يعتبر عام ١٩٣٠ بداية العصر الذهبي لهوليوود والذي يمتد على مدى عقدين من الزمان، وتكمن المفارقة في موافقة هذا العام لبداية موجة الكساد الكبير التي بدأت في الولايات المتحدة ثم امتدت إلى معظم بلدان العالم. لقد أقبلت البلاد التي تأثرت بهذه الأزمة والشعوب التي قاست مرارتها، أقبلوا على الأفلام بعد أن وجدوا فيها ملاذا يأخذهم بعيدا عن صعوبة الواقع المعاش، ملاذ لا يكلفهم غير ساعتين أو ثلاث على الأكثر من يومهم، وثمن زهيد يدفعونه لتذاكر دور العرض.

في هذه المفارقة نرى بوضوح التأثير المتبادل بين الواقع والسينما.

كانت أغلب أفلام هذه الفترة – التي حققت نجاحًا على الأقل – تتميز بتقديم أبطال أثرياء أو أحداث تجري في ظروف مزدهرة، كما حاولت أغلب هذه الأعمال تقديم نهايات سعيدة، تعوض بها المشاهد عن الظروف الحالكة التي يعيشها، فتصطحبه لساعة أو اثنتين إلى عالم أكثر رخاء ورفاهية. بل حدث كثيرًا أن استجاب صناع الأفلام لميل فئة كبيرة من الجمهور إلى تفضيل النهايات السعيدة، فقاموا بتعديل نهايات بعض الأفلام المقتبسة عن روايات من نهاية محزنة أو تشائمية – كما وردت في الرواية – إلى نهاية أسعد أو أكثر تفائلا في الفيلم، مثلما حدث في فرانكشتين (١٩٣١)، وأحدب نوتردام (١٩٣٩). ولعل الدوافع هنا تتشابه مع الدوافع التي حملت جمهور القراء على متابعة أخبار الأثرياء في الجرائد الاجتماعية أكثر من متابعة الأخبار السياسية والاقتصادية.

هناك زاوية مختلفة يمكننا النظر من خلالها إلى ميول الجمهور وأثر الحياة التي يعيشونها عليها، وأثر هذه الميول على ما ينتج.

وهناك زاوية مختلفة يمكننا النظر من خلالها إلى ميول الجمهور وأثر الحياة التي يعيشونها عليها، وأثر هذه الميول على ما ينتج، وذلك في مجال بعيد عن السينما وهو المصارعة الحرة الترفيهية للمحترفين (WWE) ذات الشعبية الهائلة. فهذه الحلقات مكتوبة مسبقًا – أي أن لها سيناريو مثل أي فيلم أو مسلسل – بهدف الترفيه عن المشاهد وجذبه، بمعنى أن أبطالها أقرب إلى الممثلين (بل هم كذلك!) يؤدون حركات ومشاهد معدة ومعروفة سلفًا، ولا ينفي ذلك أن بعض هذه الحركات قد تتسبب في إصابات إذا نفذت بطريقة خاطئة.

لكن، هل يصارح جمهور تلك المباريات نفسه بأن الأمر «مجرد تمثيل»؟ لا، إن أغلبهم لا يفعل ذلك، بل يحاول تجنب هذه الخاطرة، وقد يسعى في إقناع نفسه بعكس ذلك. فذلك قيد يفقد الأمر إثارته وبالتالي يحرمه من المتعة التي تكمن في التفاعل مع الأحداث. ويهمنا هنا نقطة واحدة، هي اختيار المشاهد لتصديق ما يشاهده.

مثال آخر على ذلك، شهدنا ولادته بأنفسنا، وهي البرامج التليفزيونية المسماة بتليفزيون الواقع (reality tv shows)، وقد لاقت نجاحًا ليس بالهين. ورغم أن الأشخاص الذين يظهرون في تلك البرامج يفترض أنهم يعيشون حياتهم الطبيعية بينما تتابعهم الكاميرا، فإن أفعالهم تتسم بميلودرامية مبالغ فيها، إلى درجة تغري بالشك في مصداقية العمل برمته. ألا يستطيع المشاهد التمييز بين الطبيعي والمبالغ فيه أو المزيف؟ بالطبع يمكنه، لكنه يختار أن يصدق، ويقنع نفسه بما يريد تصديقه، ويتقبل الكذب إن كان فيه متعة أو منفذ لإمضاء الوقت.

هناك مثال آخر على الانحياز اللا واعي الذي يسيطر على المشاهد، أعني هنا الأفلام التي تحمل تنويه «مأخود عن قصة حقيقية» وتلك التي تنوه «مستلهم من أحداث حقيقية». هل هذه الأفلام صادقة في تنويهها ذلك؟ على كل حال، إن الأفلام التي تحمل التنويه الأخير هي الأكثر خداعا، فالاستلهام من أحداث حقيقية لا يعني أن ما نراه في الفيلم هو ما حدث، بل إنه في أحيان كثيرة يكون بعيدًا بشكل كبير عما حدث في الواقع. هناك – مثلا – فيلم «طارد الأرواح» الذي يحمل تنويهًا مشابهًا، بينما نجد تصريحًا نُشر في أحد الصحف للكاتب يحكي فيه استلهامه الفكرة من قراءة مقالة في أحد الصحف عام ١٩٤٩، وأن هذه المقالة أوحت له بالفكرة فقط، أما أحداث الفيلم فلا تمت للحقيقة بصلة تقريبًا.

الاستلهام من أحداث حقيقية لا يعني أن ما نراه في الفيلم هو ما حدث، بل إنه في أحيان كثيرة يكون بعيدًا بشكل كبير عما حدث في الواقع

إن ما حدث في الأربعينيات، من ظهور أعراض غريبة على مراهق، وممارسات أغرب نفذها القساوسة عليه، لم يشهد عليها سوى ٤٨ شخصًا، ٩ منهم كانوا قساوسة اشتركوا في الأمر. ثم قام الكاتب والمؤرخ توماس ألين، بتعقب الناجي (أو الحي الوحيد) المتبقي منهم، وهو الأب والتر هالوران، قسيس شارك في تلك الطقوس على الصبي رونالد دو المعروف باسم روبي.

وفي عام ٢٠١٣ قال توماس ألين إنه لا يوجد دليل قوي على أن السبب في معاناة الصبي هو الأرواح الشريرة أو ما شابه من الخرافات التي انتشرت وترددت وصدقها الناس في قريته وقتها، بل ربما كان يعاني فقط من مرض عقلي أو أنه تعرض لبعض الاضطهاد والاعتداءات في طفولته. أي أن الرواية التي كتبت في ١٩٧١ باستلهام تام من المقالات التي نُشرت في الماضي عن الحادث لم تتوقف على إثبات الأمر بشكل قطعي، بل اعتمدت كلية على ما أثاره المقال في خيال الكاتب من خيالات مثيرة رأى أنها سوف تجذب القارئ. كذلك أجرى المؤلف بعض التغييرات الكبيرة كتحويل الضحية إلى فتاة وتغيير الفئة العمرية لها، وبالفعل حولت الرواية إلى فيلم عام ١٩٧٣ وحقق نجاحًا مميزًا جدًا، فقد تكلف إنتاج الفيلم ١٢ مليون دولار بينما وصلت أرباحه إلى ٤٠٢ ميلون دولار.

لكن ماذا عن المشاهد الذي لم يقم بهذا التحري، أو صدق التنويه؟

التنويه في الأفلام المستوحاة لا يوحي بدرجة الالتزام نفسها التي نتوقعها من أفلام «مأخوذة» عن أحداث حقيقية، فالتنويه الأخير أشد صراحة ويوحي بشيء من المصداقية، فكأنه يزعم أن ما يعرضه الفيلم من أحداث قد وقع حقًا، بينما يتم تغيير الكثير من الحقائق وإضافة أخرى أشد إثارة في هذه الأفلام.

وتحت اسم الاقتباس، تجري كثير من التعديلات والتغييرات سواء بحسن نية أو بتعمد الخداع، ويترتب على ذلك كثير من العواقب الوخيمة، فلنتخيل رد فعل طفل أو مراهق بعد مشاهدة فيلم رعب أو جريمة مسبوق بأحد هذين التنويهين وصدقه!

وكما يستلهم صناع تلك الأفلام رعبهم من الحياة، يستلهم الواقع أيضًا كثيرًا من ظلامه من الأفلام، فيمكنك استخدام الإنترنت للبحث عن جرائم تم استلهامها من الأفلام. ولقد اخترنا المثالين التاليين لتعلقها بأفلام شهيرة، فهناك ما فعله شاب بلجيكي في الأربعة والعشرين من عمره عام ٢٠٠١ – وفقا لموقع (ABC News) – حينما قام بارتداء ملابس فيلم الصرخة (Scream) ثم طعن جارته التي تبلغ من العمر ١٥ عامًا ٣٠ طعنة متتالية بعد أن صدته حينما عبر لها عن إعجابه.

وفي عام ٢٠٠٩ قام شاب يبلغ من العمر ١٧ عامًا بصنع قنيلة يدوية بسيطة وفجرها أمام مقهى ستار بكس في نيويورك، وأظهرت التحقيقات أن الشاب كان متأثرًا جدًا بفيلم نادي القتال (Fight club) إلى درجة السعي لتنفيذ مخطط الشخصية الرئيسية في الفيلم التي قام بدورها براد بيت.

وهذة الفئة من الجرائم موجودة في الواقع، حتى أن لها مصطلحًا خاصًا بها: الجريمة بالتقليد (copycat crime)، وهو مصطلح يطلق على الجريمة التي يتم استلهامها من جريمة مماثلة حدثت من قبل بعد أن تم تناولها إعلاميا، أو جريمة خيالية اطلع عليها المجرم ضمن عمل فني أيًا كان نوعه.

وبعد حديثنا عن الأفلام التي تدعي تأثرًا أو اقتباسًا من وقائع حقيقية، يقودنا السياق إلى الحديث بإيجاز عن الـ footage، وهي إحدى العناصر المستخدمة لإضافة مزيد من المصداقية على الفيلم، حيث تستخدم هذه اللقطات الحقيقية في الفيلم – ولو على نطاق محدود – ويؤدي التسويق الصحيح لذلك في أغلب الأحيان إلى نجاح العمل، مثلما حدث مع فيلم الرعب نشاط خارق للطبيعة (Paranormal activity) الذي حقق نجاحًا ساحقًا.

شخصيات أفلام «كوينتن تارانتينو» – وإن كانت عنيفة وقاسية – فهي كذلك لأنها كانت لتتصرف في الواقع بالمثل، بل ربما تكون أكثر عنفًا

ولا نجد جدلًا أكثر معاصرة ولا وضوحًا حول تأثير العنف في الأفلام على الواقع – والعكس – من الجدل المثار في العقدين الأخيرين حول العنف في أفلام كوينتن تارانتينو. لقد حقق هذا المخرج والكاتب المتميز نجاحًا بارزًا بعدد قليل من الأفلام التي جذبت الانتباه الجماهيري، كما حصدت عددًا كبيرًا من الجوائز العالمية، بما فيها جائزة أوسكار أكثر من مرة. لا يمكن لأحد إنكار أسلوب تارانتينو المميز في رسم الشخصيات، وجمله الحوارية الشيقة، حتى أن مشهدًا واحدًا يكفي لتمييز بصمته المميزة، لكن على الجانب الآخر لا يمكننا إنكار الحضور الطاغي للعنف في معظم أفلامه، ولا أذكر أني شاهدت قدرًا مشابهًا من المشاهد الدموية المفصلة والعنف التصويري (Graphic violence) في فيلم لا يصنف تحت خانة الرعب، مثل ما تضمنه فيلمه الأخير «الأجلاف الثمانية» (the hateful eight).

بدأ الجدل حول فجاجة العنف الذي يقدمه تارانتينو مع أفلامه الأولى، فلا ننسى الصدمة التي تسبب فيها مشهد قطع الأذن في فيلم «كلاب مستودع» (reservoir dogs)، ولقد علق بنفسه على ذلك المشهد في لقائه مع جريدة ذا أوبسيرفر عام ١٩٩٤ نافيًا شعوره بأي ندم مطلقا. عبر تارانتيو عن وجهة نظره قبلها بعام حينما قال إن الفيلم – في آخر الأمر – مجرد فيلم، وإنه غير مسئول عما يقوم به بعض الأشخاص بعد مشاهدته، فمسئوليته تنحصر في رسم الشخصيات بأكبر قدر ممكن من المصداقية.

مما يعني أن شخصيات أفلامه – وإن كانت عنيفة وقاسية – فهي كذلك لأنها كانت لتتصرف في الواقع بالمثل، بل ربما تكون أكثر عنفًا، لكنها في الأفلام – بطبيعة الأمر – أكثر تشويقًا وتسلية وأحيانا إثارة للضحك، لحرفيته في رسمها والتفنن في عرضها. ثم عاد في عام ٢٠١٠ وصرح إلى جريدة التيليجراف قائلا:

أنا أشبه قائد أوركسترا، إلا أن مشاعر الجمهور هي آلاتي.. أقول اضحكوا، فيضحكون. ثم أقول لهم اشعروا بالرعب فيفعلون. وكم سأشعر بالمتعة إن شاهدت فيلمًا ووجدت نفسي جزءًا من تجربة مشابهة.

أما في عام ٢٠١٣، بعد مذبحة مدرسة ساندي هووك في كونيكتيكت التي قام فيها شاب ٢٠ عامًا بإطلاق النار على ٢٠ طفلًا تتراوح أعمارهم بين السادسة والسابعة، وستة من البالغين العاملين في المدرسة، ذلك بعد أن قام بقتل والدته قبل مغادرته المنزل في الصباح، ثم أنهى الواقعة بالانتحار. حينها أجرى صحفي لقاءً مع تارانتينو، قال فيه الأخير بحدة: “لو سألتني هل سأشاهد فيلم كونج فو بعد مرور ثلاثة أيام على المذبحة، فسيكون ردي – على الأغلب – بالإيجاب، فهما أمران لا علاقة لأي منهما بالآخر”. وهو ما رد عليه المحاور بالإشارة إلى الغضب المسيطر على المخرج، فقال تارانتينو إنه غاضب حقا، وبشدة، فهو يرى أن حديث الصحفيين عن الأفلام الآن يدل على عدم احترام الضحايا. ثم أضاف أن المشكلة تتعلق بالسيطرة على السلاح في البلاد وبالصحة العقلية، لا بالأفلام ولا بشيء آخر.

ولعل «أوسكار وايلد» قد بالغ بعض الشيء حينما قال إن محاكاة الحياة للفن أكثر انتشارًا من محاكاة الفن للحياة، (أو ربما هكذا كان الحال في أيامه) لكنه أصاب شيئًا من الحقيقة في قوله إننا لا نرى حولنا الأشياء على صورتها الحقيقية، بل نرى فيها ما عودنا الفن أن نراه.

نقر في النهاية أن هذا المقال يحمل قدرًا من السوداوية والتشاؤم، لكن ذلك بهدف إثارة الفضول داخلنا، الفضول الذي يدفعنا إلى المقارنة بين أعمالنا – نحن العرب/المصريين – الفنية وحال واقعنا، بهدف البحث عن العلاقة التي تربطهما، وحدود تأثير كل منها في الآخر.

فإن كان الناس يحبون/يميلون إلى محاكاة ما يعرض عليهم في الأفلام، وفي الوقت ذاته تعلن نسبة ليست بالصغيرة من هؤلاء الناس، ونسبة أكبر من صناع الأفلام والفنانين والمنتجين، يعلنون جميعا رغبتهم في واقع أكثر جمالًا، وهدوءًا، ورقيًا، وصفاءً، وتصالحًا، وسلامًا، فلِمَ إذًا يتم عرض ذلك الكم الهائل من العنف، والفساد، والقبح في أفلامنا؟

وهل إذا قامت النسبة الأكبر من الأفلام (لا كلها) بعرض الجميل من التصرفات والأخلاق والعلاقات والتعاملات الإنسانية، هل يمكن لهذا أن يغير الواقع بشكل ملحوظ؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.