تلك الفلسطينية صاحبة العشرة أعوام تأخذ مني كل نهار دينارين ونصف، لا ليس عنوة أو أتاوة، فمنذ وصولي هنا إلى أرض الجبال المزروعة تلك، وتحديداً «عَمّان» ولا أجد غيرها تأتي لي بنوعي المُفضّل من السجائر. عرفت أنها ليست بنادرة كما أخبرتني فاطمة، وعلمت أيضاً أني أتعرض للنصب كل صباح من تلك الطفلة، ولكن التعوّد أسوأ من الحب يا صديقي، فعقلي الباطن يتعامل معها على أنها ليست مجرد بائعة دخان لدكان أبيها الصغير -الدكان وليس أبوها- بل هي صديقة، فعقلي يعشق القصة، فتلك الفاطمة بالتأكيد خلفها قصة لا أعلم عنها شيئاً.

سألتني اليوم عمّا سأفعله في أيامي المعدودة هنا، لا ليست أيامي المعدودة في الحياة بل في عمّان. أخبرتها أني سأذهب لمغطس المسيح على الحدود الأردنية-الفلسطينية اليوم. وضعت الدينارين الورق في الدرج، ورمت النصف مع إخوانه من فضيات نقدية لتصنع صوت رنة درامياً، حتى أشعر أن كاميرا المخرج تقترب إلى وجهينا. وتقول: «دخيلك جيبلي حجرة صغيرة من هونيك، كتير صغيرة بديش أكتر من هيك». أثارت استغرابي، ولكن ما كان في مقدرتي إلا أن أتمتم بكلمات تعني أني أوافق، وأني أعدها بذلك.

خرجت عائداً إلى الفندق، لتُعلمني فتاة الاستقبال أن نفس السيارة بنفس «أبو أنس» الذي أوصلني بالأمس إلى «عجلون» جاهز لأن نذهب إلى المغطس.

لمن لا يعلم «أبو أنس»، وبالتأكيد لا تعلمون، فهو سوري من قرية بجانب درعا أو «ضيعة»، وكما علمت بالأمس فلا يوجد أنس ولا حتى أم أنس، فبطبيعة بلاد الشام عندما تبدأ شعيرات بيضاء بالظهور حول وجهك سواء في رأسك أو ذقنك فستبدأ تبحث لك عن لقب يبدأ بأبو وبعده أي اسم، ولكن يُفضَّل أن يكون (مازن، أنس، مصعب، أو خالد)، وستكون بعدها عجوزاً شامياً معتمداً من سفراء كل دول الشام.

على طول الطريق لم يصمت «أبو أنس» في كلامه عن عظمة مصر، وأن له خالاً، ابن أخت عم جار، متزوج من مصرية. يجب أن تكون بالتأكيد من المنصورة، وكأن المنصورة المصدر الرسمي للنساء المصريات في كل دول الخليج والشام.

بعد استماع طويل غير ممتع على الإطلاق، وصلنا إلى مكان بعكس طبيعة الأردن نهائياً، فهو في منطقة منخفضة عن سطح البحر، وطبيعي، لأننا قريبون جداً من البحر الميت، والمنطقة صحراوية إلى حد كبير وشديدة الحرارة، وهنا وقف «أبو أنس» وأخبرني أنه يجب أن أنزل وأقطع تذكرة، وبعدها سيأتي باص وسنذهب كمجموعات إلى المغطس. أقنعني فتى التذاكر أن أنتظر ساعة حتى يأتي الباص وأذهب وسط مجموعة من الإسبان، فكان الانتظار مليئاً برائحة التبغ المحروق والنظر إلى كلبة تحاول الدخول المكان المُكيّف لتحتمي من حرارة جو تلك الأرض المُقدّسة.

ركبنا الباص، وكان المرشد يتعامل مع الإسبان بلغتهم، وأنا عربي سأعتمد على نفسي كالرجال، فكنت بهيمة ناطقة بالعربية وسط كل هؤلاء الثيران الإسبانية. نزلنا إلى مكان عبارة عن صحراء، وكان هناك ممر شجري يتجه إلى منطقة كلها شجر ضخم وكأنها غابة صغيرة وسط الصحراء، لكنها في حقيقتها كانت شجر نهر الأردن الذي يفصل بين الأراضي الفلسطينية المحتلة والأراضي الأردنية.

في طريقنا إلى النهر الذي سيمحو آثار القدم الهمجية، كما أخبرتنا فيروز، وقفنا عند معمودية المسيح ليقف جميع الإسبان للصلاة، وكان شكلي وسطهم وأنا لا أفهم شيئاً كشكل الغراب وسط الحمام الأبيض، وطلب مني أن أصوِّره.

عزيزي يا نهري المسكين، قلّت مياهك وجفّفها أولئك الأوغاد المفاجيع لصوص الدار والماء، عبرت من فوقك ووقفت في غربك قليلاً أتأمل في شجرك المغتصب وغصونك التي دبلت بسبب طمع وجشع ودناءة المحتل، ستعود مياهك إلى طبيعتها وتغمر كل تلك القرى، ويعود تساقط الزيتون على الطرقات من كثافة الأشجار الخضراء تلك، ولكن عندما يرحل ذاك الضبع الدنيء الذي يشرب كل الماء ولا يعطي الفرصة لتلك الشجرة المسكينة أن تأخذ ما يكفيها من ماء، كي تُخرِج زيتونها الذي أقسم به الإله.

سيجارة القدس تبدأ من سيجارة هنا عند المغطس، على بعد ثلاثين كيلو متراً من قدس الأقداس، أعلنت بداخلي أن العيب الحقيقي أن تكون الأرض محتلة، ليس بأن أُشعل سيجارة هنا والناس كلها تصلي، فأشعلت اللفافة وكانت أمنيتي الوحيدة أن تحرق تلك النيران ذلك المُغتصِب، ولكن في حقيقة الأمر أني جبان، وأقصى شيء يمكنني أن أحرقه هي تلك السيجارة المسكينة.

أنهيت سيجارتي تلك وسط كل تلك النظرات المترقبة المحتقرة لفعلي المشين هذا، ونزلت على ركبتي وأخذت حجرين من أرضي المقدسة تلك ووضعتهما بجيبي، حجر لي والآخر لتلك الطفلة التي ستعود يوماً ما لتلعب بتلك الحجارة هنا.

عدت إلى «أبو أنس» لنعود إلى مدينتي المفضلة «عمّان»، ومن الجيد في تلك البلاد أن الكل يُدخِّن كبرلين عندما دخلها الحلفاء، كما كان يصِف «رفعت إسماعيل» نفسه، لا أتذكر أني رأيت في أي مكان هنا كلمة «ممنوع التدخين» مُعلّقة في أي مكان، إلا في ذلك المسجد الذي دخلته في «إربد». لا أعلم صراحةً من ذاك الذي قرّر أن يُشعل لفافة تبغ في المسجد. المهم أني قضيت على آخر لفافة تبغ في سيارة «أبو أنس» قبل دخولي «عمّان» بدقائق.

أعطيت فاطمة حجرها، وأعلنت شفتاها عن ابتسامة عريضة ظهرت على القلب قبل الوجه، تلك الفتاة لم ترَ فلسطين قط، لكن فيها جزءاً كبيراً من أرض التين والزيتون، وفي قلب كل شخص فينا جزء ضخم من فلسطين، لكنه منقوص، ولن يكتمل حتى نقتل ذاك الضبع الدنيء، طلبت منها مُبتسماً علبة دخان أخرى، وأخرجت الدينارين ونصف؛ أعطتني العلبة ومعها نصف دينار، لتقول لي ضاحكة: «لا بس دينارين عمو… بس دينارين».