تلك المقبرة – الحلقة الثالثة
على ركبتي جثوت، ورحت أزيل الغبار عن الشاهد الحجري ذي الكتابة البدائية. شخص آخر أشجع مني وأكثر جرأة كان سيجرب نبش هذا القبر ليعرف ما فيه ..
القبر أقرب لكومة من طين ترتفع فوق الأرض.. هناك على اليمين فتحة مسدودة بالملاط واضح أنها التي أدخلوا الجثة منها. لا أنكر أن هناك رائحة عطنة، ومن المستحيل طبعًا أن تكون رائحة الجثة بالداخل، فهي مدفونة منذ نحو تسعين عامًا .. لابد أن حيوانًا قد نفق هنا في وقت قريب.
أخرجت ورقة بمئة جنيه، ولففتها في قطعة من غشاء السلوفين، ثم دفنتها بعناية وأهلت فوقها الغبار. كان قلبي يرتجف، وخطر لي أن أحدهم سيأتي من خلفي ويضع يده على كتفي ليقول شيئًا!… تبًا!. سأخيف نفسي حتى الموت!
لقد نفذت جزئي من الصفقة .. دعنا نرَ ما سيفعله القبر.
نهضت وبخطوات مسرعة وقلبي يثب في فمي مغادرًا الجبانة. كلب أجرب راح ينبح في وجهي، لكني رحبت به كثيرًا .. على الأقل هذا كائن طبيعي من عالمنا …
عندما عدت لداري ونمت كان نومًا كئيبًا يسبح في العرق والكوابيس ..
بعد ليلتين قمت بالمغامرة مرة أخرى. حملت الكشاف وانتظرت حتى تغطى العالم بالليل، وزحفت تحت ذلك الغطاء الكثيف نحو المقابر. مشيت في الممر الضيق الذي يطل على الحقل المحروث، ولعله الارتباك الذي جعلني أتعثر أكثر من مرة ..
في النهاية وصلت إلى المقبرة المرهوبة، فركعت على الأرض ورحت أعبث بحثًا عن الكيس الذي أخفيته أمس .. أين هي؟ ثم شعرت بالسلوفين فقبضت على الشيء وأخرجته. على ضوء الكشاف تأملت اللفافة ثم فتحتها لأجد ورقة بمائتي جنيه!
كان قلبي موشكًا على التوقف من فرط الانفعال. الأمر حقيقي إذن .. ما حدث في صباي لم يكن وهمًا أو مصادفة.
ليكن ما يكون .. ليكن هذا لعبًا مع النار أو لا .. هذا القبر هو سري الخاص ولسوف يحل مشاكلي الخاصة. عدت للبيت حيث نامت الأسرة، فدخلت إلى غرفتي الريفية الواسعة واستلقيت في الفراش أتفحص الورقة ذات المائتي جنيه .. لا غبار عليها .. ليست مزورة ..
لا توجد أي آثار أقدام حول المقبرة .. ليس هناك من يتسلى بي أو يعابثني. وفي النهاية لم يرني أحد وأنا أدفن اللفافة فكيف يأتي بعدها ليبدلها؟
في الصباح ذهبت إلى المدينة .. ذهبت إلى المصرف وسحبت معظم مدخراتي: عشرة آلاف جنيه، ثم ركبت سيارة أجرة متداعية عائدًا إلى قريتي ..
سألتني أمي عن سبب خروجي المتكرر ليلاً فقلت لها إنه الملل لا أكثر .. وعندما جاء المساء خرجت مسلحًا بالكشاف وكيس صغير فيه المبلغ الهائل الذي أملكه. عندما تحمله في يدك تدرك كم هو ضئيل تافه ..
مضيت بين أشجار التوت وبين شواهد القبور الغافية .. وعلى ضوء الكشاف حفرت حفرة أعمق نوعًا في المقبرة، ثم تلفت حولي ودفنت المال.
فلنأمل أن تكون الأسطورة صادقة وألا أكون أحمق شخص في العالم كما أتوقع.
³³³³³
لم أستطع البقاء في القرية ليومين.. كنت متوترًا بحق .. لو نجحت التجربة الجديدة فكل ما علي هو أن أكرر هذا العمل عدة أيام. عشرة آلاف جنيه ستكون نصف مليون بعد مثابرة عدة أيام.
دعني أواصل الحكاية أرجوك وكف عن التململ .. أكره المستمعين نافدي الصبر فعلاً. يستفزونني. أقول إنني قضيت يومين في المدينة. كنت في حالة عصبية أوشك على دفع عقارب الساعة بكتفي لتتحرك ..
هل قلت لك إنني قابلت سيد الدرهيبي بالصدفة؟ وجدته في ميدان المحطة وكان يبتاع جريدة، فهرعت نحوه. لم أبذل جهدًا لتذكيره بي لأنه عرفني على الفور. تعانقنا وسألني عن أحوالي.. قال إنه تزوج ويقيم في القاهرة. إذن لماذا أنت هنا؟ لم يفسر ..
جلسنا على أحد المقاهي وتبادلنا الأحاديث، ثم جاء السؤال الذي أرهقني كل هذه الأعوام:
«للمرة الأخيرة أسألك.. ماذا تعرف عن عزت الدرهيبي؟»
توقعت أن ينصرف غاضبًا، لكنه هذه المرة تردد قليلاً.. سحب الدخان من الشيشة وأطلق سحابة كثيفة، ثم قال:
«كل أسرة لديها وصمة عار، وقد أرغموه على ترك الأسرة والإقامة في قريتكم حيث مات…»
«وما هي وصمة عاره بالضبط؟»
«لا أدري بالضبط .. كان ماجنًا وارتكب الكثير جدًا من الموبقات .. ويقال إنه مارس السحر الأسود. كان لديه كتاب اسمه (شمس المعارف الكبرى) وكان يستعمله ككتاب مقدس يهتدي به..»
بدأ الأمر يتضح لي .. توقعت شيئًا كهذا. فقال سيد:
«أقول لك هذا الكلام للمرة الأخيرة .. في أسرتنا لا يذكرونه بتاتًا ويعتقدون أن سيرته تجلب الشؤم»
شمس المعارف الكبرى!.. الرجل كان يمارس السحر إذن ..لا أعرف خواص مقابر السحرة، لكنها بالتأكيد تختلف عن المقابر العادية التي ندفن نحن فيها ..
افترقنا وأنا أفكر في نقودي العزيزة التي تكمن هناك في قبر منسي مهمل في قريتي. ماذا حدث لها؟
عدت لقريتي بعد يومين وانتظرت حتى جاء الليل، فتسلحت بالكشاف ومشيت في طريقي المعتاد بين أشجار التوت حتى الطريق المتعرج الذي يطل على حقل منحدر. ثم بلغت القبر … مددت يدي في لهفة ورحت أحثو التراب عنه حيث دفنت مالي أمس.
لم يكن هناك شيء!!!