لم يُفوّت «نيمار» فرصة أن ينال نصيبًا من الصخب والجدل الإعلامي هذا الصيف أيضًا، صحيح أن تلك المرة أقل من سابقتها عندما غادر في صفقة خرافية نحو النادي الباريسي، إلا أنه تمكن من جذب انتباه النقاد والصحفيين للتعليق على أدائه في المونديال.

صحيفة النيويورك تايمز ذهبت بعيدًا في تناولها لأداء نيمار، حيث استضافت «جيم كالدر»، أستاذ التمثيل بجامعة نيويورك، لمشاركة آرائه. «جيم» يتابع كرة القدم باستمرار، لكنه يعترف أنه لم يكن يشاهد نيمار، النجم الذي يستعد لقيادة السليساو نحو الحلم، بقدر ما كان يشاهد ممثلًا مبتدئًا يخطو خطواته الأولى على المسرح ويتحايل على لجنة التحكيم.

ما دفع جيم لهذا التصريح، ودفع صحيفة التايمز أصلًا لاستضافته للتعليق على أداء نيمار، هو حجم التناقض الذي يمثله اللاعب البرازيلي. هذا التناقض أيضًا هو ما يدفع الكثير من جمهور الكرة للانقسام حول نيمار اللاعب؛ نصف جمهور برشلونة يلعنه، والنصف الآخر يريد عودته. كثير من جمهور ريال مدريد يتمناه، وأكثر منهم أو أقل يرى أنه التفاحة الفاسدة التي ستدمر فريقهم. البعض يراه لاعبًا استثنائيًا سيملأ الفراغ بعد «رونالدو» و«ميسي»، والبعض الآخر يرى أن «هازارد» أو «جريزمان» أو «مبابي» أحق منه.

نيمار لا يقدم نفسه بصورة واحدة أبدًا؛ فهو ليس اللاعب الذي يكافح لتحقيق أمل بلده في الظفر ببطولة، وليس اللاعب الذي يناطح التحديات ويعيش لكسر الأرقام، ولا يمكن وصفه بالموهبة المُهدرة؛ لأنها لازالت حية وقادرة على الإدهاش.

لذلك فإن نيمار ليس ميسي، ولا رونالدو، ولم يصبح روبينيو بعد، هو أشبه ما يكون بالممثل المسئول عن تأدية ثلاثة أدوار في المسرحية الواحدة، كل دور منها يتناقض مع الدور الآخر، ويقتضي أن يرتدي له قناعًا مختلفًا ويسلك سلوكًا معينًا، ولا يبدو أبدًا أن نيمار عازم على التخلي عن أي واحد منها؛ وهنا تكمن المشكلة.


1. نيمار أمل البرازيل

الشعوب اللاتينية مجنونة بكرة القدم. ولا تمل من السفر خلف منتخباتها في كل بطولة.يفسر الأسطورة الأرجنتينية «خورخي فالدانو» تلك الحالة بأن الكرة تمنح اللاتينيين فرصة التفوق في مجال ذي شعبية على أمم لن يتمكنوا من مجابهتها في مجالات أخرى، لذلك فإنهم لن يتراجعوا عن مساندة منتخباتهم، والحلم بميلاد بطل جديد يحقق أملهم.

في البرازيل، توازى صعود نجم نيمار بين عامي 2011 و2013 رفقة نادي سانتوس، مع خفوت نجم أبطال السليساو كالظاهرة، ورونالدينهو، وكاكا، وروبينيو، وبالتالي، لم تجد الجماهير البرازيلية أمامها سوى التعويل على نيمار، ذلك المراهق الذي تصارع عليه قطبا الكرة الإسبانية، وتحوّل ليكون فرس رهان البرازيل في المونديال الذي تستضيفه أراضيهم.

بدأت البطولة، وتصاعدت ثقة الجماهير في نيمار بعد أدائه الجيد بدور المجموعات، لكنهم كانوا على موعد مع صدمة عارمة اجتاحت صفوفهم مع إصابته بدور ربع النهائي. حاول جمهور السليساو التماسك بعدما تأكد غياب نجمهم الأول عن مواجهة ألمانيا؛ ذهبوا كالموج المتدافع لملعب «مينيراو»، وغنوا النشيد الوطني بحماسة، وهتفوا لكل لاعب، لكنهم كانوا على بعد دقائق من أسوأ أوقاتهم الكروية على الإطلاق، إذ لم يحتاجوا سوى عشر دقائق ليكتشفوا الحالة الذهنية والفنية المنهارة للاعبي البرازيل أمام منتخب لا يرحم. نيمار شاهد من المدرجات كيف تجرعت الجماهير مرارة الخسارة القاسية، وأدرك كيف ارتبطت تلك الخسارة في أذهانهم بغيابه عن الملعب.

بعد عامين، كان نيمار يدخل لملعب الماراكانا كقائد للبرازيل بنهائي دورة الألعاب الأوليمبية، حيث جمعت الأقدار رفاق نيمار في معركة جديدة مع الألمان. وهنا كانت المفارقة تطرح نفسها بقوة: هل يثأر نيمار لجماهير السليساو بعد الهزيمة المذلة قبل عامين؟ هل يتمكن من كسر عقدة الألمان والفوز بالميدالية الأولمبية الأولى في تاريخهم؟ بالتأكيد نيمار كان يستشعر حجم الضغوطات التي تحاوطه، يظهر ذلك جليًا من احتفاله بركلة الجزاء الأخيرة التي سجلها وحسمت الأمور.

الشاهد أن كل هذه المحطات التي مر بها نيمار مع البرازيل أوصلته إلى نتيجة واحدة، وهي أنه سيلعب دور قائد الفريق وعامل الحسم الأول، وبالتالي فإن تأثيره سلبًا وإيجابًا سينعكس على أداء السليساو أكثر من أي لاعب آخر. مفارقة أخرى بدأت في مطاردة نيمار: هل يمتلك البرازيلي النضج الكافي والقوة الذهنية لأداء ذلك الدور؟ الإجابة كانت في المونديال.


2. نيمار ومتلازمة بيتر تاون

تصريح لـ«لوثار ماتيوس» قائد منتخب ألمانيا السابق

نيمار كان واضحًا دومًا في أمر واحد، وهو أنه يمارس كرة القدم فقط وفقًا لشروط يضعها هو؛ دعك من أنه يدفع بوالده كي يتربح من كل نادٍ يلعب فيه لمجرد أنه والده، وقد حصل الأب من برشلونة فقط على أكثر من 90 مليون يورو، ودعك أيضًا من اشتراطه أن يتحمل ناديه كلفة زيارة ترفيهية لمجموعة من أصدقائه البرازيليين مرة كل شهرين، ودعك حتى من عقده الذي يتضمن أحد أكثر البنود عبثية في إعفائه من أي مباريات أو تدريبات يوم ميلاد أخته. دعك من كل ذلك وارجع فقط بالتاريخ قليلًا.

هناك في سانتوس، كان نيمار لايزال مراهقًا بعد أن ذاع صيت موهبته،عاقبه المدرب «دوريفال جونيور» ذات مرة بخصم من راتبه بعدما اعترض نيمار على الحرمان من تنفيذ ركلات الجزاء. ماذا حدث بعدها؟ كان المدرب يحزم حقائبه للرحيل في اليوم التالي بعد أن وضع نيمار الإدارة أمام خيار حاسم بينه وبين دوريفال!

الأيام أثبتت أن هذه الواقعة لم تكن نتيجة لصغر سن نيمار، بل تكرر صدامه هذا مع «خوان أونزي»، مساعد «لويس إنريكي»، لمجرد أن الأول حذره من مصير «رونالدينهو»، ثم انتقل لباريس ليفاجئ الجميع في الأسابيع الأولى بمعركة علنية مع «كافاني» على تنفيذ ركلات الجزاء، حتى «يوناي إيمري» نفسه لم يسلم، وقد نشر موقع جول تقريرًا يكشف فيه عن معاناة الإسباني مع عدم التزام نيمار بتعليماته التكتيكية.

نيمار شخص أناني، لكنها أنانية من ذلك النوع الذي يصاحبه كثير من القرارات الطائشة وعدم النضج، أو ما يسميه المعلق البرازيلي المخضرم «جوكا كفوري» بـ«متلازمة بيتر بان». «بيتر» هو شخصية روائية عن شاب لا ينضج أبدًا ويهرب من المسئوليات كلما واجهته، وقد اختار «كفوري» هذا التوصيف بعد مباراة البرازيل مع كوستاريكا، عندما تسبب نيمار في إهدار أكثر من فرصة بسبب رغبته الدائمة في التحايل من أجل الحصول على ركلة جزاء، وهذا رغم علمه بوجود تقنية الـVAR التي ستبرز للحكم مدى سخافة ما يقوم به، وحتى بعد أن تحول صراخه المستمر وادعاؤه الإصابة في مباراتي المكسيك وبلجيكا لمادة خام للسخرية حول العالم.

نيمار بدا لكفوري باحثًا عن الكاميرا في كل لحظة. يريد أن يشعر أنه محور البطولة، ولم يفق من تلك الحالة إلا عندما وجد سهام النقد تحاصره بعد أن سجل هدفين فقط وصنع ثالثًا، وخرج من ربع النهائي دون أن يحقق الحد الأدنى من طموحات جماهيره.


3. نيمار صاحب البالون دور

ليس سرًا أن عرّاب برشلونة الراحل «يوهان كرويف» قد عارض شراء نيمار من الأساس، حيث يؤكد كرويف أن بقاء نيمار إلى جوار ميسي في فريق واحد لن يدوم بأي حال، ولن يتمكن مدرب واحد من إدارة كل هذا الكم من الاستثنائية على أرضية الملعب لفترة طويلة. صحيح أن البرازيلي قد صرّح في أول الأمر أنه جاء لبرشلونة لمساعدة البرغوث، لكن نيمار كان يبحث عن الوقت الأنسب لخلافة ميسي على منصة البالون دور.

تأخر ذلك الوقت فأدرك أن بقاءه في البلوجرانا لن يساعده على الظفر بالجائزة، لهذا فإن خروجه من كتالونيا كان أمرًا متوقعًا، الفكرة كانت في اختيار وجهته القادمة. في النهاية اختار نيمار باريس، وأشار إلى أنه أُعجِب كثيرًا بمشروع النادي، هذا المشروع بالتأكيد لم يكن هدفه الأول سوى الظفر بالبطولة الأوروبية، وهي البطولة التي ستضاعف من أسهمه كثيرًا إذا قاد الفريق العاصمي للفوز بها. لكن قيادة باريس في مثل تلك المهمة ليست بالأمر اليسير، إذ يفتقر رفاق «فيراتي» لعدد من المميزات التي تجعلهم أبطالًا، أولها بالتأكيد هي الشخصية التي تغيب خلال المباريات الكبرى.

وبالنظر إلى ما قدمه نيمار بالبطولة الأوروبية خلال الموسم الفائت، ستكتشف أن البرازيلي لم يضف المطلوب منه على المستوى الجماعي. صحيح أن باريس فاز على بايرن ميونخ بثلاثية، لكنه فاز على أسوأ نسخ الفريق البافاري، وقد تمكن الألمان رغم حالتهم المتراجعة من رد الهزيمة الثلاثية على ملعب أليانز أرينا.

كما خسر الباريسيون ذهابًا وإيابًا أمام الميرينجي، وخلال مشاركة نيمار في مباراة الذهاب بمدريد ظهر كم الفردية الكبير في أداء اللاعب البرازيلي، ففي الوقت الذي كان عليه فيه التمرير السريع لمبابي وكافاني، تفرغ نيمار للمراوغات والتغوّل وسط التكتلات، وهو ما تسبب -بحسب موقع سبورت سكيدا– بإفساد خمس فرص تهديفية!

هناك هوّة بين الأدوار التي يقوم بها نيمار في باريس، وبين تلك التي يقوم بها ميسي أو رونالدو أو دي بروينة مع فرقهم، الأول قضى أغلب العام الفائت في دوري محدود المستويات، وهو يستعرض ويراوغ ويستهزئ بالخصوم، والثلاثة الآخرون ينافسون في أقوى مستوى ممكن بكل جدية وفاعلية، بل ينالون النقد عندما لا يظهرون بأدائهم الاستثنائي، هذه الأداء الاستثنائي الذي لم يقدمه بعد نيمار في عاصمة النور.

ثلاثة في واحد

نيمار أحد أفضل خمسة لاعبين في العالم، لماذا إذن يحتاج كل هذا التمثيل؟

نيمار يريد كل شيء؛ يريد أن يفوز ببطولة وينقش اسمه بحروف من ذهب مع عظماء السليساو، ويريد أن يصبح الاسم الأول المرشح لجائزة البالون دور بعد حقبة «ميسي-رونالدو»، ويريد في الوقت ذاته أن يراكم مئات الملايين في حسابه وحساب والده، ويريد أيضًا أن يمتلك الحرية الكاملة في قراراته داخل الملعب وخارجه دون رقيب!

المشكلة الحقيقية أن كل ذلك لا يمكن تحقيقه سويًا. فلا يمكن أبدًا لأي لاعب، مهما كانت درجة إمكانياته، أن يقود منتخب بلاده للقب المونديال وهو مشغول بالتحايل وادعاء الإصابة. ولا يمكن أن يصبح عامل الحسم الذي يمنح أفضلية لفريقه على أندية كريال مدريد وبرشلونة، وهو لا يلتزم بتعليمات مدربه ويدخل في خلافات علنية مع زملائه. وبالطبع لا يمكن أن يختار الخطوة الصحيحة التي تخدم مسيرته إذا كان تفكيره ينصب على الأرصدة والحسابات.

نيمار لم ينضج بعد على الصعيد الشخصي والجماعي، ويرى أن من حقه خرق تعليمات المدرب باستمرار، وهو معرض دائمًا للتشتت بسبب الضغوط المتراكمة فوق كاهله، كل هذه عراقيل تقف في مسيرة لاعب لا غبار على إمكانياته الفنية الرائعة.