وفي يومٍ ما، وصل متأخرًا للصلاة، فأفسح له المصلون كي يتسنى له الوصول للمحراب، وعند وصوله التفت إليهم وقال: «هكذا تصنعون طواغيتكم».

عن الفيلسوف المجاهد «علي عزت بيجوفيتش» رحمه الله، الذي قال فيه الراحل «عبد الوهاب المسيري»:

يكاد بيجوفيتش أن يكون المجاهد المجتهد الوحيد في العالم الآن، وبلا شك، كلنا نجاهد ونجتهد، ولكن أن تكون رئيس دولة وتقف في وجه الحضارة الغربية بأسرها، فهذا لا نراه كل يوم، فهو يحمل صيغة فريدة في ذاته.

ستلحظ في هذا المقال أنني سأردد اسمه كثيرًا، فحتى اسمه له وقع خاص عند سماعه وكتابته، هذا الرجل لديه قدرة عجيبة لم أرها في أي كاتب أو فيلسوف، أهتز في حضرته، فهو يستطيع من خلال كتاباته أن يحرك عواطفك وعقلك في نفس اللحظة، ولن يطغى أحدهما على الآخر، وسيعملان في حضرته بالتوازي، فهو الذي قال في كتابه «هروبي إلى الحرية»:

عقلي يفكر على الدوام، ولكن قلبي مطمئن بالإيمان

كان أول ما قرأت له هو كتاب «الإسلام بين الشرق والغرب»، ثم انتقلت إلى «هروبي إلى الحرية»؛ الأمر الذي أدى في النهاية إلى أن أهرب إلى الرجل نفسه! أهرب إلى الحرية متتبعًا خطاه. فلنستهل الآن إذن ببعض من أفكاره، وكبداية مع خطابه، فقد كان خطابًا يدعو فيه للإسلام ولا يدافع عنه، وقد سلك طريق تفتيت المادية الحسية بشراسة شديدة في دعوته هذه، ولهذا قال المسيري عنه إنه وقف في وجه الحضارة الغربية، فهو الذي عرف الإسلام على أنه «دين ورؤية»، وليس «دين ودولة»، بمعنى أن السياسي جزء من كل، وأن هذه الرؤية تشمل كل النشاطات من فلسفة وسياسة… إلخ.

يستطرد المسيري في هذا ليقول إن النظام الإسلامي لا يمكن أن يتعايش مع أي نظام آخر، وخطابه في هذه الدعوة هو خطاب عالمي، ليس للمسلمين فحسب، وإنما لجميع الناس، وكما أشرت سابقًا، فهو هاجم المادية الحسية بشراسة، ليعلق على ما قاله «إنجلز»: إن يد الإنسان تطورت لصنع الآلات، ليقول له: فما قولك في يد «مايكل أنجلو» مثلًا، وما يده من بين هذه الأيادي التي تطورت لصنع الآلات؟ ويضرب مثالًا بـ «بيتهوفن» أيضًا، فهو الذي ألف كل هذه المقطوعات اللامعة وقد كان أصمّ!

علي عزت بيجوفيتش وظف كل شيء في دعوته، وهذا ما يميزه، فهو المثقف الموسوعي الذي نقد كل ما قرأه عن الحضارة الغربية والمادية، فهو ليس كأي مثقف يقرأ فقط، حتى أنه انتقد هذه الثلة التي تقرأ لتكون بنكًا من المعلومات، ليعلق على من يملك قِطعًا من «ماركس»، وقطعًا من «هيغل»، ولكن دون رؤية وتصور واضح لهذه القطع، بأن القراءة الكثيرة والنهمة ستكون عبثية لا فائدة منها؛ إن لم تكن مصحوبة بنقد ورؤية واضحين.

أحد أهم أفكار بيجوفيتش هي المساواة بين البشر، والتي علق عليها المسيري وطورها في إحدى محاضراته. فيرى بيجوفيتش أن المساواة بين البشر داخل الإطار المادي مستحيلة، فمن منظور مادي علمي وعند ابتعادنا عن الله ونظرنا للبشر من هذا المنظور، فسنرى العربي والعجمي، سنرى الذكي والغبي، وما إلى ذلك، فهذه النظرة العلمية الصارمة ستحتّم عليك الاختيار، ومن الطبيعي أن تختار الأذكياء في مجتمع معين وتتخلص من البقية.

فالمنظور العلمي المادي لا يمكن أن يتوافق مع فكرة المساواة، وكأنموذج جلي وواضح على هذا، نرى النازية تتربع على عرش المادية، فالنازية هي بلورة الأنموذج المادي كما قال المسيري معقبًّا على كلام بيجوفيتش في المساواة، ونراها السبب في خلق التمييز العنصري المادي في الحضارة الغربية، فهم الذين قرروا القضاء على جميع المعوقين والمسنين! فهؤلاء القوم صُنّفوا داخل النظام النازي على أنهم «Useless Eaters»، فهم أفواه تأكل ولا تنتج كما شرحها المسيري وفككها، منطلقًا من الفكرة الأصلية التي طرحها بيجوفيتش، وقد قال في هذا الكثير، ولكني سأتوقف هنا لطرح أجزاء أخرى من خطابه.

من أهم ما طرح بيجوفيتش كذلك هو تعريف «الثقافة»، فقدْ عرّفها على أنها مؤمنة، فالثقافة مؤمنة والحضارة ملحدة، ويرى في الحضارة أنها حضارة «ماركس» و«داروين»، الحضارة التكنولوجية المادية الملحدة، ويقول أيضًا إن أي حضارة مادية دائمًا ما تسعى وراء المعادلات الرياضية كفلسفة لها، ويعزو هذا السعي ورءاها لدقتها المتناهية في إعطاء الحلول، ولو فرضنا جدلًا إيمان الإنسان بالحرية داخل الإطار المادي، فسيكون هذا الإيمان نابعًا من قناعة شخصية لا أكثر، ولن يكون فيه فلسفة حقة، فالظاهرة الإنسانية في المادية تحدد أن ما يسري على الأشياء يسري على الإنسان ولن يكون هناك ما يميزها، ففكرة الخلق أساسية عند بيجوفيتش، ومن دونها لن يكون هناك حرية ولن يكون هناك إيمان بشيء، وقد قال المسيري في هذا:

لو أن الإنسان تطور من الأميبا مثلًا عبر الفيلة، فالبرنامج الطبيعي هو الذي خلقه وهو الذي يحكمه، ولو آمنا بهذا؛ فسنرى أن الأميبا أرقى من الإنسان داخل هذا الإطار، فهي لديها قدرة على البقاء أكثر منه! ويقول أيضًا: إن الفن الملحد هو إيماني على رُغمه، فالفن في ذاته وعلى اختلاف أنواعه هو خارج إطار المادية، ولن يعبر إلا عن صوفية وروحانية تحمل إيمانًا شديدًا خارج الإطار المادي!

خطاب بيجوفيتش واسعٌ جدًا، ويحتاج لكتب لاستيعابه، وقد حاولت هنا أن أعرض أهم ما طرحه هذا الإنسان والمفكر العظيم، وآمل أن ما عرض هنا يحمل تصورًا واضحًا لعقليته.

الآن سأنتقل لما أشرت له في البداية، فكيف نصنع هذه الطواغيت؟ المادية هي الإجابة، ولهذا عرضت نظرة بيجوفيتش للمادية، لأصِلَ لصناعة الطواغيت داخلها، فكما هو واضح، فالإيمان بالإنسان هو مركز المادية، والتعمق فيها سيفرض عليك نسيان النُبْل في أي شيء، والسعي وراء خلق طاغوت واتباعه سيصبح حتمية تحت مظلة من ماديات عفنة، ولا تقتصر صناعة الطواغيت في الأنظمة فقط، بل نعايش هذه الصناعة في كل مكان، في الشارع وفي العمل، في التملق والتسلق، ومن خلال ممارسة خيانات وطعنات في الظهر، كل هذا يصنع طواغيت على مستويات متفاوتة، ولعل أعظمها هي طواغيت الأنظمة والحكومات.

كُتب بيجوفيتش كانت ممنوعة في فرنسا، ولا عجب من هذا، ففي فرنسا تحديدًا يجب أن تمنع، فهي الدولة الغارقة في المادية، ولعلها أكثر الدول الغارقة أيضًا في التمييز العنصري، وكأحد الركائز لديهم تم منع كتب هذا المجاهد ضد حضارتهم المزعومة، منع أفكار هذا العملاق التي تذكرهم دائمًا بحقيقة المستنقع الذي يعيشون فيه، فهم لا يريدون هذا البطل المأساوي داخل ماديتهم، ولا يريدون معاني من التضحية. ما أعجبني في وصف هذا هو ما قاله المسيري في التضحية: فالتضحية مضحكة، ولا معنى لها داخل الإطار المادي.

إن بيجوفيتش من أشرس وأعمق الأشخاص الذين وقفوا ضد الغرب وحضارتهم، وصميم دعوته كانت في نسف الطواغيت والاستبداد، وكل هذا كان في خطاب فلسفي عميق، واطلاع واسع، ومن ثم نقد ونسف لركائز الإطار المادي الحسّي.

بيجوفيتش رجل تجاوز جميع الإطراءات مهما كانت بليغة وشاعرية، وحتى وأنا أكتب الآن، لا أجد ما يعطي الرجل حقه، ولطالما وقفت صامتًا في كل مرة يذكر فيها، وكرد للجميل، فلا زلت أضع كتابه «هروبي إلى الحرية» بجانب وسادتي منذ سنين، فمع كل انتكاسة دنيوية تصيبني، أفتح الكتاب وأبدأ بالتقليب فيه وكأنني أراه لأول مرة، وأتمنى في يوم ما أن ألقى ما لقيه هذا الرجل!

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.