نريده أديبًا بلا مخالب. سياسيًا بلا طموح. مرموقًا بلا اعتراض على الرشوة. هكذا وضع العصر الحديث مواصفاته لـ « شاعر السلطان» الجيد. ولأن الشعر قد عفا عليه الزمن. ولم يعد هو الوسيلة الأكثر انتشارًا بين الشعوب. وصار الشاعر من أفقر القوم حتى وإن نافق. اضطر الحكام إلى البحث عن مهنة أخرى يصطفون خواصهم من بينها. اختاروا «صاحبة الجلالة» لتكون في خدمة أصحاب الجلالة.لم يؤمن الحكام بأن الصحافة والأدب قد خلقا ليذكرا السلطان بحدوده إذا طغى. ولم يقتنعوا بأنّهما شكل من أشكال الحقيقة لا الدعاية. ولم يدركوا أن الكتابة ينبغي أن تكون عن الدولة لا الرئيس. فاستبدلوا بالقومية الوطنية. وصار تلميع الحاكم هو تلميعُ للبلاد.ولم يريدوا في الوقت ذاته إعادة خلق نموذج «المُتنبي». شخص يرى نفسه أحق بالإمارة من الجميع. يُعلي الحكام من قدره ثم يُضطرون إلى قتاله بعد ذلك. حرصوا على أن يختاروا شخصًا قابلًا للتدجين. لا يترفع أن يغسل بكلماته ثياب ولاته المُلطخة بدماء شعوبهم. وأن يُقنع الدول الأخرى أن النيران التي يشعلها وليّ نعمته لتدفئة الشعب لا لحرقه. وأن الذي يملأ أيدي قواته ليس البنادق والهراوات، إنما أزهارٌ يهدونها للشعوب.


السعودية: «الكبسة» هي الحل

لا شيء يصعب شراؤه. صحيح، أن إنجازات الدولة على الأرض هي التي ترسم صورتها، لكن هذا أمر يستغرق وقتًا، مالًا كثيرًا، وإصلاحًا حقيقيًا قد يودي بالحكام إلى خارج القصور. الحل السريع والمضمون هو شراء «توماس فريدمان». صحفي مرموق، يقود حملة شرسة على المملكة السعودية بعد تورط 15 فردًا منها في أحداث 11 سبتمبر/أيلول. ويُشدد على ضرورة وجود إصلاح حقيقي داخل المملكة. سببت مقالاته صداعًا للأسرة الحاكمة، إذ هيّجت الرأي العام العالمي ضدهم.ولكي يستطيع «فريدمان» أن يرى الإصلاح عن قرب. دعاه عبدالله بن عبدالعزيز، ولي العهد آنذاك، إلى العشاء في الرياض. كان العشاء السعودي لذيذًا إلى حد إقناع «فريدمان» أن المملكة في طريقها إلى الحداثة والعولمة. واستطاعت «الكبسة السعودية» أن توقفه عن مهاجمة المملكة. وأن يخرج بنفسه ليعلن عن «مبادرة السلام» التي أعلنتها المملكة.استغرقت معدة «فريدمان» سنوات عدة لتهضم وجبة العشاء تلك. وبعد أن زال مفعولها اكتشف فريدمان أن وليّ العهد الجديد «محمد بن سلمان» شاب متهور. ورأى أن من يقود حملة ضد الفساد يجب أن يكون هو نفسه نظيفًا. يُلمح فريدمان إلى شراء «ابن سلمان» يختًا بـ550 مليون دولار. كذلك رأى فريدمان بعد زوال أثر العشاء أن الشاب الجديد يسعى لدولة الرجل الواحد لا دولة التوافق التي اعتادتها السعودية.يبدو أن ثمن «فريدمان» قد صار معروفًا في السجلات السعودية. بضعة أيام قضاها الرجل مع «ابن سلمان» في الرياض. تناولا فيها أكثر من وجبة عشاء واحدة بالتأكيد. ساعدت وجبات العشاء تلك «فريدمان» أن يرى الأمر على حقيقته. فما تشهده المملكة لم يعد تدعيمًا لدولة الرجل الواحد، بل خطوة جريئة على طريق الإصلاح. و ربيعًا سعوديًا جديدًا تشهده المملكة.تلقى مقال فريدمان انتقادات واسعة على المستوى العربي. لكن لا يمكن إنكار أثره دوليًا. مقال تفرد له «نيويورك تايمز» ضعف مساحة المقالات العادية، لا بد أن يكون مهمًا. ولا بد أنّه صادق. على الأقل هذه هى وجهة المواطن الغربي العادي، وهذا هو المطلوب والمُستهدف من البداية. وتمضى رياح «فريدمان» حتى الآن بما تشتهي جِمالُ المملكة.


المغرب: غرام وابتزاز

أما المغرب فكان حظه عثرًا بهذا الخصوص. علاقة وطيدة جمعت «الحسن الثاني» بصحفي فرنسي يُدعى «إريك لوران». بعد عدة محاورات بينهما، طلب العاهل المغربي من «لوران» أن يَكتب «ذاكرة ملك». السيرة الذاتية للحسن الثاني، وشهادته على العديد من الأسرار.يروي «لوران» أنّه علم أن ذلك العرض كان من أجل محو المناطق القاسية والمظلمة من فترة حكم الحسن الثاني. ولم يُمانع «لوران» في تنفيذ ذلك الطلب. حجته أنّه حتى أشد الصحفيين معارضة للحسن الثاني لم يكن ليفوت فرصة محاورة الملك. وأن العرض الملكيّ كان مغريًا إلى الحد الذي يصعب معه الرفض. ورفقة الملك لمدة ساعتين ونصف يوميًا طوال شهرين كان شرفًا لا يُترك.الشهرة التي حصدها «لوران» في الداخل المغربي جراء «ذاكرة ملك» ارتدت على «الملك المفترس». اللقب الذي اختاره لوران ليصف به «محمد السادس». تحدث في «الملك المفترس» عن سيطرة أقارب الملك على مفاصل الدولة اقتصاديًا. مُنع الكتاب من دخول المغرب. وأوصدت الحكومة أمامه أبواب المكتبات. لكنّها نسيت أن تقطع أسلاك «الإنترنت». وصل الكتاب إلى الداخل المغربيّ وأثار جدلًا عظيمًا. وزاد لهيب الجدل بعد اندلاع ثورات الربيع العربي.يتناول«لوران» وزميلته «كاثرين غراسييه» العشاء مع محامي الديوان الملكيّ المغربي في 2015. يخرجان من العشاء وبحوزة كل واحد منهما 40 ألف يورو. لسوء الحظ، كانت الشرطة الفرنسية بانتظارهما. دخلت الحكومة المغربية في سجال غير مُشرف. فالحكومة تقول إنّها تعرضت للابتزار منهما، وإنهما طالبا الحكومة بمليوني يورو ليمتنعا عن نشر كتاب يتحدث عن الصراع على ميراث الراحل «الحسن الثاني». وهما يقولان إن الحكومة هى التي عرضت المبلع ليتنازلا عن نشر الكتاب. إلا أنّه في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017 أثبتت أعلى المحاكم الفرنسية رواية الحكومة المغربية بتعرضها للابتزاز.


سوريا: «الأسد» المُفترى عليه

يبدو أنه كلما كان النظام دمويًا، كانت الحاجة إلى صحفي يغسل عنه الدماء أشد وأعظم. حافظ الأسد الذي قتل ما يزيد عن 50 ألف سوري، وشرّد واعتقل مئات الألوف، أشد الناس حاجة إلى مثل هذا الصحفي. جاء «باتريك سيل» ليعطي الأسد الأب أهميةً لم يكن يحلم بها الأسد يومًا. عاش «سيل» مع الأسد وعائلته شهورًا طويلة يحاور «الأسد الأب» ويسجل عنه كلماته. تمخضت تلك الشهور عن خروج «سيل» للعالم بصورة شديدة الإيجابية للديكتاتور. فحافظ الأسد هو بطل الدفاع عن المصالح العربية. وهو المُدافع الأهم عن القضية الفلسطينية. كذلك دافع «سيل» بشراسة ضد اتهام سوريا باغتيال «رفيق الحريري». وذهب «سيل» بعيدًا للغاية، فما يحدث في سوريا من انتفاضات قديمة وحديثة هدفه ضرب محور الممانعة. محور الممانعة يتمثل في سوريا، إيران، وحزب الله. وكما فعل مع الأب، فعل مع الابن. روّج «سيل» لوجهة نظر بشار الأسد في عداء المعارضة. وهاجم إسرائيل، أمريكا، دول الاتحاد الأوروبي، تركيا، والدول العربية التي تدعم المعارضة السورية.

ولم يبدُ الرجل راغبًا في إنهاء علاقته بعائلة الأسد. لكن لسرطان المخ رأيًا آخر. يوم السبت 12 أبريل/نيسان 2014 ترك «باتريك سيل» بشار الأسد في خضم المعركة. لتظهر جبهة جديدة أمام بشار عليه أن يواجهها. لكنّ المعضلة أن بشار لا يتقن إلا لغة البراميل المتفجرة. وتلك لغة لا تمتلك جمهورًا واسعًا كالذي خاطبه «باتريك سيل».


مصر: زهرة مدائن النفاق

ليست الغاية هي الحديث عن مُنافقي السلطة. من يسبحون بحمد الرئيس آناء الليل وأطراف النهار. ولو كان ذلك هدفنا، فما كانت مصر لتبخل علينا بمئات الأسماء من المنافقين ومدّاحي السلطة. لكن نموذج «محمد حسنين هيكل» مُختلف.الرجل يصور النموذج الذي نريد تمامًا. مثقف وضع نفسه في خدمة السلطة. اعتنق أفكارها، وحمل على عاتقه ترويجها والدعاية لها. نجح هيكل في ذلك. كثيرًا ما قال الرئيس «جمال عبدالناصر» هذا بالضبط ما كنت أود قوله، تعليقًا على أفكار هيكل.يختلف نموذج هيكل عن الصحفيين الأجانب الذين سبقوه. هيكل كان أحد أفراد المعبد. ومن أكبر كهنة صناعة القرار. السادات، رئيس مجلس الأمة ورفيق عبدالناصر، كان هيكل يجبره على انتظاره لساعات أمام مكتبه ثم يرفض هيكل لقاءه. ذهب يوسف إدريس للقاء هيكل. أخبرته السكرتيرة أنه مشغول. انفعل يوسف إدريس عليها. أخبرته أنّها رقم 3 في مصر. حين استفهم إدريس منها ما تقصد. قالت عبدالناصر رقم واحد. وهو في جيب هيكل؛ فهيكل رقم اثنان. وهيكل في جيبي؛ فأنا رقم ثلاثة.لكن هذا الاختلاف لم يمنع هيكل من أن يوضع في نفس القائمة مع السابقين. فقد نافح كثيرًا عن دولة عبدالناصر. ووقف بعقله الداهية حائط صدٍ أمام الهجمات التي يتلاقها الزعيم. وانبرى بقلمه المُبدع يسوّق لدولته، ويُوطد دعائمها.


«الكماشة»: سياسةُ من لا سياسةَ له

مثلما فعل السابقون فعلت أردن «الشريف حسن»، وفعلت ليبيا «القذافي». وعلى النقيض منهما، هناك من الدول التي اختارت أن تعمل في إنجازاتها جنبًا إلى جنب مع شراء الرأي العام. كما تفعل «الإمارات» بتصدير الحديث الدائم عن إنجازاتها. ومحاولاتها الدائمة للفت الانتباه العالمي عبر إنشاءاتها الهندسية العملاقة. وعبر المبادرات المتتابعة لحكامها. وفي حالة «قطر» تداخل الأمران، فاستطاعت تصدير إنجازاتها. ورسم الصورة التي ترغب فيها بأذهان العالم. ذلك عبر إنجازها الأول والأكبر، وعبر الصحفيّ القويّ الذي أوجدته من العدم «قناة الجزيرة».

وكما تتباين الدول، يتباين الصحفيون. فدائمًا هناك الصادقون. وهناك المثقف المُخلص، الراغب في توعية الشعب لما يدور. لكن هذا النوع في أحسن الأحوال يتم تهميشه أو اعتقاله. وفي أسوأ الأحوال يتم تصفيته جسديًا، أو اغتياله معنويًا بفضيحة أو غيرها. ليتبق النوع الأثير للسلطة. ذراع «الكماشة» الأخرى. فالحكومة عبر سلطاتها وعبر السياسيين تحكم قبضتها على قمة الهرم. ويقوم الصحفيون عبر التبرير والتضليل بإحكام القبضة على عقول قاعدة الهرم. ليظل الهرم بكامله خاضعًا للدولة.