قبل أن تتهمني بالوقوع في فخ النوستالجيا دعني أوضح لك الأمر. أنت لم تتهمني بعد، فتلك هي أولى كلمات المقال، حسنًا، فلتعتبر أنني كمن على رأسه بطحة، وهو الأمر المنطقي، فنجوم المقال هم نجوم التسعينيات.

سأحدثك اليوم عن إبراهيم المصري وأحمد العجوز والوكيل سلامة وأحمد ساري وتامر بجاتو، سأحدثك عن أُسطوات الدوري المصري بصوت فاروق جعفر عندما يُذكِّر زملاءَه في الاستديو أنهم يجب أن يتحدثوا كفنيين، ثم يشير بيده كمن يمسك بيضة مسلوقة على وشك التهامها.

كيف لنا إذن أن نذكر مثل تلك الأسماء دون أن نقع في فخ النوستالجيا، الحقيقة أننا لن نتحدث عن هؤلاء اللاعبين ندمًا على مستويات لاعبين غير موجودة الآن؛ ببساطة لأن ذلك على الأغلب غير حقيقي أبدًا. نحن هنا نرصد ما حدث من تغير في شكل كرة القدم المصرية متمثلًا في هؤلاء.

أبرز ما يتعلق بتلك الأسماء أنهم جميعًا رموز لأندية جماهيرية، لاعبون كانت تتمحور حولهم محافظات بأكملها. ملايين تتنفس كرة القدم كانت متعتهم تتعلق بلمسة أو هدف من تلك الأسماء، ما جعل هؤلاء رموزًا أنهم كانوا أبناء البلد، لذا كانت الحالة متكاملة.

ما حدث عملًا أن ظهور أندية الشركات بما تملك من أموال غيَّر خريطة كرة القدم بشكل كامل، والأهم أن الزخم الذي كان يغلف كرة القدم في محافظات خارج القاهرة بدأ يقل تدريجيًّا حتى أصبح نادٍ مثل الإسماعيلي يصارع الهبوط في الموسم الماضي، ثم يبدأ الموسم الحالي بأربع هزائم متتالية دون شعور حقيقي بأن هناك أزمة.

قصدنا هنا أن نتحدث عن أندية جماهيرية ما زالت متواجدة في الدوري المصري، لكنها أصبحت بلا نجوم حقيقيين. ولكي يكون الحديث أكثر دقة ذهبنا إلى تلك المحافظات وتركنا الجماهير تتحدث بنفسها عن لحظات لا يمكن أن تنساها، لحظات كانت فيها كرة القدم هي أغلى ما امتلك هذا المواطن الإقليمي، لعل القارئ يتفهم ما حدث بتواري تلك الأندية عن المشهد.

الوكيل سلامة: الأخضر مش هينزل

حسنًا، إذا كنت تتحدث عن نجم التسعينيات فهو أحمد ساري دون شك، لكن اللحظة التي اهتزت فيها مدينة الإسكندرية بالكامل كان بطلها رجلًا آخر، الوكيل سلامة.

ولت فترة التسعينيات ونحن الآن في موسم 2001/2002، ومنذ بداية الموسم تفهَّمت الجماهير أنها بصدد موسم صعب. أصبح الاتحاد مهددًا بالهبوط منذ الأسابيع الأولى، واستمر الوضع حتى المباراة الأخيرة.

كانت المباراة الأخيرة بين الاتحاد وغزل السويس الطرف الآخر في معادلة الهبوط. التعادل أو الفوز يُبقي الاتحاد في الدوري الممتاز، أما الهزيمة فلم يضع لها أحد سيناريوهات. الأمر كان كارثيًّا، هل أقول لك إن الإسكندرية كانت متجهمة دون ابتسامة لثلاثة أيام متواصلة قبل المباراة. هكذا كان الوضع، بل إنني أكاد أجزم أنه لم ينم أحد ليلة تلك المباراة، خاصة أن المباراة ستقام في ملعب السويس.

لسبب لا يعلمه أحد لم تذَع المباراة، وأصبح الملاذ الوحيد حتى لا تحترق أعصاب المدينة هو الاستماع للراديو. كما كانت العادة آنذاك كان الراديو يُذِيع كل المباريات على نفس القناة. ينتقل البث من ملعب إلى ملعب، هكذا تستمع إلى التعليق على المباراة ثم تظل في الجحيم حتى تدور الدائرة بالكامل ويعود البث مرة أخرى. كان التعليق من نصيب المذيع سيد الثعلبي لاعب الاتحاد السكندري السابق، وما إن يذهب البث لصوت الثعلبي حتى تتضح فورًا على صوته النتيجة، فالسويس متقدم بهدف ضد الاتحاد.

في نفس الوقت تقام مباراة تتويج الإسماعيلي بالدوري أمام المصري، ولم يتبقَّ سوى سبع دقائق فقط، حيث أحرز عمرو فهيم هدف فوز الإسماعيلي بالدوري. ظل البث في الإسماعيلية لخمس دقائق كاملة، بينما كنا نحترق فلم يتبقَّ سوى دقيقة على الهبوط.

عاد البث ليعلن عن هجمات خطيرة لغزل السويس، وفي كل هجمة كانت الجماهير تصرخ، تصرخ بشكل فعلي، حتى إن الكثير تعرض لإغماءات جماعية. ثم أعلن الثعلبي عن خطأ لصالح الاتحاد في الثانية الأخيرة. رُفِعت الكرة داخل منطقة الجزاء، ثم هدف للوكيل سلامة وبقاء الاتحاد رسميًّا في الدوري.

يمكنك أن تسمع نحيب الناس بصوت عالٍ ممزوجًا بزغاريد ملء السماء. عم خميس ركض في الشارع وأخذ يسب في المارين دون سبب، أما عم ميمي فقد ترك دكانه وأخذ في البكاء كالأطفال، كان الأمر أشبه بلوثة عقلية جماعية أصابت الإسكندرية.

بعد ربع ساعة فقط من نهاية المباراة تجمعت الجماهير حول النادي احتفالًا بالبقاء، يومها ظهر الهتاف الذي لا تحبه الجماهير، لكنها أُجبرت عليه: بنقولها الأرض تزلزل.. الأخضر مش هينزل.

الإسماعيلية: الفاكهة ومارادونا

لم يكن العجوز وحده من تعلقت به جماهير الإسماعيلية، ثم دعني أؤكد لك في البداية أن العجوز اسمه في الإسماعيلية مارادونا، ولا اسم غير مارادونا. الاسم الثاني هو محمد صلاح أبو جريشة، الفاكهة بعد الفاكهة الرسمية للمدينة الهر علي أبو جريشة، اسم عائلة جريشة يسري في عروق قاطني الإسماعيلية بقدر عشقهم للإسماعيلي نفسه.

لهذا فهناك هدف كان هو تمام النشوة للجماهير في الإسماعيلية. خلال موسم 93/94 وفي ملعب المقاولون العرب استقبلنا النادي الأهلي، وكنا قد فزنا بالدوري منذ أقل من ثلاث سنوات. وكأن فوزنا بهذا الدوري جريمة ما، ولكن وللحق هي سرقة سرقها فنانو التسعينيات بالقمصان الصفراء.

لا يترك جمهور الإسماعيلي فريقه أينما كان، إن أكثر ما يميزنا هو ثقة هذا الفريق وجماهيره أنه يستطيع الفوز دائمًا، فلا يوجد أفضل من الإسماعيلي في كرة القدم، لهذا وعليه ذهبت الجماهير وراء الفريق، لكن لم يُسمح لهم بدخول الملعب.

قرر الأمن أن لا دخول إلى الملعب إلا لحاملي التذاكر. ربما تجدني مجنونًا فيما سأقول، لكن هذا كان منتهى التعنت في هذا الوقت، لقد جئت من الإسماعيلية إلى القاهرة وسأشاهد فريقي، فلا تمنعني عن ذلك من أجل تذكرة، لذا ولأكون أمينًا لقد حوَّل الجمهور ساحة الملعب تلك إلى ساحة حرب، سنشاهد الإسماعيلي بأي ثمن، وكان أكثر ما يثير الجماهير أنهم عرفوا أن الإسماعيلي متقدم بهدف من صناعة العجوز وبقدم جريشة. إنها ليلة العيد بلا شك.

يمر العجوز بالكرة في منتصف الملعب، ثم يراوغ كعادته جمال السيد ليلمح بطرف عينه محمد صلاح أبو جريشة مخترقًا دفاعات الأهلي، فيرسلها له على الفور. أصبح جريشة في مواجهة شوبير، فقام بتمويه الأخير دون أن يلمس الكرة. هل تعرف هدف تريكة في منصف الذي تحتفل به كل القنوات ليل نهار، فعلها جريشة قبل تريكة وفي مرمى شوبير، وحوله لاعبو الأهلي يشاهدون في صمت.

دخلت الجماهير أخيرًا، لكن في نفس اللحظة أدرك أحمد فيليكس التعادل، لكنها كانت ليلة لا تُنسى من القاهرة للإسماعيلية، تحتفل الجماهير بأن فريقها أمتع العيون أمام الأهلي، ولا عزاء للأمن المتعنت.

كانت هناك قناعة راسخة في نفوس الجماهير أنهم لو كانوا أدركوا المباراة قبل الركنية لما أحرز الأهلي التعادل أبدًا. ربما لهذا لم يُسمَح لهم بالدخول، وليس التذاكر كما كانوا يقولون.

عندما غاب إبراهيم المصري فحضر المانجا

لا أحد يعلم من صاحب فكرة لعب المنتخب المصري مباراة ودية ضد منتخب الأنصار والنجمة اللبناني. ثم لماذا يوجد منتخب مكون من ناديين بأسماء كتلك، على أي حال خاض المنتخب المصري المباراة، وحدثت أحداث الشغب الشهيرة، وانتشرت صورة إبراهيم حسن، وهو يجرد عنصر الجيش اللبناني من سلاحه.

تلك المشاجرة يا صديقي كانت بسبب لاعب النادي المصري إبراهيم المصري. يقال إن القصة بدأت بالاعتداء على إبراهيم ليتدخل التوأم، وتتطور الأمور، لكن في الأخير كان القرار إيقاف إبراهيم المصري عن اللعب. 

هكذا وجد النادي المصري نفسه بدون نجمه الأهم والأبرز، وكان موسم 95/96 صعبًا بحق على الجميع، فالفريق يتأرجح بين ثنايا الهبوط بقائمة لا تقدم مستوى ثابتًا، ودون النجم الأهم.

كانت المباراة في استاد بورسعيد، وتقدم الأهلي بهدفين بعد أن أضاع فيليكس ركلة جزاء، وتهيأ الجميع للخسارة المتوقعة، حتى إن الجماهير في الملعب بدأت بالرحيل تجنبًا للشغب المعتاد قبل نهاية المباراة بخمس دقائق.

إلا أن الجماهير التي بقيت كان لديها كل الأمل، فالمصري يظل المصري ولو بأشبال بورسعيد. احتُسبت ركلة جزاء للمصري، أحرزها اللاعب أحمد مصطفى، أو المانجا كما كان يلقب في المدينة. قرر الحكم أن ينهي المباراة قبل نهايتها بخمس دقائق، جُن جنون الجميع. ما زال هناك خمس دقائق كاملة وما زال هناك هدف لم يُحرَز، وليلة سعيدة لن تنام فيها بورسعيد، أعطنا الوقت الذي نستحقه ولا علاقة لك بالبقية.

عادت المباراة بعد أن تدارك الحكم هذا الخطأ، أو ربما آمن بهذا البريق في عيون جماهير بورسعيد، لم يخذلنا المانجا، وقام بتهيئة كرة عرضية على رأس ياسر عزت قبل نهاية المباراة بدقيقة واحدة.

كان الجميع يركض في اللحظة نفسها. ياسر عزت يركض وخلفه لاعبو الفريق والجماهير في المدرجات تركض على المقاعد الخالية حتى إن الناس في المدينة كانت تركض نحو الملعب للاحتفال الذي استمر طويلًا.

حسنًا لقد انتهت تلك الحكايات، ولا يهم أبدًا أن تتعلق بكرة القدم التي احتوتها تلك الحكايات بقدر ما تتعلق بهذا الزخم والشغف الذي كانت تتحدث به الجماهير عن كرة القدم. هل يمكن أن تسمع مثل هذا الشغف الآن على الرغم من وجود نفس الأندية؟

صاحب قصة هدف الاتحاد هو الكاتب الرياضي محمد مندور، أما قصة هدف الإسماعيلي فهي عن طريق المشجع محمود القاضي، الذي استجمعها من رواياته وروايات آخرين، وأخيرًا مباراة المصري فقد كان المشجع عادل الجدع شاهدًا عليها.