة لامبرت فارماكال لتضخيمه ونشره بين الناس على أنه مرض يؤثر على حياة الفرد لتسويق منتجها الليسترين الذي تم اختراعه عام 1879 كمطهر جراحي. بحلول العشرينيات من القرن الماضي رأت الشركة أنها تمتلك علاجًا لكن أرباحه غير مجدية، وجدت أنه لزيادة هذه الأرباح يجب إيجاد مرض يعالجه هذا الدواء، وبالفعل أوجدته (رائحة الفم الكريهة).

قبل ذلك الوقت كانت رائحة الفم الكريهة عبارة طبية غامضة لم يسمعها أحد تقريبًا. ولكن الشركة بدأت في التسويق لليسترين كعلاج لتلك الحالة، لم تقم بذلك بشكل مباشر، بل ركزت على تأثير رائحة الفم الكريهة على فرص أي شخص في النجاح في الزواج والعمل، ومن خلال إنشاء إعلانات تجارية تشبه المسلسلات، أدرك أغلب الشعب الأمريكي فجأة معاناته من رائحة الفم الكريهة، وتحول الليسترين إلى علاج مرغوب فيه لمرض لم يكن موجودًا من قبل.

3. الاضطراب الجنسي النسائي: كانت هذه طريقة أخرى لشركات الأدوية حاولت بها إقناع الأمريكيين بأن 43% من نسائهم مصابات باضطرابات جنسية نفسية. لكن هذه المحاولة قوبلت بانتقادات واتهامات عديدة من بينها اتهام وجهته سابقًا واحدة من أشهر الدوريات وهي الدورية الطبية البريطانية (British Medical Journal)، حين اتهمت شركات الأدوية بتجميع أعراض لا علاقة لبعضها ببعض، وتحويلها إلى مرض جديد، أصبحت تطلق عليه الاضطراب الجنسي النسائي.

4. هشاشة العظام: أحد أعراض الخطر الذي يمكن التغلب عليه من خلال النظام الغذائي الصحي، لكن شركات الأدوية لا ترى كذلك، بل تعتبره مرضًا يستلزم إيجاد علاج مناسب ويحقق الأرباح في الوقت نفسه. كان هذا بالضبط الذي فعلته شركة ميرك لترويج منتجها فوساماكس الذي لم يجد سوقًا مربحة له. فمن خلال الضغط المكثف والتلاعب بالمؤسسة الطبية، روجت تلك الشركة وغيرها لهشاشة العظام على أنه مرض وترسخ بالفعل في أذهاننا هذا الاعتقاد.

على هذا المسار سارت مختلف شركات الأدوية العملاقة فتم تصوير الصلع كمرض ومشكلة طبية لبيع دواء يسمى فيناسترايد، ومتلازمة القولون العصبي للمساعدة في بيع دواء يسمى الوسيترون، وضعف الانتصاب من أجل زيادة مبيعات الفياجرا، وغيرها الكثير من الأعراض التي تحولت من عوامل خطر إلى مرض خطير، يتطلب العلاج بأدوية باهظة الثمن.

المسئولية لا تتحملها الشركات وحدها

الحقيقة أنه ليس فقط شركات الأدوية هي التي لها دور في خلق أمراض جديدة، فجزء من المسئولية يتحمله بعض الأطباء الذين يشخصون الاضطراب ويصفون الدواء. فهناك ما يشبه التحالفات غير الرسمية بين بعض الأطباء وشركات الأدوية، تقوم من خلالها الأخيرة بالترويج لمنتجاتها بين الأطباء الذين يتحيزون بدورهم لهذه المنتجات عندما يكتبون علاج المرضى، وذلك مقابل المزايا التي يحصلون عليه والتي تكون أحيانًا مزايا مالية أو هدايا.

طبقًا للدراسات التي أجرتها جامعة كوينزلاند في برزبن بأستراليا، والتي شملت عدة دول، ثبت أن المعلومات التي تقدمها شركات الدواء أثرت بالفعل على قرارات الأطباء، ولكن ليس بالضرورة بشكل إيجابي. الأمر نفسه نقلته دورية المكتبة العامة بيالاواس في الولايات المتحدة، موضحة أن 38 دراسة من دراسات جامعة كوينزلاند أثبتت أن التعرض لمعلومات شركات الدواء أدى إلى تكرار وصف أدويتها للمرضى بشكل أكبر.

ووفقًا لما أشارت إليه نيكول فان غرونينغن، وهي اختصاصية باطنية في جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، فإن الصناعة الدوائية أنفقت عام 2012 ما مجموعه 24 مليار دولار لترويج أدويتها الجديدة بين مقدمي الرعاية الصحية، وهو مبلغ أكبر 8 أضعاف مما أنفقته لترويجها بين جمهور المستهلكين.

لكن لا يعني ذلك أن الطبيب يصف دواءً خطأ بل أغلى، فبدلًا من أن يصف للمريض دواءً لا يحمل علامة تجارية فإنه يصف الدواء نفسه ذا العلامة التجارية، والذي يكون سعره أضعاف الدواء المشابه، مع أن كليهما له المفعول نفسه.

إذا كان ذلك أمرًا بسيطًا أو يمكن اعتباره على نطاق ضيق، فهناك نطاق أوسع تنسج من خلاله كبرى شركات الأدوية العالمية علاقات أوسع مع الأطباء عبر حملات كبيرة تستعين خلالها بقطاع العلاقات العامة.

لزيادة الأمر وضوحًا، يمكننا التطرق سريعًا إلى ما يسمى باضطراب القلق الاجتماعي، فهذا المصطلح يشير بشكل أساسي إلى الخجل الذي يسيطر على أعداد ليست قليلة من البشر في مراحل عمرية مختلفة، خاصة في سن المراهقة، حيث يظهر مثلًا خوف من التحدث أو تناول الطعام أمام الآخرين.

 للوهلة الأولى يبدو هذا بالنسبة للأغلبية وضعًا طبيعيًّا ومفهومًا، لكن شركات الأدوية ومن بينها شركة جلاكسو سميث كلاين لا تأخذ بهذا الرأي، بل حولت الخجل إلى مرض ورأت أنه يعاني منه 80% من البشر في فترة ما في حياتهم.

اقرأ أيضًا: مافيا الدواء وأعراضها الجانبية: خداع دعائي وتزوير علمي

بالنسبة إلى هذه الشركات، كان تشخيص أي إنسان بهذا المرض يؤهله تلقائيًّا للحصول على مضاد الاكتئاب. وانطلاقًا من هذا بدأت شركة جلاكسو المنتجة لعقار باكسيل (مضاد الاكتئاب) في الترويج للمرض، عبر استئجار شركة علاقات عامة، لإدارة حملة تهدف إلى إقناع أكبر عدد ممكن الأشخاص بأنه قد يكون لديهم حساسية تجاه التعامل مع الناس.

بدورها قامت شركة العلاقات العامة بالتعاقد مع الأطباء النفسيين الأكاديميين الذي عقدوا مئات المحاضرات التي كان جل تركيزهم فيها هو اضطراب القلق الاجتماعي. قبل اعتماد بايكسل من قبل إدارة الغذاء والدواء، كان هناك نحو 50 مرجعًا فقط حول هذا التشخيص، ولكن بفضل حملة العلاقات العامة التي أُطلقت عام 1999، أصبح هناك أكثر من مليار مرجع. وفي غضون عامين فقط أصبح باكسيل سابع أكثر الأدوية ربحية في الولايات المتحدة، وأصبح اضطراب القلق الاجتماعي ثالث أكثر الأمراض العقلية شيوعًا في العالم.

ختامًا، طبقًا لهذا ولمنطق شركات الأدوية في التعامل مع المرض، يبدو واضحًا أن صناعة الأدوية كغيرها من الصناعات تخضع لمنطق الربح، والسيطرة المطلقة من تلك شركات العالمية، والتي تسعى لتعظيم أرباحها بكل الوسائل الممكنة، حتى إذا كانت هذه الوسيلة هي إيجاد الدواء واختراع الداء المناسب له.