لم يكن آبي أحمد يتصور أن الحرب التي أطلقها ضد قومية التيجراي في الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني العام الماضي، متعهدًا بحسمها خلال أسابيع قليلة ستظل مشتعلة إلى اليوم، فالحروب كثيراً ما تأتي بالمفاجآت وتقلب الموازين وتنهك الأقوياء أمام جبروتها.

وتعد هذه الحرب الوجه الآخر للصراع بين مشروعين: «الفيدرالية» التي تتبناها جبهة التيجراي، ومشروع «الدولة المركزية» ويتبناه آبي أحمد الذي يريد إعادة إنتاج النظام الإمبراطوري في ثوب جديد، ويروج لنبوءات تتحدث عنه باعتباره «الملك السابع» لبلاد الحبشة.

صعود التيجراي

رغم ضآلة نسبتهم السكانية التي لا تتجاوز 6% تقريباً، فإن أبناء عرقية تيجراي استطاعوا أن يصبحوا رقماً صعباً في إثيوبيا التي توصف بأنها «متحف الشعوب» لما تضمه من عرقيات متنافرة لا تجمع بينها لغة ولا دين ولا ثقافة، فقط الجغرافيا التي جمعت قرابة المائة وثمانية عشر ألف نسمة ولم تتمكن من صهرهم في بوتقة الوطن وإقناعهم بأنهم شعب واحد وليسوا شعوباً وقبائل ليتعاركوا على الغلبة والسلطة في صراع متجدد لا يكبحه إلا هدير المدافع وقبضة الحديد والنار التي ما إن ترتخي حتى تعاود الشعوب انتفاضها لتعيد رسم معادلة السلطة وفق موازين القوة وخريطة التحالفات المستحدثة.

وفي هذا المشهد برزت عرقية التيجراي الأرثوذكسية كأقوى مجموعة سكانية استطاعت الوثوب لحكم البلاد عام 1991، وخضعت كل الشعوب لسلطتها مقابل إقرار صيغة حكم جديدة تتيح لكل إقليم بعض الاستقلالية أو ما يعرف بـ«النظام الفيدرالي»، وسمحت باستقلال الشعب الإريتري بالإقليم الساحلي كله رغم أهميته الاستراتيجية محولاً البلاد إلى دولة حبيسة.

وأعاد التيجراي هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية ليصبحوا الدولة العميقة في أديس أبابا ويجمعوا مقاليد الأمور في أيديهم خلال فترة وجيزة على حساب العرقيات الأخرى، التي أصبحت تعاني من التهميش والإقصاء، وبالذات مجموعة الأورومو ذات الأغلبية المسلمة رغم أنها أكبر شعوب البلاد.

‌هزيمة التيجراي

ومع ارتفاع وتيرة اضطهاد الأورومو وتوسع النظام في مصادرة أراضيهم اندلعت الاضطرابات في مناطقهم ولم تفلح أعمال القتل والاعتقال في وقفها حتى انهارت الحكومة وصعد إلى السلطة ائتلاف حاكم يقوده آبي أحمد في أبريل/نيسان 2018، واعتمد إصلاحات شاملة لإنهاء الحكم الاستبدادي، تضمنت رفع الحظر عن الأحزاب السياسية، وإطلاق سراح المعتقلين والسماح للمنفيين بالعودة.

ورحب الأورومو بأوّل رئيس وزراء ينتمي لهم عن طريق الأب لكنه ما لبث أن انقلب عليهم وتحالف مع الأمهرة ثاني أكبر المجموعات السكانية ومعظمهم من الأرثوذكس، إذ تنتمي أمه إليهم، وأخذ في قمع العرقيات الأخرى وعمل على إعادة هيكلة الجيش لتصفية النفوذ التيجراني وإقالة كبار المسؤولين منهم.

ومع تعنت آبي أحمد ورفضه إقامة الانتخابات في موعدها، نظمت جبهة تحرير شعب تيجراي الانتخابات في إقليمها من دون الرجوع إلى الحكومة وتطورت الخلافات بين الطرفين حتى اشتعلت المعارك بينهما في نوفمبر 2020 واستطاع الجيش طرد الجبهة، وارتكب مجازر وأعمال اغتصاب جماعي في المنطقة بدعم من ميليشيات أمهرية، وأيضاً الجيش الإريتري الذي عبر الحدود لمؤازرة قوات آبي أحمد.

 وفي 28 نوفمبر/ تشرين الثاني، أعلنت أديس أبابا النصر على الإقليم المتمرد، ومع ذلك استمرت هجمات الجيش على فلول التيجراي إلى أن انسحب في يونيو /حزيران الماضي معلنًا وقف إطلاق النار من طرف واحد بعد ضعف موقفه القتالي.

الطريق إلى أديس أبابا

لم تكتف جبهة تحرير التيجراي باستعادة إقليمها بل تقدمت نحو منطقتي عفر وأمهرة المجاورتين، وارتكبت القوات الإثيوبية مذابح في حق شعب العفر المسلم بسبب مساندتهم للقوات التيجرانية.

وتحالف التيجراي مع جبهة تحرير أورومو، الناشطة في المنطقة المحيطة بالعاصمة، وهي منظمة صنفتها الحكومة كـ«إرهابية» تنادي بتقرير مصير شعب الأورومو، وفي أغسطس/ آب تم الإعلان عن تحالف عسكري معارض يضم تسع حركات أطلق عليه اسم «الجبهة المتحدة للقوات الفيدرالية الإثيوبية» بعد انضمام سبع فصائل أخرى هي حركة تحرير شعب بني شنقول، وحزب كيمانت الديمقراطي ووحدة عفار الثورية الديمقراطية، وحركة آغاو الديمقراطية، وجيش تحرير شعب غامبيلا، وجبهة سيداما للتحرير، وجبهة تحرير الصومال الغربي.

ولم يفلح الاتحاد الأفريقي في التوصل إلى وقف لإطلاق النار، رغم جهوده الكبيرة، وتوترت علاقات نظام آبي أحمد مع حلفائه الغربيين كذلك.

ومع احتدام المعارك قطعت الحكومة الاتصالات للتعتيم على مجريات الحرب فمعظم القوات الحكومية انهارت رغم الغارات الجوية الوحشية التي استهدفت الأقاليم الثائرة، وانقلب كثير من مؤيدي آبي أحمد عليه بعدما رأوا ضعفه أمام الزحف التيجراني.

وبهدف رفع معنويات قواته المنهارة أعلن رئيس الوزراء، أنه سيقود قواته على جبهة القتال ونقل بعض صلاحياته إلى نائبه، ديميكي ميكونين، خلال فترة غيابه في الجبهة لصد القوات الزاحفة نحو العاصمة أديس أبابا بداية من الثلاثاء.

فنشر مكتب التيجراي للشؤون الخارجية في ذلك اليوم مقطع فيديو تظهر فيه أعداد كبيرة من أسرى الجيش بالآلاف، تم تصويرهم بطائرة خلال استعراض مُذل في عاصمة إقليم تيجراي في مشهد مؤثر للرد على المزاعم الإعلامية الحكومية، وإثبات أن التيجرانيين دحروا جيشاً كان يعد من ضمن أقوى الجيوش في القارة حتى وقت قريب، والقوة الإقليمية الضاربة في منطقة القرن الأفريقي.