(1)

يومُ الحشرِ… سكوتٌ وسكونٌ رهيب!

لا جبابرة ولا قياصرة، لا سلاطين ولا ملوك ولا أمراء، لا بنوك ولا بورصات، لا مكاتب صيارفة ولا حسابات بنكية، لا نوادي ولا ملاعب ولا ملاهي، لا أغاني ولا كليبات، لا ساسة ولا سياسة، لا قنوات فضائية ولا أرضية ولا محطات إذاعية، لا مُتكلمين ولا مُفوهين ولا مُستمعين، لا حقوق إنسان ولا جمعيات للرفق بالحيوانات، لا سيارات ولا دراجات، لا أحصنة ولا بغال وحمير، ولا حتى (توك توك)، ولا طرقات، لا هايبر ماركت ولا سوبر ماركت ولا كشك سجائر، لا مُجنزرات ولا مدرعات ولا طائرات، لا أكواخ ولا أكشاك، ولا ناطحات سحاب!

لا شيء… لا شيء!

وفجأة!

نفخة رهيبة مخيفة، وصوتٌ ما له من شبيه ولا مثيل!

الصوتٌ عالٍ، يردد صداه الكونُ الرحيب، والفضاءُ الفسيحُ، والنفخةٌ عالية عاتيةٌ، ما لها من صدود، هبت على كل الأشياء، وكل المخلوقاتِ، وكل المدسوسات والمكنونات والمدفونات والمكنوزات.

فتقتربُ المتفرقاتُ، وما مزقها الشتاتُ، والحباتٌ ومثقالُ الذرات، وكذلك المُبعثرُ والمحروقُ، والمأكولُ والمهضومُ، وما افترسته المفترسات، وما ابتلعه اليمُ، وواراه تحت أطواد موجه العظيمة، وما ذرته الذاريات، وما راح وتاه في الفضاء، وما اختفى وضاع في طبقات الأرض، وما ذاب وامتزج مع غيره، فذهب وتلاشى.

كلُ الأشياء تقترب بعضها من بعض وتجتمع، بعدما أتت جميعها من الفناء ومن العدم، وتدنو حتى تتلامس وتلتصق، وتلتحم وتلتأم، وتصيرُ أجزاء وأعضاء، ثم أبداناً وأجساماً، كاملة الأشكال والهيئات، بها كل السمات والصفات، التي كانت بها من قبل، وكاملة القوامة والسلامة وغير منقوصة، فتعودُ وتصبح كما خلقها الله أول مرة، كأن لم يمسسها تحللٌ ولا عطب، ولا انحلالٌ ولا انفصالٌ وتفككٌ، ولا دودُ المقابر أجهز عليها وألتهما، فتبدو كما كانت، وكأن الله البارئ الخالق، قد خلقها وأوجدها تواً.

ثم…

ثم تنزلُ الأرواح، وتغشى كل روحٌ البدن الذي خرجت منه وفارقته من قبل، من غير أن تكون قد نكرته، أو غُم عليها أو نسيته، وفي صعيدٍ واحدٍ، وبلا تراخٍ ولا تكاسل، يقومون جميعاً من مراقدهم، كلٌ من حيثُ كان، ومن حيثُ غيّبه العدمُ والفناءُ، ومن آخر مكانٍ استقر به مقامه، بعد أن مات وبلي، ويخرجُ الجميع من محابسهم التي كانوا فيها، يخرجون وهم ينظرون، مُندهشون، شاخصة أبصارهم، يسيطرُ عليهم الخوفُ والذهول.

ولكنهم صامتون! لا يتكلمون!

ثم!

يتجمعون ويحتشدون!

 ثم!

يُحشرون!

فلم يستطع أحد منهم المغادرة!

فيلقونهم الملائكة ويستقبلونهم، مُوجهين لهم، ومُعطوهم الإرشادات والتعليمات بما سيفعلونه، ومُخبروهم بما سيكون من أمرهم، وبما سيحدث لهم، وخطة الحساب في هذا اليوم، وكيف سيصيرُ، وكيف سيكونُ.

ثم!

يبدأُ الموكب في التحرك والمسير، فيسيرون أفواجاً أفواجاً، يموج بعضهم في بعض، قاصدين ساحة العرض والحساب، فيكونون وكأنهم جرادٌ منتشر، أو كأنهم أمواجُ بحرٍ متلاطمة.

هذا الجمع الرهيب.

فيهم رجل.

جرى عليه ما جرى على الجميع، فقد خرج من قبره الذي دُفن فيه بعد مماته، خرج كما خرج الناسُ من قبورهم، وذُهل كما يذهلون، وخاف كما يخافون، ولكنه كان أشد منهم خوفاً ورعباً وذهولاً، وأكثرهم ارتعادا وارتعاشاً.

الحشدُ المهيبُ يمشي ويسير.

وهذا الرجلُ يسير وسطه مع منْ يسيرون، وقد انحنى ظهره للأمام، بفعل فاعلٍ، فزاده ذلك تعباً ورهقاً، وكلما أراد أن يقيم ظهره أو يستقيم معتدلاً، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فتحسّس ما يمنعه من هذا، وليرى ما هو الذي أحناه إلى الأمام هكذا وقوسه، فإذا الفاعلُ هو كرسي كبيرٌ ثقيل الوزن، التصق بمقعدته وظهره، ولا يستطيع منه فكاكاً ولا تخلصاً، أخذ ينظرُ عن يمينه وعن شماله، يريدُ من يفك عنه ويُخلِّصه من هذا الكرسي اللعين، الذي التصق به التصاقاً، وارتبط به الآن ارتباطاً، في هذا الوقت العصيب!

وأخذ ينادي على من حوله.

– أنت، أنت يا هذا، أنت أيها الرجل، أنتِ أيتها المرأةُ!

فما وجد فيهم منْ يسمع له ولا منْ يُجيبه، ولا منْ أحدٍ يفعل هذا عنه، يساعده ويُعينه، ثم أخذ يُعيد الرجل الكرة مرة أخرى، لعله يجد بغيته في مُعينٍ أو مُساعدٍ، وأخذ ينادي على هذا وذاك، فما حتى لفت نداؤه انتباه أحد من الناس وهم كثير.

في هذه الأثناء!

والرجل به ما به من همٍ وتعبٍ ونصب، وعليه ما عليه، من حملٍ ثقيلٍ على ظهره، فقد ازداد ذهولاً واندهاشاً!

رأى شيئاً عجباً!

فقد أبصر ورأى بعينيه، رأى الرجال والنساء جميعهم عارٍ تماماً، وجدهم حُفاة عُراةٌ غرلاً، مُجردون من كل شيء، ما تسترهم ساترة، ولا تمنع رؤيتهم مانعة، وما منْ أحدٍ يحاولُ أن يمنع سوءته، ولا عورته عن أعين الآخرين، ولا طافقٍ يخصفُ على نفسه بسترةٍ ليسترها، وكأنهم مُطمئنون أنهم مستورون بسترة لا يعلمونها وفي مأمنٍ، ولن يتلصص عليهم أحد، حتى النساء كذلك، الكل يسيرُ في الموكب، وكأنه يسير وحده، لا أحد غيره يسير فيه، غير مهتمٍ بهذا الأمر، ولا مبالٍ بأحدٍ من الخلائق حوله!

تعجب الرجل تعجباً، ومع ما رأى وشاهد، لم تتحرك في نفسه، ما كان يمكن أن يتحرك فيه، في أي وقتٍ قبل هذا! ولا حتى نازعته أدنى نازعة من الشهوات، ولا غالبه هوى!

ونظر إلى نفسه!

فوجد نفسه كما وجد الناس من حوله.

إنه مثلهم عارٍ تماماً، ومجرد من كل ملابسه!

– يا إلهي! ما هذا الذي أنا فيه؟ أنا مثلهم عارٍ تماماً، ولا سترة تسترني، ومجردٌ من كل قيمة وقامة كانت لي، أنا منهم ولا ميزة لي عنهم… أنا الملك! أنا الملك!

– أنا لا أعلو عليهم بشيء، ولا مكانة لي تفوق مكانتهم، فكلنا هنا متساوون، أين قصوري والأنهار التي كانت تجرى من تحتي؟ أين الخدم والحشم، وأين الحرس من حولي؟ وكانوا ينحنون لي إجلالاً وتعظيماً، أين ملابسي الفخمة؟ أين الذهب والفضة؟ أين تاجي وصولجاني؟ أين زينتي التي كنتُ أتزينُ وبها أتباهى وأفتخر؟ وأين ذهبت هيبتي؟ أين الكرسي الذي كنتُ عليه أجلس، وأحكم وأتحكم في الناس من خلاله؟ نعم أين الكرسي؟

هنا تذكر الرجل!

ثم فزع!

ثم صرخ!

– إنه هو، هو الذي أحمله على ظهري الآن، نعم هو الكرسي الذي أحمله، هو العائق والحملُ الثقيل، هو الشيء الوحيد الذي جئتُ به من هناك، هو فقط من كل ما كان بي من نعم، هو فقط ما خرجتُ به، ولكن بدلاً من أن يكون تحتي، وأجلس عليه أنا وأعلوه، علاني هو، وجعل ظهري له مطية.

ومرة أخرى، وبتلقائية، وكأنه تذكر أنه ملك، ودون أن يدري، نادى بأعلى صوته.

– يا حرس، يا حرس، ارفعوا هذا عني، حرّروا ظهري من هذا الكرسي اللعين.

ومع تزاحم واقتراب الأجسام والأبدان، بعضها من بعض، حتى كادت أن تتلاصق!

فما سمعه أحدٌ، ولا التفت إليه.

هنا!

تيقَّن أن الأمر جدٌ، وما هو بالهزل، فاستسلم للأمر، الذي فُرض عليه فرضاً!

وسار بحمولته يئنُ ويتأوه، من أثر شدة الرهق والنصب، وهو لا يستطيع منها فكاكاً، ولا يستطيع حتى توقفاً للحظات، ليأخذ قسطاً ولو ضئيلاً من الراحة، وليلتقط أنفاسه، حتى كانت مفترق طرق كثيرة، وكان عليها من الملائكة كثيرون، منهم السائقون، الذين يسوقون الناس أمامهم، والمُوجهون، والمعطون تعليماتهم للسائرين، إلى حيث يجب أن يسيروا، فكل واحدٍ في هذه الأفواج له طريقه الخاص به، يبدأُ من هذه النقطة، وعليه أن يسلكه دون غيره من الطرق.

وسيق الرجل إلى حيثُ يجب أن يسير، سيق في طريقٍ خاصٍ به وبأمثاله، يسوقه ملكٌ من الملائكة سوقاً، ولاحظ الرجل أن كل منْ يسيرون معه في هذا الطريق مثله، ظهورهم كانت مطايا، ولكن اختلفت وتباينت الأشياء التي يحملونها، حتى اعترضتهم عقبة، وهم يحاولون أن يصعدوها، ولكنها كانت عليهم كؤود، والرجل معهم يفعلُ مثلما يفعلون، فأراد أن يتراجع، ولكن كان هناك منْ يمنعه، ويسوقه للأمام ويدفعه دفعاً، فيكبو الرجل على وجهه، بما يحملُ على ظهره، فيُضرب ضرباً ليقوم، فيقومُ والكرسي ما زال متشبثاً به، لا يشاء أن يفارقه، وأخذ يُعيد محاولة الصعود والتي لابد منها، والمشقة مع كل خطوة تزدادُ والمصاعبُ، حتى وصل إلى نهايتها في الأعلى، ووقف على القمة مع الواقفين.

نظر الرجل إلى الأسفل، فإذا هو وادٍ ممتدٌ مد البصر، ما له من نهاية، به خلقٌ كثيرون، لا يُحصى عددهم، يمدون رقابهم إلى الأعلى، ليشاهدوا هؤلاء الذين يقفون على هذه العقبة، يشاهدونهم كلاً بحمولته، التي يحملها على ظهره، فأصبحوا جميعاً في مكانهم هذا مكشوفين منظورين، وكأنهم وقوفٌ على خشبة مسرح، لا يخفى على المشاهدين منهم أحد.

حتى أسماؤهم! وأسماء أمهاتهم وآبائهم!

ازداد ذهول الرجل ذهولاً.

تحيَّر!

وأراد أن يستدير ليرى وليسأل منْ يسوقه عمّا يشاهده، وما إن همَّ ليفعل هذا، فإذا بصوتٍ قوي قد أرعبه وأرعده.

– أنظر أمامك يا ابن أبيك، ولا تلتفت خلفك.

يملأُ الخوفُ قلب الرجل ويُوجله، ويتكلم وهو يرتعد!

– أرجوك… أرجوك… أريدُ أن أرى وجهك لأسألك، ولأستوضح منك ما غُم عليّ فيما أنا فيه الآن.

– لا، لن تراني، ولكن تكلم وأنت هكذا، ناظراً إلى الأرض، ذليلاً مهيناً تعيساً، يا أيها الشقي.

– هذا ذل وإذلال، ما يصح أن يكون لإنسانٍ مثلى، وأنا ملك! نعم أنا ملك! أنا ملك! ألا تعرفني؟

– اليوم أذلك الله بعدله، أمّا أنت أيها الملك، فأذللت الناس ظلماً وعدواناً بهذا الكرسي، الذي جلست عليه عمراً طويلاً، وكلما طال عمرك عليه، ازداد شقاء الناس وتعاستهم، وكلما ازداد شعرك بياضاً، ازدادت أيام سلطتك سواداً، وما رأى الناس منك عدلاً قط، أمّا كونك ملك، فهذه أمانة ما صنتها ولا حفظتها.

– يعنى هذا الكرسي هو سبب شقائي وعذابي المهين هذا؟

– اليوم بهذا الكرسي، ترى الذل والعذاب المهين، أو كنت به ترى السعادة والثواب العظيم، إن أنت أحسنت استخدامه.

– ولكن فكه وحله أولاً وأبعده عني، بعدما علَقَ بي والتصق بهذا الشكل المهين، وأصبحتُ به بين الخلائق مفضوحاً!

– أليس هذا ما كنت تحبه حباً جماً، وما شئتَ أن تتركه لغيرك أبداً؟ هذا الكرسي اليوم هو لك، أفهمت؟ اليوم به أنت تُنعم أو تُعذَّب.

استغرب الرجل مما سمعه، ولفتت انتباهه بعض الكلمات، لن تراني. اليوم. تُنعم. تُعذب. فصرخ قائلاً.

– ماذا تعني بكلمة اليوم؟ ولما النعيم والعذاب فيه؟ أي يوم هذا، الذي نحنُ فيه الآن؟

– هذا اليوم ما لم يخطر ببالك قط، وما كنت تذكره، اليوم يوم الحشر، اليوم يوم الحساب، اليوم يوم القيامة!

– وما القيامة؟ ومنْ أنت، أخبرني؟

– أنا أحد الملائكة، الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وأنا الموكل بك حتى المرحلة التالية من الحساب، أمّا القيامة فهو ما يحدث الآن، وما سيحدث لك، وهذه البداية فقط.

– ولماذا أنا واقفٌ هنا؟ وعلى ظهري هذا الكرسي؟ وكل الخلائق ينظرون، وأنظارهم ما حولوها عني.

– هذه عقبة الأمانات، هو مكانٌ عالٍ، يتوسط خلق الله جميعاً، يقف كلُ مُضيعٍ لها، يحملها على ظهره، مُفتضحاً أمره بين الناس أجمعين.

– وهل هذ الكرسي أمانة وقد ضيعتها أنا؟

– هذا الكرسي من أعظم الأمانات، وضياعها وحفظها لهو عند الله عظيمٌ، وقد ضيّعتها بعدما استأمنك الله عليها، وجعلك خليفة في الأرض، تحكم بين الناس بالعدل.

– إذن، اليوم يوم القيامة، فأين الله؟ وهو فقط منْ سيحاسبني، أريد أن أراه! أريدُ أن أرى الله!

– ما جئتَ به يا هذا من الإيمان ومن الصالحات، لا يسمح لك برؤية ملك من ملائكة العذاب مثلي، فكيف برؤية الله سبحانه وتعالى؟ يا هذا، إنك من الذين لن يُكلمهم الله اليوم، ولن ينظر إليهم أبداً، فقد نسيك الله كما نسيته أنت! ومع ذلك فسوف يُحاسبك هو!

أخذ الرجل يصرخ.

– كيف؟ كيف؟ أنا كنتُ أُحسِن الظن بالله، وكنتُ أعلمُ أن الله غفورٌ رحيم، أليس هذا كافياً؟ أليس هذا إيماناً به؟ وكنتُ على يقين، أني لو رُددتُ إليه، لو رُددتُ إليه! لأجدن خيراً مما كنت فيه من النعيم، أليس الله هو منْ أنعم عليّ في الدنيا؟ ومكنني منها ومن هذا الكرسي، لأحكم الناس بما أراه أنا، هذا الذي عملته كان صالحاً؟ نعم، ما فعلته في الدنيا كان صالحاً، لأنني ظننتُ خيراُ في الله، ثم أنك قلت إن الله قد نسيني! وهو الإله القادر! فكيف بي أنا الإنسان الأقل منه، ألا أنسى وألا أُخطئ؟

أغضب هذا الكلام المَلَك، ففزع فيه.

– لقد كذبت يا هذا، وما زلت تفتري على الله كذباً وزوراً وبهتاناً، وتقولُ على الله ما ليس فيه، يا هذا، (وما كان ربك نسياً)، فقد نسيك ليس لنقصٍ في ألوهيته حاشا له، حاشا له سبحانه وتعالى، ولكن نسيانه لك عقاب، ولأنك تستحق ألّا يذكرك الله ولا ينظرُ إليك، وهذا عقابٌ من جنس عملك.

يا هذا، لو أنك أحسنت الظن بالله، لأطعته وأحسنت العمل، وحكمت بين الناس بعدل الله، وما خدعك وأطغاك هذا الكرسي، الذي تدعوه باللعين، وهو المُسبِّحُ باسم الله أكثر منك، وقد كان يمكنُ أن يكون سبب سعادتك الأبدية الآن.

– ولكني كنت ملكًا، نعم كنتُ ملكاً على الناس، وما كان لي أن أكون بين بقية الخلائق هكذا، متواجداً بينهم ومثلهم، وما يحدث لهم يحدث لي مثله.

– اليوم لا أنساب بينكم، ولا فضل لأحدكم، إلا من انتسب لله بعمله الصالح فقط، ألم يخبرك الله سبحانه وتعالى، إن أكرمكم عنده أتقاكم، اليوم ملكٌ واحد فقط، هو في الأرض وفي السماء، هو الله الذي لا إله إلا هو، يحكمُ بين الناس بالقسط وبالعدل.

فعرض عليه الرجل عرضاً.

  • اسمعني: أنا أملكُ مالاً كثيراً، هل من الممكنِ أن أفتدي به نفسي مما أنا فيه الآن؟!

فأجابه الملك.

– يا هذا… ولو كنت تملك ملء الأرض ذهباً وفضةً، وافتديت به نفسك، ما نفعك هذا ولا ذاك.

ثم أخذ يقول وهو يدفعه إلى الأمام دفعاً.

– هيا، هيا تقدم إلى الأمام، إلى رحلة الحساب العسير.

وأخذ يسوقه إلى الأمام، كما تُساق البهائم إلى حظائرها!

(2)

في القصر الملكي، الفاخر الكبير.

وعلى سريره الوثير.

الملكُ يستيقظ من نومه، ويقومُ جالساً فزعاً مذعوراً، كأنه قد لدغته لادغة، قام وهو يتصببُ عرقاً، فأخذ ينظر حوله، فإذا بكل الأشياء كما هي في مكانها، وكما نام عليها، وما تغير منها من شيء.

ثم أرسل ببصره ناحية الكرسي.

فوجده كما هو، لم يمسه أي تغير.

وجده مكانه ما تحرك منه، وليس هناك منْ يستطيع ذلك، لكبر حجمه ولثقل وزنه!

إذن…

– هي أضغاثُ أحلام، أو كابوسٌ هاجمني، من أثر ما تناولته في العشاء! فلا شيء، لا شيء يدعو للقلق!

ولكنه تذكر شيئاً مهماً، تذكر أنه لابد أن يأخذ حذره ويحتاط ممّا حدث وما رآه، ولن يسمح أن يتكرر مرة أخرى بعد الآن!

وبصوته الجهوري أخذ يصرخ بأعلى صوتهما وبكل قوة.

وهي عادته.

– يا حرس، يا حرس.

يأتون إليه مُهرولين مُسرعين، ويصطفون أمامه صفاً، وينحنون له انحناء.

– أمر مولانا الملك المُعظَّم.

ثم وهو يشيرُ إلى الكرسي!

– هذا الكرسي اللعين! ارفعوه الآن وفوراً من مكانه، وخذوه بعيداً عن هنا، وحرّقوه حرقاً، حتى لا يبقى منه شيء، ثم تأخذوا ما تبقى من رماده، وتذروه في اليم ذرواً، لا أريد له أثراً بعد اليوم.

– أمر مولانا الملك المعظم يُنفَّذ في الحال.

ثم يُكمِل الملك أوامره.

– بعد ذلك، عليكم بصنع كرسي للعرش عظيم، بدلاً منه، وأحسن وأفخم.

ولكن!

اسمعوا جيداً! اسمعوا جيداً!

على أن يكون الكرسي الجديد، أخف كثيراً كثيراً في الوزن من سابقه!

(تمت)