سوف أحدثك عن مقبرة قريتنا.

لا تقل لي إني ابن المدينة، وإن نضارة الريف جفت في عروقي، فالحقيقة هي أنني سأظل ريفيًا إلى الأبد أحمل القرية داخلي. لا تتحرك كثيرًا فهذا يوتر أعصابي .. صدقني ليست قصتي طويلة ولن تثير مللك في الساعة القادمة. كما قلت لك: الريف يحيا داخلي، ولا أستطيع أن أشعر بألفة في المدينة .. أبحث عن متجر البقال البدائي وعن الكُتّاب المتهدم جوار المسجد الذي تتماسك جدرانه بمعجزة ..عن الساقية والترعة. عندما لا أجد هذا كله وأجد بدلاً منه الشوارع والسيارات فإنني أشعر باغتراب مقبض.

سأحدثك عن مقبرة قريتنا.

هناك عند الجهة الغربية من القرية يوجد حزام من أشجار التوت العتيقة، ومنحدر وعر يطل على حقل نصف محروث. تمشي في هذا الممر الطويل محاذرًا أن تتعثر فتسقط.. هنا يجري أمامك كلب أجرب أو قط هزيل، وترى السور المهدم الذي يحيط بالمقابر. لا تنس قراءة الفاتحة للأموات وأنت تمشي بين الشواهد. في الريف يزاولك الشعور بأن هؤلاء موتى .. هذه مساكن قوم يميلون للانطواء وعدم الاختلاط بالآخرين لا أكثر.

ولكن من قال إن الموت يساوي بين الرءوس؟ كل أنواع الطبقية ستجدها هنا بين قبور طينية فقيرة وقبور رخامية متغطرسة وأحواش أقرب إلى القصور! لا توجد مساواة في الموت كما ترى.

بعض الأسماء تعرفه على الفور .. أسرة الدهبي .. أسرة الدمام .. الخ .. وبعض الأسماء مجهول ..

كل مقبرة لها طابع يخصها، لكن المقبرة التي أتكلم عنها هنا فريدة من نوعها. مقبرة فقيرة هي أقرب إلى حجر يعلو كومة من الطين، وبخط طفولي ساذج كتبت آية قرآنية (فيها خطأ لغوي) واسم صاحب القبر: (المرحوم عزت الدرهيبي) الذي يقال إنه توفي عام 1936. لا شك أن القبر لم يُفتح منذ أغلق على عزت، فلا أقارب له في البلدة ولا أولاد. لم يزرع أحدهم بعض الصبار أو يرش الماء على التربة قط .. بالواقع لا يذكر أي واحد حرفًا عن عزت هذا.. لقد وُجد ثم زال فلم يبق منه سوى اسمه ..

على كل حال يوجد احتمال لا بأس به أن المقبرة خالية من الجثث. هناك آثار نبش قوية حولها، وثمة اعتقاد أن بعض اللصوص سرقوا الجثة وباعوها. أنت الآن تفهم كيف بدأ الأمر وأعتقد أنني لم أخبرك بشيء جديد ..

أرجو أن تصغي لي باهتمام ..

الأسطورة الشائعة في القرية هي أن المقبرة مسحورة، وأن التعامل معها يجلب الوبال، لكنهم يعتقدون كذلك أنك لو دفنت فيها مالاً لمدة ليلتين ثم عدت للمقبرة لوجدته قد تضاعف. لا شك أن هناك من جرب هذا، لكن لم تكن هذه التجربة تلاقي إقبالاً على كل حال بسبب الخوف من المقبرة، وكما قال إمام المسجد:

ـ«التعاطي مع الجن له فوائد جمة، لكن له أخطارًا جمة كذلك»

في سن العشرين ذهبت ليلاً إلى المقبرة وبعناية دفنت خمسة جنيهات. ثم فررت وقلبي يتواثب كالطبل .. بعد ليلتين عدت إلى هناك ورحت أحفر الأرض بملعقة معدنية على ضوء الكشاف. وجدت ورقة مطوية بعشرة جنيهات !.. الإشاعة حقيقية إذن!

**************

بعد هذه التجربة بأيام أصبت بوعكة لعينة من التيفويد. كدت أفقد حياتي وأحتاج العلاج إلى شهر كامل، ولم أكن قد أخبرت أحدًا بتجربتي مع المقبرة، لكني قدرت أن سبب المرض هو لعنة الجان على الأرجح .. من يلهُ بالنار يحترق بها، ولابد أنني لهوت أكثر من اللازم.

جاءت أمي بقطعة من الورق قطعتها على شكل دمية، ثم راحت تثقبها بالإبرة وهي تردد بعض الأدعية، ثم وضعتها فوق البخور المشتعل فتفحمت .. قالت لي إن الدمية تمثلني، ويبدو أن هناك عينًا شريرة أصابتني.

كنت أفكر في عشرة الجنيهات القادمة من المقبرة، وأعترف أنني لم أجسر على صرفها قط. طاقة التابوو المحيطة بها جعلتني عاجزًا عن إنفاقها أو حتى لمسها. وضعتها بين دفتي كتاب لا أفتحه إلا نادرًا ..

في سيارة الأجرة المتجهة إلى بنها، مدينة الجن والملائكة بالنسبة لنا نحن القرويين، كنت جالسًا جوار صبري صديقي وهو طالب في كلية الزراعة.

قال لي صبري بلا مناسبة إنه جرب أن يدفن بعض المال في قبر الدرهيبي، وعاد بعد ليلتين ليتفقده ..

جف ريقي وتساءلت في لهفة عما وجده.. قال في خيبة أمل:

ـ«لم أجد المال أصلاً.. هناك من سرقه .. كانت هناك آثار أقدام قرب المقبرة .. هناك مخادع ينشر هذه الأكاذيب ليجمع المال، كما يحدث في تلك الآبار التي يزعمون أنك لو ألقيت فيها مالاً لتحققت أمنيتك. طبعًا ليذهب أحدهم لينزح العملات في قاع البئر بعد هذا.. مقبرة الدرهيبي خدعة وقد كلفتني مائة جنيه».

ابتسمت في عصبية ولم أخبره أن تجربتي أنا قد نجحت ..

لا أعرف التفسير لكنه مخيف على الأرجح، وعلى الأرجح كذلك تضاعف ماله لكن هناك من سرقه قبل أن يعود صبري لموضع المال. قال صبري وهو يرتجف:

ـ«هذا قبر غريب .. هل لاحظت أن الطيور لا تحلق فوقه أبدًا، وأنه لا توجد نباتات من حوله ؟»

قلت في ملل وأنا أراقب الطريق:

ـ«هذا متوقع .. الرجل مقطوع من شجرة ولا يعرف أحد شيئًا عنه ..لا أحد يُعنى بالقبر .. »

ـ«الطيور لا تعرف هذا»

«حيث لا توجد نباتات لا توجد طيور».

يتبع..