كان الله في عون الغبش من مواطني السودان هذه الأيام الذي يعانون 27 عامًا عجافًا في ظل الانقلاب العسكري الإسلاموي الذي قاده الجنرال عمر البشير في صيف 1989م بتحالف مع الجبهة الإسلامية القومية على النظام الديمقراطي الهش الذي كان على رأسه الصادق المهدي، وقد تسبب هذا الانقلاب بتدهور مرير في أحوال البلاد جعل السودان من أسوء الدول تنمويًا وأعظمها فشلاً وأكثرها عنفًا، وسط انهيار كبير في حقوق الإنسان وفي شرعية الدولة، جعل السودان من أكثر الدول مطابقة لمعايير الدولة الفاشلة.

السودان اليوم أمام تحديات جسام لإصلاح ما انهار من بنيان الدولة الاقتصادي بسبب الحروب وفشل السياسات الاقتصادية المتعاقبة، والتي جعلت المواطن يعيش في أسوء ما يمكن اقتصاديًا واجتماعيًا، وخصوصًا بعد قرارات رفع الدعم الأخيرة في تشرين الثاني/نوفمبر 2016م عن الوقود والكهرباء والدواء والقرارات المتعلقة بتحريك سعر صرف الجنيه السوداني أمام الدولار.

فشلت الدولة السودانية فشلاً ذريعًا في استغلال قطاعات حيوية كالزراعة والرعي، وكان يمكن لها إذا ما أحسنت الإدارة أن تقدّم أضعاف ما تقدمه اليوم!

لقد فشلت الدولة تمامًا في دعم القطاعات المنتجة المتمثلة في القطاعين الزراعي والحيواني، بعد أن كان اختيارًا أن تجعل كل اهتمامها بقطاع النفط من تسعينات القرن الماضي في ظل الحصار الأمريكي الاقتصادي المفروض على السودان والذي كان يمنع السودان من تطوير قطاعاته الإنتاجية الزراعية.

تشكل مهنتا الزراعة والرعي مهنة أكثر من 60% من السودانيين، ويعتبر السودان واحدًا من أكبر بلدان القارة الأفريقية من حيث المساحة، ومن أحد أكثر بلدان العالم غنىً بمصادر المياه السطحية والجوفية والأراضي الصالحة للزراعة. ورغم توفر السودان على إمكانات زراعية كبيرة تعكسها مساحات أرضية شاسعة صالحة للزراعة، فإن حجم الاستغلال المطلوب يظل أدنى من الإمكانات الكبيرة المتاحة؛ وذلك بسبب أن السودانيين لا يملكون تطوير هذا القطاع دون الاستعانة بالآليات الزراعية الحديثة والتي هي محرمة على السودان بسبب الحصار.

لقد أهملت الدولة منذ استقلالها وضع سياسات اقتصادية زراعية رشيدة في هذا القطاع، والذي يمثل القمح والذرة والسكر والقطن والحبوب الزيتية أهم المنتجات الزراعية التي كان يمكن زراعتها بكميات تجارية في هذا البلد، لكن ضعف المستوى التقني والإمكانيات وقلة الاستثمار الزراعي جعلت هذا القطاع مشلولاً تمامًا.

أما قطاع الرعي فحدّث ولا حرج، حيث تدهور هذا القطاع لدرجة جعلت أسعار اللحوم ومنتجات الألبان والدواجن مرتفعة في السودان، رغم أن عدد رؤوس الماشية في البلاد يقدر بـ 150 مليون رأس وخمسين مليون دجاجة.

لقد فشلت الدولة في إدارة الثروة الحيوانية ولم تقدم الدولة الدعم الكافي للرعاة والرعي التقليدي، حيث تعتبر صادرات القطاع والعائدات ضعيفة مقارنة بالأرقام الحقيقية التي كان يمكن تصديرها نتيجة إهمال هذا القطاع.

http://gty.im/148686781

لقد انعكس تأثر هذا القطاع بالانفلات الأمني في مناطق القبائل الرعوية الكبرى في السودان كـ(كردفان ودارفور)، كما وهنت ماشيتها بمشاق رحلتها بحثًا عن الماء والكلأ، وكما لم تقم الدولة بتوفير بيئة مناسبة للرعي والرعاة، وهذا ما جعل رعاة هذه القبائل يعتمدون بشكل أساسي على الرعي المفتوح في رحلة شاقة من وسط وغرب السودان إلى مناطق التماس في الحدود مع دولة جنوب السودان -قبيلة المسيرية نموذجًا-، ويقومون بالاعتداء على الأراضي الزراعية للقبائل الأخرى مما سبب حروباتٍ قبلية وتوترًا أمنيًا.

كانت البدائل أمام حكومة البشير كثيرة، لكنها آثرت الوصفة الجاهزة لدى البنك الدولي والتي يدفع المواطن ضريبتها بالمقام الأول.

لقد كان للدولة فرصة لوضع إستراتيجات حقيقية والاستفادة بتجميع الماشية لإنتاج الألبان وتوفيرها للسوق المحلي، ولكن الدولة عملت على سياسة تركزت بتجميع المصانع في ولاية الخرطوم، مركز الحكم وصناعة القرار، وعملية الإنتاج والاستثمارات، ولم تقم الدولة بإنشاء مصانع في الولايات وتجميع الألبان وضخها وتعليبها.

كان يعول على هذه القطاعات بدعم ميزانية الدولة بعد الانفصال في يوليو/تموز 2011م، بعد خروج الدخل النفطي من ميزانية الدولة بنسبة قاربت الـ60%، وأصبحت ميزانية الدولة تعتمد بشكل أساسي على فرض الضرائب والجبايات المزدوجة المعايير أحيانًا، والتركيز على الواردات وفرض الجمارك والرسوم المبالغ فيها مع إضعاف المنتج الوطني مع مناخ سياسي محتقن واقتصاد غير مستقر، وانهيار للعملة مقابل الدولار، وتمرد عسكري لم تحله مفاوضات أديس أبابا، ولا حسمت المعركة على الأرض، وكل هذا جعل الدولة في حالة شلل تام، وجعل ثورة الإنقاذ نفسها تحتاج إلى إنقاذ.

لقد كانت هناك فرصة لفتح باب الاستثمار في التعدين وخفض الضرائب على المصانع والشركات وخفض الترهل الحكومي، بدلًا من رفع الدعم الحكومي، «الروشتة» الجاهزة من البنك الدولي ومؤسسات الإمبريالية الدولية!.

البدائل الحقيقية موجودة الآن أمام الحكومة لكنها مع الأسف ليست كبيرة، فقد أضاعت الحكومة الفرص تلو الفرص ولم يعد من حقها اليوم المطالبة سوى بفترة زمنية لتحقيق انتقال سياسي وديمقراطي ودستوري، يجعل النظام في وضع شرعي أولاً وهذا يتمثل بإنفاذ مخرجات الحوار الوطني المفترض إعلان تطبيقها في يناير/كانون الثاني 2017م، لكن فئات شعبية وسياسية رافضة للنظام وسياستها دعت لعصيان مدني كفرًا بالفشل المرير الذي تردى له الحال ولأنها لم تعد تثق بهذه الحكومة.

المعارضة السياسية طالبت بتنحي البشير شرطًا لأي عملية سياسية انتقالية، وهذه القوى المعارضة هي نفسها القوى التي رفضت المشاركة في الحوار الوطني بدعوى عدم شرعية النظام السياسي خصوصًا بعدما انتهك هذا النظام الكرامة الوطنية بقبوله تقسيم البلاد وانتهاك حقوق الإنسان وإخلافه بالوعود والمواثيق من قبل؛ من اتفاق نداء الوطن في التسعينات وحتى اتفاق أديس أبابا الأخير في 8 أغسطس/آب الماضي.

فكل هذه السيناريوهات تُبقي سؤال المواطن اليوم: هل لقمة العيش الكريم والدواء مطروحة في ذاكرة السياسيين؟

الآن إرهاصات الثورة والانتفاضة بدأت تظهر وتكررت دعوات العصيان المدني، وآخرها الدعوة لعصيان 19 ديسمبر/كانون الأول احتجاجًا على الأوضاع الاقتصادية المريرة، مع ردود حكومية مقللة من شأن هذه الدعوات. سيبقى أمل نجاح العصيان في كسر كبرياء الحكومة هو الرهان.