خلال تسعينيات القرن الماضي عاش الأطفال الصغار حياة غنية بالتفاصيل والأنشطة المتنوعة، فكثيرًا ما قضوا أوقات فراغهم في لعب الكرة بالطرقات أو الانخراط في الألعاب الورقية، مثل بنك الحظ، إضافة إلى ابتكار بعض الألعاب معتمدين على قدراتهم التخيلية.

لاحقًا ألقى التطور التكنولوجي ظلاله على عقول الأطفال محاولًا تسليتهم، واكتساب تركيزهم، ومشاركتهم أقصى قدر ممكن من أوقات فراغهم. بدأ الأمر بتقديم الألعاب الإلكترونية الجذابة التي تطورت يومًا بعد يوم لزيادة ارتباط الأطفال بها.

ولم يكتف مطورو الإلكترونيات بهذا الحد، فظهرت خلال الألفينيات منصات التواصل الاجتماعي التي انكب عليها الجميع كبارًا وصغارًا، حتى صارت المتهم الأول في سرقة ساعات اليوم التي نعيشها.

وفي الأعوام القليلة الأخيرة، ومع تحول امتلاك جهاز هاتف ذكي (موبايل) إلى حق شرعي لكل طفل، بدأ الآباء والأمهات يشكون عدم ترك أطفالهم لهذا الجهاز واستبدالهم ممارسة الأنشطة خارج المنزل به، ووصل الأمر إلى عدم التركيز في أثناء المذاكرة، أو حتى عدم الاستجابة لتعليمات الأهل.

إدمان منصات التواصل الاجتماعي

دفعت تلك المشكلات العلماء والباحثين إلى البحث عن أسبابها، وقد أشار كثير منهم إلى وجود علاقة بين تلك المنصات وحصول مستخدميها على «الجوائز الفورية».

ويعني مصطلح الجائزة الفورية إفراز المخ مادة «دوبامين» كرد فعل لاستخدام أي من تلك المنصات، وهي نفس المادة التي يفرزها المخ حينما نمارس نشاطًا يرتبط بسعادتنا، أو نتناول طعامًا نحبه، ما يعرضنا في نهاية الأمر إلى إدمان منصات التواصل الاجتماعي.

ومؤخرًا ظهرت منصة جديدة لاقت استحسان كثير من مستخدمي الإنترنت حول العالم، وهي منصة «تك توك» الشهيرة التي حققت انتشارًا واسعًا رغم حداثتها، ورغم كونها لا تختلف –نظريًا- عن المنصات التي تعرض مقاطع الفيديو، مثل يوتيوب، وإنستجرام.

وكما ظهر تطبيق تيك توك سريعًا ظهرت مشكلاته خلال وقت قصير، وهي مشكلات تضمنت تأثر عقول مستخدميه سلبًا فيما يتعلق بالقدرة على التركيز وفرط استخدام التطبيق، وتحولت تلك المشكلات إلى ظاهرة أطلق عليها المتخصصون اسم «عقل تيك توك»، وهي ظاهرة تستحق الدراسة نظرًا لارتفاع معدل استهلاك التطبيق بصورة مثيرة للقلق!

تيك توك: الخيار الأول لأبناء الجيل الجديد

رغم إطلاق تيك توك عام 2016 باسم «Musical.ly» عن طريق شركة بايت دانس الصينية، لم ينتشر استخدامه كالنار في الهشيم إلا مع بعد بدء جائحة كورونا عام 2020، التي زادت حالة العزلة بين الناس بسبب الإجراءات الاحترازية المُحكمة المصاحبة لبدء الجائحة، التي سببت إصابتهم بالملل المستمر.

خلال تلك الفترة وعبر العامين الأخيرين، تحول تيك توك من تطبيق يقدم مقاطع الفيديو القصيرة التي لا تتخطى بضع ثوان لشباب وفتيات يرقصون أو يمارسون «ليب سينك» (Lip-sync) عبر تحريك شفاههم في أثناء تشغيل أغان شهيرة، إلى إحدى أهم المنصات التسويقية والإعلانية، وربما أكثرهم جاذبية للجماهير العريضة.

وفي سبتمبر/أيلول من العام 2021 قدم تيك توك الشكر لمستخدميه النشطين بمناسبة تخطى عددهم حاجز المليار مستخدم شهريًا. وتتوفر إحصائيات عدة تدل على سرعة نمو التطبيق سوقيًا، فحتى شهر ديسمبر/كانون أول من عام 2020 حُمِلَ تيك توك أكثر من 2,5 مليار مرة، وخلال الربع الأول من عام 2022، قُدرت مدة استخدام التطبيق اليومية بنحو 95 دقيقة.

وفي الولايات المتحدة الأمريكية استرعت الإحصائيات المتعلقة بفئات مستخدمي تيك توك اهتمام أطباء الأطفال ومتخصصي الصحة النفسية، وقد أشارت تلك الإحصائيات المنشورة في سبتمبر/أيلول من عام 2021 إلى أن أعمار 25% من المستخدمين تتراوح بين 10 و19 عامًا، وأعمار نحو 22.5% منهم بين 20 و29 عامًا، الأمر الذي يشير إلى صغر سن ما يقارب من نصف مستخدمي التطبيق.

وأصدر مركز بيو للدراسات (Pew research center) تقريرًا في أغسطس/آب من عام 2022 حول منصات التواصل الاجتماعي الأكثر استخدامًا من قبل المراهقين في الولايات المتحدة، الذي أشار إلى حلول تيك توك ثانيًا بعد منصة «يوتيوب»، متفوقًا على إنستجرام وفيسبوك وتويتر وسناب شات، حيث أكد 95% من الخاضعين للاستبيان استخدامهم السابق لمنصة يو تيوب، يليه تيك توك بنسبة 67%، كذلك أشار الاستبيان إلى اعتماد المراهقين «بصورة دائمة» على استخدام منصة يوتيوب، يليها تيك توك.

عقول الأطفال في خطر

نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية الشهيرة في أبريل/نيسان الماضي تقريرًا عن ظاهرة «عقل تيك توك» بهدف توضيح تعلق الأطفال بمقاطع الفيديو القصيرة، الذي يذكر أن إصابة الأطفال باضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD) في تزايد مستمر، وإلى شكوى الآباء والأمهات الدائم بشأن تشتت انتباه أطفالهم.

وأشار التقرير إلى دراسة نشرت في أغسطس/آب من عام 2021 أجراها باحثون صينيون بهدف استكشاف تأثير تيك توك في العقل. استعان الباحثون بعدد من الطلاب الجامعيين الصينيين كي يخضعوا لفحوصات المسح الدماغي عقب استخدام  تطبيق دويين (Douyin)، وهو تطبيق صيني يماثل لتيك توك.

وقد أثبتت أن مشاهدة الفيديو «المخصص» (Personalized videos) الذي يقترحه التطبيق طبقًا لتفضيلات المستخدم يؤدي إلى تنشيط «مراكز المكافأة» بالمخ بصورة أكبر عند مقارنته بالفيديو العام التقليدي الذي قد يشاهده أي شخص.

واعتمد البحث على إجراء «فحوصات الدماغ» (Brain scans) لطلاب الكليات الصينية المستخدمين لهذا التطبيق، وأوضحت تلك الفحوصات تفعيل بعض المناطق بالمخ اقترانًا بمشاهدة الفيديو «المخصص»، وذكرت النتائج أن بعض أولئك الطلبة يجدون صعوبة في التوقف عن مشاهدة تلك الفيديوهات.

وأجرت الصحيفة في وقت سابق تحقيقًا أوضحت خلاله تحديد الكيفية التي يتبعها تيك توك لاختيار الفيديو الذي يفضله المستخدمون، عبر الاعتماد على المدة التي يقضيها المستخدم في مشاهدته، ومن ثَم يقترح التطبيق المزيد من الفيديو ذي المحتوى المقارب للفيديو الأصلي.

وعلى سبيل المثال، قد يعجب أحدنا بفيديو عن مجموعة من الكلاب اللطيفة، وعند قضائنا وقتًا طويلًا في مشاهدة ذلك النوع من الفيديو، يقترح التطبيق فيديوهات مماثلة لحيوانات أليفة أخرى، وإن لاحظ التطبيق تركيزنا على الفيديو الذي يضم كلابًا فقط، فتوقع أن يقترح التطبيق كل أنواع الفيديو التي تقدم «كلابًا لطيفة».

متعة سهلة ذات عواقب وخيمة

وفي مقال نشرته مؤسسة «OSF Healthcare» الطبية عن ظاهرة «عقل تيك توك» في شهر مايو/أيار من العام الحالي، تقول الإخصائية الاجتماعية الإكلينيكية ماريبيث إيفانز: «يمكنك قضاء 45 دقيقة مستخدمًا تيك توك رغم شعورك بعدم انقضاء سوى 15 دقيقة فقط… ويقدم التطبيق المتعة والإثارة كل ثلاثين ثانية تقريبًا، فهل يمكنك الحصول على تلك المتعة في مكان آخر؟».

طبقًا للمقال، يسهم تطبيق تيك توك في إفراز الإندورفنز «Endorphins» (المواد الكيميائية المحفزة للشعور بالسعادة) فور مشاهدتك لفيديو مثير يتوافق مع اهتماماتك، وهي حالة معروفة باسم «التعزيز المتقطع» (Intermittent reinforcement).

ومن المعروف في علم النفس أن عقاب الفرد على ممارسته سلوكًا معينًا يؤدي إلى امتناعه عن ممارسته، بينما يسهم التعزيز المتقطع في تشجيع ممارسة السلوك، وهو ما يفعله تيك توك عبر تحفيز المستخدمين استهلاك المزيد والمزيد من الفيديو.

وتوضح إيفانز أن معظم النشاطات الإدمانية –التي تتضمن إدمان المخدرات والسكريات- تعتمد في الأساس على مبدأ التعزيز المتقطع، كما توضح أن الأطفال أكثر عرضة للإدمان لأن المخ لا يكتمل تطوره حتى بلوغ سن الخامسة والعشرين، في حين أن الكثير من مستخدمي تيك توك من الأطفال والمراهقين.

تيك توك يستهلك تركيز الأطفال

نظرًا لتأخر اكتمال النمو العقلي للبشر كما أشرنا، يعاني الأطفال صعوبة التركيز في أثناء ممارسة بعض الأنشطة العقلية، مثل حل المعادلات الحسابية والقراءة، وهي أنشطة تستدعي توفر ما يعرف باسم «الانتباه الموجّه» (Directed attention)، ويعني القدرة على البعد عن المشتات والحفاظ على الانتباه تجاه مهمة محددة.

وعودة إلى تقرير «وول ستريت جورنال»، أوضح دكتور مايكل مانوس، المدير الإكلينيكي بمركز الانتباه والتعلم التابع لمستشفى كليفلاند للأطفال، أن تعود الأطفال على التغيرات المستمرة، كما هو الحال في تطبيق تيك توك الذي يستعرض مئات مقاطع الفيديو خلال فترة قصيرة، يزيد صعوبة تعامل عقولهم مع الأنشطة غير الرقمية التي لا تتحرك خلالها الأشياء بسرعة.

وعن تأثير تيك توك في عقول الأطفال يقول جون هاتون طبيب الأطفال ومدير مركز القراءة ومحو الأمية بمستشفى سينسيناتي للأطفال: «تيك توك ماكينة دوبامين، فإذا أردت أن زيادة الانتباه لدى الأطفال، فعليهم ببدء ممارسة مهارة الانتباه».

ويعلق جيمس ويليامز –أحد المهتمين بأخلاقيات التكنولوجيا: «الأمر أشبه بترك الأطفال في متجر حلوى وإخبارهم بضرورة تركها وتناول الخضروات، نحن نواجه تدفقًا من الملذات اللحظية بصورة غير مسبوقة في التاريخ البشري».

تعددت الوسائل والإدمان واحد

قالت أسماء إبراهيم ياسين -الأخصائية النفسية الإكلينيكية والحاصلة على درجة الماجستير في تخصص علم النفس الإيجابي- في تصريحاتها لـ«إضاءات»، إنه «لا فارق بين إدمان المخدرات وإدمان السوشال ميديا، لأن كلًا منهما يؤدي إلى تحفيز برنامج المكافأة العقلي الذي يتصمن إفراز مواد كيميائية مثل الدوبامين».

وتضيف: «عادة ما ترتبط مشكلة الإدمان تلك بمعاناة المراهق حالة من التفكك الأسري، الأمر الذي يسبب شعوره بانعدام التقدير، وعدم حصوله على الاهتمام ممن حوله، فيبدأ في البحث عن وسائل مختلفة للشعور بذلك التقدير المفقود، فيدمن المخدرات، أو السوشال ميديا، أو أي وسيلة تضمن حصوله على المكافأة».

وعن مخاطر ذلك الإدمان توضح إبراهيم: «غالبًا ما لا يعاني أولئك المرضى من الشباب الإدمان وحده، فكثيرًا ما تصاحب ذلك الإدمان أمراض نفسية، مثل القلق والاكتئاب. وإضافة إلى كل ذلك، قد يعرض فرط استخدام السوشيال ميديا صغار السن إلى مزيد من المشكلات، مثل التنمر الإلكتروني، والاستغلال الجنسي، وهي مشكلات لا تزيد الحالة إلا سوءًا».

مشكلات نفسية يمكن تجنبها عبر الترابط الأسري

أشارت إبراهيم إلى أن الأهل عادة ما لا يفهمون حالات أطفالهم، فيزور بعضهم العيادات النفسية شاكين انحدار مستواهم أبنائهم الدراسي، أو عدم خروجهم من غرفة النوم لأوقات طويلة، أو عدم امتلاكهم أصدقاء يقضون معهم أوقات فراغهم.

وقد أوضحت أن السبب الرئيس خلف تلك المشكلة هو ترك الأهل أطفالهم يستخدمون الموبايل بإفراط تجنبًا للإزعاج، الأمر الذي يمثل «كارثة» على حد قولها، فاستخدام الموبايل غير المحدود للعب أو مشاهدة الفيديو يفصل الطفل عن محيطه.

وتقول إبراهيم: «ظهر اضطراب جديد تشابه أعراضه أعراض التوحد يطلق عليه اسم (الحرمان البيئي)، وهي مشكلة تسبب عدم امتثال الطفل للتعليمات، وعصبيته الشديدة، وصعوبة تركيزه في ما يحدث حوله، نتيجة عدم انشغال الطفل بممارسة الأنشطة الحقيقة، وعدم عناية الأب والأم بالحديث معه ومشاركته تفاصيل يومه».

وتضيف: «يسبب تعلق الطفل بمشاهدة الفيديو واللعب مستخدمًا الموبايل معاناته مشكلات تتعلق بالنمو العقلي، مثل تأخر الكلام، لذلك لا ينبغي للأهل ترك الطفل يستخدم الموبايل لمدة تتعدى الساعة الواحدة يوميًا».

يكمن دور الأهل في تنشئة الطفل تنشئة سوية تعتمد على النقاش المتبادل، والحرص على تعليمه التفرقة بين الصواب والخطأ دون إهانته، واحترام رغباته والاستماع بحرص إلى مشكلاته، وشغل وقته بممارسة الأنشطة المفيدة.

وتشير إبراهيم إلى ضرورة ممارسة الطفل الأنشطة الرياضية، والفنية كالرسم والموسيقى، لأن تلك الأنشطة تعزز شعور الطفل بالمكافأة طبيعيًا بعد بذله المجهود المناسب، بدلًا من المكافأة اللحظية التي تقدمها منصات السوشال ميديا.

وعن ذلك تقول: «ترك الطفل فريسة للسوشال ميديا مسؤولية الأهل الأصيلة، فالأطفال لا يلجأون لمثل تلك الأنشطة السيبرانية طالما لم يجدوا ما يمارسونه من أنشطة حقيقية. تستطيع الأم إشراك أطفالها في الأعمال المنزلية البسيطة، ويستطيع الأب تعليم أبنائه بعض المهارات التي تزيد تركيز أطفاله، لعل أهمهم القراءة، ولا نغفل أبدًا دور تعزيز الثقة المتبادلة بين أفراد الأسرة».

اقرأ أيضًا: ماذا يخفي تطبيق تيك توك وراء قناع الشبكة الاجتماعية؟