قبل أيام، كانت منطقة سهل الغاب غربي محافظة حماه، ساحة معارك دموية استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة وخلّفت نحو 200 قتيل. هذا خبر ربما لا يثير انتباه القارئ العادي لكثرة تكراره في سوريا، لكن عندما نعلم أن طرفي المعركة هما «قوات النمر» التي يقودها العميد في جيش النظام سهيل الحسن، وقوات «الفرقة الرابعة» التي يقودها ماهر شقيق الرئيس السوري بشار الأسد، فهذا يعني الكثير. ويبقى السؤال الآن؛ كيف نفهم ما يحدث؟


فلاش باك: كيف أصبح «النمر» نمرًا؟

كل جيش بحاجة إلى رموز وأبطال، تتحرك على الأرض، تشحذ الهمم وتشد الأزر، تشارك الجنود همومها ومخاوفها وآمالها. جيش نظام الأسد ليس استثناءً من هذه القاعدة. ولما كان بشار الأسد طبيب عيون لا يبرح قصره وغير قابل ليكون أسطورة في المعارك، كانت الحاجة إلى خلق أيقونات عسكرية أَمَسِّ.على مدى السنوات الثمانِي الماضية، خلقت الدولة الأسدية العديد من الرموز، على رأسهم العميد سهيل الحسن الملقب بـ«النمر»، والذي يوصف بأنه قائد المعارك الكبرى المظفر وقاهر الإرهابيين الدواعش. نفخ النظام في الحسن وضخّم صورته حتى سار رمزًا للعسكرية السورية، وبات صيته ونفوذه يتجاوزان قيادات وأسماء كبرى في الجيش. فجأة، كبر سهيل. تحول من فِزْر صغير مستأنس، إلى نمر كبير متوحش يسعى إلى حصد ثمار صيته وإنجازاته العسكرية، وأخيرًا عض يد آل الأسد.بدأ الحسن يشب عن الطوق لتدخل العسكري الروسي في سوريا أواخر العام 2015. قدمت موسكو إلى سوريا وإيران وميليشياتها ترمحان فيها، فكانت بحاجة إلى بناء نفوذ موازٍ. قربت روسيا سهيل الحسن منها، وأمدت قواته بأسلحة حديثة، وجعلته وكيلها على الأرض في أغلب المعارك العسكرية التي دعمتها كالسيطرة على قاعدة كويرس الجوية، وتدمر، وحلب، وحماه، ودير الزور والغوطة الشرقية، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسهمه لدى قواعد النظام السوري الشعبية، خاصة وأن النمر علوي هو الآخر.كرمت موسكو الحسن مطلع عام 2016، ومنحته وسام الشجاعة، وهو ثاني أرفع وسام في روسيا الاتحادية. ومع تزايد أهميته، أصبح مقيمًا بشكل شبه دائم في قاعدة حميميم العسكرية في اللاذقية، التي تضم أكبر تجمع للقوات الروسية في سوريا، ويصحبه في كافة تحركاته الخارجية حراسة روسية خوفًا من اغتياله على يد نظام الأسد. وفي أغسطس/ آب 2017، كرم النمر مرة أخرى ومنحه رئيس هيئة الأركان الروسية، فاليري غيراسيموف، سيفًا، تقديرًا لدوره في مواجهة «عصابات الإرهاب الدولي».التكريم الأبرز لسهيل الحسن، حصل عليه أواخر عام 2017، عندما حضر مع بشار الأسد لقاءً خاصًا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أشاد بجهوده، وهو لقاء غاب عنه وزير الدفاع السوري ورئيس الأركان!

بات واضحًا منذ ذلك الحين أن النمر أصبح رجل روسيا العسكري في سوريا، وأنه ربما يصبح في المستقبل القريب بديلًا لبشار الأسد. حاول الأخير، ومعه حلفاؤه الإيرانيون، تحجيم نفوذ سهيل و«قصقصة ريشه» عبر الدفع باللواء ماهر الأسد إلى الواجهة وإعلانه قائدًا للفرقة الرابعة المعروفة بكثرة عددها وتسليحها النوعي، في خطوة اعتبرت مقدمة لتمكين ماهر من قيادة الجيش، لقطع الطريق على روسيا لتعيين قيادات موالية لها في الجيش السوري مثل العميد الحسن.


الصراع بين موسكو وطهران

طوال السنوات الماضية، كانت أصوات القذائف والانفجارات والمعارك الدائرة على كامل التراب السوري، تغطي على الخلافات الروسية الإيرانية. طهران كانت غاضبة من روسيا بسبب سماحها لإسرائيل بدخول المجال الجوي السوري، أكثر من مرة، وقصف أهدافًا تابعة لها. أما موسكو فكانت تفضل الحفاظ على تحالفها مع تل أبيب على التحالف مع طهران، كما ترغب في تحجيم نفوذ إيران وميليشياتها استعدادًا للمستقبل.ومع الاقتراب من تسوية الأزمة السورية، بدأ الصراع المكتوم بين روسيا وإيران، للأسباب السابق ذكرها ولأجل السيطرة على النفوذ والموارد في سوريا، يطفو على السطح. كلتا الدولتين قدمتا في هذه الحرب مليارات الدولارات ومئات الأرواح، ويعتقدان أنه قد آن الأوان لجمع الغنائم.في إطار عملية جني الثمار، وقعت شركات روسية العديد من العقود مع النظام السوري، منها عقد «عمريت» الذي يتيح لشركة «سبوز» التنقيب عن النفط والغاز لمدة 25 عامًا جنوب طرطوس وصولًا إلى مدينة بانياس وبعمق شاطئ يقدر بنحو 70 كم، بمساحة تقدر بنحو 2200 كيلو متر مربع. ومنها عقد آخر مع الشركة ذاتها للتنقيب عن النفط والغاز في حقل «قارة» بريف حمص، وهو إحدى أغنى المناطق بالغاز الطبيعي. وقبلهما حصلت شركة «ستروي ترانس غاز» على حق استخراج الفوسفات من مناجم تدمر الشرقية لفترة 50 عامًا، وبحجم إنتاج يُقدر بنحو 2.2 مليون طن سنويًا، تبلغ الحصة السورية منه 30% فقط.على الجانب الآخر، وقعت شركات إيرانية العديد من العقود لتوريد آلات زراعية ومنتجات غذائية ودوائية، وبدأت بالفعل تغزو الأسواق السورية. وتطمح إيران إلى الحصول على حصة في إعادة إعمار سوريا لكسب السيطرة على مناطق حساسة في محيط العاصمة دمشق انطلاقًا من حي السيدة زينب، في إطار خطط التغيير الديمغرافية في محيط دمشق.على الأرض، لا تزال طهران تفرض سيطرتها في كثير من المناطق عبر أذرعها الميليشياوية والقوات الموالية لها في جيش الأسد، وهو أمر لا ترضى عنه موسكو لأنه يقوض نفوذها ومصالحها في سوريا والمنطقة، ويقوض جهودها في تسوية الأزمة مع الدول الكبرى، وكذلك يقوض عملية إعادة تنظيم وضبط جيش النظام الذي بات مشرذمًا متعدد الولاءات.

التقطت إسرائيل بوادر تفاقم الصراع بين روسيا وعدوها اللدود، إيران،فمدت يدها إلى موسكو من أجل تحجيم نفوذ طهران في سوريا، متجاوزتين أزمة سقوط الطائرة العسكرية الروسية خلال غارات شنها سلاح الجو الإسرائيلي على مواقع في سوريا، في سبتمبر/ أيلول الماضي. سمحت موسكو لتل أبيب، في 20 يناير/ كانون الثاني الماضي، بقصف أهداف إيرانية في سوريا. وبدأت التصريحات الحميمية بين الطرفين تظهر إلى العلن. فها هو وزير شؤون المهاجرين الإسرائيلي يوآف غالانت يقول، إن التعاون بين طهران وموسكو يقترب من نهايته، وإن «الوضع تغير الآن ونتج عنه أن موسكو تتجه لتل أبيب؛ إذ إن الدولتين يجمعهما هدف مشترك، وهو إخراج إيران من سوريا»، ليرد عليه نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف بقوله:

الإسرائيليون يعلمون ذلك، واشنطن تعلم ذلك، الإيرانيون أنفسهم يعلمون ذلك، حتى الأتراك، والسوريون يعلمون ذلك: أمن إسرائيل هو أولوية لروسيا.

فيما قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف: إن «من المفضل تجنب وصف إيران وروسيا بالحلفاء».وتشمل الخطة الروسية لتحجيم نفوذ إيران، تحجيم نفوذ ميليشياتها وأدوار القوات الموالية لها، والعمل على إعادة بناء الجيش السوري وتنصيب قيادات موالية لها على رأسه. وهنا جاء دور العميد سهيل الحسن، فمعارك قواته مع قوات ماهر الأسد المدعومة إيرانيًا، جاءت على خلفية رفض قوات الأخير تنفيذ القرار الروسي بتسليم عدد من الحواجز في سهل الغاب لقوات النمر.

كما من المتوقع أن يلعب سهيل دورًا مهمًا خلال الفترة المقبلة كوكيل لروسيا في تحجيم وتهذيب القوات الموالية لطهران.