كنتُ أضغط نفسي لأبكي، وجدتني أغرق -أنا الحزين- في الضحك.

«ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالًا» هي المجموعة القصصية الأولى للقاص والروائي «يحيى الطاهر عبد الله» (1938-1981)، والتي نُشرت لأول مرة عام 1970. تضم المجموعة 12 قصة قصيرة. تدور سياقات القصص المختلفة حول فكرة الهيمنة التي تقع من فئات تتمتع بامتيازات معينة على فئات أخرى مسلوبة من هذه الامتيازات.

الهيمنة الذكورية

نشهد في أولى قصص هذه المجموعة (قصة «جبل الشاي الأخضر») الهيمنة الذكورية التي تتضح في طرق التعامل الصارمة للجد والأب مع باقي أفراد البيت، فالجد الذي اكتسب سلطته من اللهيب المتجسد في المجمرة التي يستخدمها في تحضير الشاي، اللهيب الذي يعرف جيدًا تأثيره من ترهيب وترغيب في نفوس الصغار، يتهم حفيده المرتعب أنه يبول على نفسه لأنه يحب النار المشتعلة، هذا الاتهام ما هو إلا تحذير للحفيد حتى لا يتمنى شيئًا ليس له، وتنبيه له لكي يعرف حجمه ومكانته، فالمجمرة ونيرانها هي ملك للجد، وليس لأحد آخر، فلا يمكن الحلم بها، أمَّا الأب الذي لا يمتلك المجمرة بشكل كامل بعد، فيمتلك شيئًا آخر وهو قوة الثور، قوة تُطيح بمن يقع تحت سيطرته بدون تفرقة وبدون وعي، في أي وقت وفي أي مكان، وبتشجيع من الجد، وقع الأب في ثورة غضب عارمة، بسبب اقتراب ابنته (الطفلة) من مفهوم العار في رأسه، فهاج وماج، وقرر تنفيس غضبه في الأطفال الصغار:

كان جدي مُمسكًا بسيخ ينتهي بحلقة وخطاف به جمر… كان يأمر أبي في غيظ: اضرب… اضرب يا كامل… كنتُ أشعر بطعم الطين في فمي وجانب وجهي نائم على السطح الترابي الذي لم يعد جافًّا… وكان الدم يسيل من جانب فمي ولا يتوقف… وكان ساخنًا ما زال… وكانت أختي معلقة من عرقوبيها بحبل مشدود إلى وتد ثبت بجدار الغرفة… وكان أبي يصعد ويهبط بكل جسمه كثور مذبوح… كان يرفع يده ويهوى بعصاه لينة رفيعة ويضرب الجسم العاري… والدم كان يشخب من الجسد العاري ويغطي وجهي ولا يجعلني أرى.

هيمنة العقل الجمعي

في قصص أخرى تأتي هيمنة العقل الجمعي على حساب فرد من أفراد المجتمع، عندما يتحد أفراد مجتمع ما لاستهداف واحد منهم، فنرى في هذه السياقات الرؤية والمناهج التي تتسيد هذه المجتمعات، والتي تتمثل في نبذ المختلف قولًا وفعلًا، وتجذر الخرافة والأساطير، والمعاكسة المستميتة لأي تفكير واعٍ ومنطقي.

نستشف هذا في قصة «طاحونة الشيخ موسى»، حين يقف أهل القرية ضد الخواجة الذي يأمل في توسيع تجارته بتشغيل طاحونة في القرية، لاعتقادهم العجيب أن الطاحونة لا تعمل إلا عندما تأكل طفلًا من أطفالهم. وفي قصة «محبوب الشمس»، يسخر أهل القرية من «محبوب» بسبب ملامحه التي تأبى مواجهة الشمس، وعندما يشتكي أبوه لشيخ القرية، يُضلِّله الشيخ بقوله إن ابنه قد تم اختياره لكي يكون أضحوكة القرية، حتى يُنفِّس فيه أهلها حزنهم، ويجب عليه أن يكون مُمتنًّا لهذا:

يا حاجَّة… الشيخ بيقول: «الرضا بالنصيب زي عمل الطيب تمام… ويا بخت من يصبر على المقسوم». وأضاف من عنده: «الناس حتلاقي إيه تنبسط بيه… ما العيشة غم في غم… خليهم يضحكوا على محبوب يمكن لقوا مصايبهم فيه».

هيمنة الطبقات الأقوى

في قصص أخرى تكون التراتبية في الهرم الوظيفي هي السبب الأساسي للهيمنة، فنرى لمحات عن عالم الوظيفة، العالم الذي يتضح أن له قوانينه الخاصة، قوانين ليست إنسانية، وبعيدة تمامًا عن المنطق، ومن لا يتشرَّب هذه القوانين، خاصةً من الموظفين الصغار في المرتبة الدنيا من الهرم، يُنتزَع تمامًا من هذا العالم، ويصبح خارجه، بلا قيمة، وبلا غطاء يحميه.

يظهر هذا في قصة «قابيل الساعة الثانية» الموظف الحكومي بدرجة صغيرة، الذي يريد أن يطلب إجازة يومين، للراحة والذهاب إلى قريته، ولكن لا يُعيره أحد أي اهتمام. وفي قصة «35 بلتاجي، 52 عبد الخالق ثروت»، نجد الموظف الرافض للطرق الملتوية في العمل، فيقف وحيدًا، بعيدًا عن صراع يعلم أنه لن يفوز به.

في قصص أخرى تشاء الظروف أن تقع جماعات كاملة تحت هيمنة جماعات أخرى. ففي قصة «ليل شتاء»، نشاهد حيرة الابن بسبب وضع عائلته المتدني في البلدة التي يحيون بها، ونكتشف صورة بعد صورة أسباب هذا الوضع، فأبوه غريب عن البلدة، وأمه من قبيلة مكانتها متدنية، ولهذا وجب على كل أفراد العائلة أن يُطأطئوا رؤوسهم، وأن يتقبَّلوا مكانتهم الوضيعة في البلدة، بما ينعكس عليهم من أحكام ومظالم:

«سيد» يعرف أن أباه يحل عقدة العقد لكل من هب ودب -ولكنه- لا يقدر على حل مشاكل ابنه مع أهل البلد، فهو «غريب عن البلد دي… مش قد حد… مش قد حد…».

كيف يرد الطرف الأضعف؟

تنوَّعت ردود أفعال الطرف الأضعف الواقعين تحت الهيمنة، ما بين الغضب جرَّاء الظلم الواقع، والتوسل واستعطاف الطرف الأقوى، ومناجاة الرب لنصرة الحق، والهرب لعدم القدرة على المواجهة، والاستسلام للقدر المحتوم.

وفي قصة «ليل شتاء» تحاول الأم أن تُدرِّب ابنها الغاضب الثائر على الطريقة الأفضل للحياة في قريتهم، وهي الاستسلام وعدم المقاومة، فتُهادنه طوال القصة بهدف أن يهدأ ويتناسى ويتعلَّم الاستسلام. وفي قصة «جبل الشاي الأخضر» تتوسل الزوجة لزوجها، حتى يكف عن ضرب ابنتهما التي تتسبَّب بلعبها الطفولي في جلب العار له. وفي قصة «ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالًا»، لا تجد الأم التي تحيا بالمخيم مع ابنتها، بعد ما توفى زوجها، وانضم ابنها للمقاومة لمحاربة المحتل، غير أن تُناجي ربها لكي يُعيد الحق لأهله وينصرهم. وفي قصة «35 البلتاجي، 52 عبد الخالق ثروت»، عندما يفشل تمامًا «عباس دندراوي» في مجاراة العالم غير الإنساني من حوله، يُقرر الهرب وقتل نفسه معنويًّا.

ينعكس صدى الصراعات على نفوس الأطراف الأضعف، وتترك تأثيرًا ممتدًا، حتى لو تخلصت هذه الأطراف من الطرف القاهر، فنرى أثر الدمار المُلحق عليهم واضحًا مهما اختلف الزمان أو المكان. ففي قصة «كابوس أسود»، والتي تصف طريق رجل مخمور عائد إلى بيته، نرى كم البؤس والحزن اللاحق بهذه النفس المغتربة:

كان مُحاصرًا بالسكون والظلمة والتعب، وقد كفَّ عن النداء، أحس بأن روحه مُنهكة، وأنه فعلًا مُضطهد ومقهور، وأنه حقيقةً يتعذَّب، شعر بالخوف لأنه مخمور ووحيد.

حيرة وحزن واغتراب

وفي العالم الوردي الذي لا يفهم فيه أحد معنى المعاناة الداخلية، نلاحظ طغيان الحزن والاغتراب على الشخصية الرئيسية في «حصار طروادة»، فنتابع محاولاتها على مدى القصة للهرب من الصحبة المتفائلة العابثة حولها.

كنَّا صباح الأحد، وكنتُ حزينًا، وكانت الصحف -الثلاث- تُرحِّب بمَقدم الربيع.

يظهر الأثر الممتد لهذه الصراعات أيضًا في الحيرة القاتلة التي تُعاني منها نفوس الشخصيات المقهورة، بين الرغبة في الشيء، والنفور منه، فنرى هذه الحيرة في قصة «محبوب الشمس»، فـ «محبوب» المُستاء من أهل قريته، يتمنى في النهاية عودة الشمس للقرية، لينقشع الضرر الواقع على أهلها، حتى لو جاء هذا على حساب السخرية منه. وفي قصة «قابيل الساعة الثانية»، نرى الموظف الحكومي «كمال» الهارب من جحيم قريته، يريد أن يهرب من جحيم العمل الحكومي، ليعود إلى جحيم قريته مرة أخرى.

بنية أغلب القصص مثيرة للتأمل، فهي تقترب كثيرًا من بنية الحكايات الشفاهية التقليدية، خاصةً مع توظيف الأساطير والخرافات، ومع ذلك هناك تقنيات حديثة مُستخدمة في رسم القصص، مثل تقنية تيار الوعي، التي نستشف من خلالها الأفكار المُشتتة للشخصيات، والتي تطل علينا بعدسة مهزوزة لنرى صورًا متواترة للتشذر في النفوس، بينما ننتقل بحرية بين الأزمنة والأمكنة.

هذه التفصيلات المتنافرة يربط بينها لازمة لغوية كحبل سُري قوي، تكون مدخلًا لهذه العوالم المهمشة. هذه اللازمات اللغوية لا تربط فقط بين الأجزاء المتباينة، ولكنها تُشعِرنا أيضًا بوجود دائرة مغلقة، تحدث بها الأحداث، وتبدأ وتنتهي بنفس النقطة، فتُصاب الشخصيات بالخنقة والشعور العارم باللاجدوى من محاولاتها المستميتة للهروب، ليكون الاستسلام في النهاية هو القدر المحتوم.

القصص لها لغة خاصة، فبالإضافة إلى استخدام تركيبات لغوية غير معتادة، ومفردات نابعة من بيئة القرية، نرى اعتمادًا كبيرًا على الرموز والدلالات، فمثلًا في قصة «ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالًا»، تستخدم الأم التي تحيا مع ابنتها في الملجأ، شجر البرتقال كرمز للأرض والجذر والأهل والأمل، فتطلب من ابنتها أن تنظر بقلبها إلى أشجار البرتقال، وتتنفس عبيرها الصافي.

قالت الطفلة: «ماما… برتقالًا معه لأجلي سيحضر». قالت الأم ساهمة شارقة إلى الضوء يملأ صحراء الخارج: «هناك لنا ثلاث شجرات كبيرة تثمر».

على اختلاف السياقات التي تحدث بها القصص، إلا إنها جميعًا تُعتبر مدخلًا لفهم الصراعات في العوالم العبثية، التي تغيب عنها أبسط القوانين الإنسانية، وما ينتج عن هذه الصراعات من اغتراب وتشظٍّ للنفوس البشرية، الرافضة للحدود المرسومة لها، فتحاول أن تصمد، وتُعافر، وتَجمَع أجزاءها المتناثرة، قبل أن تستسلم مُنهكة، لقوى لا قدرة لها على محاربتها.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.