لعلكم تعلمون عن قصة ذلك المهرج الذي دفن ابنه الوحيد، ثم صعد فوق المسرح، فضحك الجمهور فور رؤيته، ثم فض يده من التراب، فضحك الجمهور أكثر، فانفجر المهرج باكيًا، فتعالت الضحكات، سقط المهرج ميتًا على خشبة المسرح، ووقف الجمهور وصفق بحرارة.

لذا سأعتزل المسرح والشاشات والأضواء هذه المرة حتى لا تتكرر المأساة، وسأكتفي بالكتابة.

إليك يا أخ الفراء، يا صاحبي القديم.

الرسالة الأولى

صديقي «باتش» تحية طيبة وبعد…

رأيتك في الصباح وقد احتلت صورتك صفحة الأعمال في إحدى الجرائد المرموقة بجانب حوار صحفي علاه بالخط العريض «القط الأغنى في ديزني»، وبالرغم من التغير الذي قد طرأ عليك حيث إنه محال على منْ عرفك آنفًا أن يُصدِّق أنك «باتش» قط الشوارع المتسول.

فلو رآك هؤلاء المؤمنون بتناسخ الأرواح لخشيت أن تفتنهم فيعدونك آية على صحة معتقدهم الذي ما ظننت طيلة حياتي أن يعتقده أحد الآدميين حتى رأيتك بعد الذي قد كان، وكأن السماء يا صديقي قد أشفقت على روحك وأبدلتها جسدًا غير الذي كانت فيه ساكنة، بعد أن كان مكتوب عليها المسخ بين جنبات فرائك القديم الأجرب.

إلا أنني عرفتك يا صاحبي من نظرتك، تلك النظرة الجائعة التي لا يشبع صاحبها أبدًا، إنني أعرف وأعي تلك النظرة المتجهة إلى المال لأجل المال لا لما يحققه المال من راحة ورخاء، لا زلت أذكر نفس النظرة عندما كنت آتيك بما يكفيك من طعام من ثلاجة السيدة «مامي» لكنك كنت تحتال عليَّ دائمًا للحصول على ما هو أكثر، لتضعني في موقف محرج معها، حتى تسببت في طردي من العمل مرارًا، ثم حصلت على عملي.

ولكن لأن ذلك لم يشبع نفسك الجائعة، فلم تستمر طويلًا في هذا المكان، لقد جرى العمر بنا يا صديقي وكان الزمن كفيلًا بتعليم المرء معادن الناس، ولكن ماذا يفيد العلم بعد ما مضى من العمر، أو قل ماذا يفيد العلم إن كان أحدهم يدفعه عنه دفعًا فلا يتعلم من خطئه ولا يعتبر بخطأ غيره، ولكن هذه هي الحياة، وهؤلاء هم الدواب وأنَّى لنا التغيير.

الرسالة الثانية

حسبك حسبك يا رجل، إنني لا أحسدك على ما فتح الله لك، ولا أستعجب من تبدل الحال، فالأقدمون قالوها: ثبوت الحال من المحال، ولا أذكر لك سبقاتك لأعيرك بما كنت عليه، فإنني أعي أن الإنسان بما يُحدِثه في الظروف لا بما تُحدِثه الظروف فيه، وإن كل غدرة فعلتها تجاهي لا تشغل بالي إلا من باب التندر على الزمن ومآلاته، بيد أن غدرة واحدة أبت أن تخضع لسطوة النسيان، أنت تعرفها جيدًا.

لماذا يا «باتش»؟! إن المرء ليبلى جسده وتبلى جميع أعضائه إلا القلب يظل حتى آخر زفرة من زفرات تلك الحياة ينازع وهو في أوج قوته، وإن قلبي لينازع حتى الآن من تلك الطعنة اللعينة التي أصبته بها، وسيظل ينازع حتى آخر زفرة من العمر.

آه يا «باتش» آه، ما زالت صورتها وقد جلست يمينك في سيارتك الفارهة، واختارتك وتركتني لأنازع مع آلام عشقي وهواي محفورة… مدوَّنة في أعماق أعماق ذلك الجرح الغائر الذي سبَّبته طعنتك.

أتعلم يا باتش، ستعجب كل العجب إن علمت أني أمني نفسي وأقنعها أنها قد اختارتك لأنها تحبك وتفضلك عني لا لأجل مالك وثرائك، لأني أخشى أن يتسرب إلى نفسي أنها ركضت خلف المال والثراء فغدرت وخانت لأجل ذلك، فيتحطم ولو جزء صغير من تلك الصورة التي احتفظتها لها بين أضلعي، أو يتلطخ ذلك البياض الذي طالما لا ينازعه لون آخر في سيرتها القابعة بفؤادي.

لم يكن قيس مجنونًا يا «باتش» لقد كذبوا علينا في ذلك كل تلك السنين، بل ذهب عقله ليبحث عن دواء لهذا الجرح الذي حلَّ بقلبه ولكنه لم يعد، لأنه لم يجد الدواء لقلبه. وآهٍ يا قلبي آه، حسبك أيها القلب المسكين بعض المنى والتمني والآمال الكاذبة، فإنهن خمر القلوب ومسكراتها، فلعلك تسكن بالأمل حينًا من الدهر حتى يأتي الأجل فيريحني وإياك من هذا الشقاء.

الرسالة الثالثة

«باتش» أما زلت تقرأ رسائلي؟ أم أنك جدولتها لتقرأ ما بها من هراء لهرٍّ أوهره الدهر لشيء من هرطقة الصعاليك التي لا جدوى منها في وقت فراغك، فتتندر على ما بها من آلام أو تستمتع وتتلذذ ممَّا بها من جيد الأسلوب والسرد، وأنت تحتسي كوبًا من القهوة على ضوء الشموع، في آخر يوم مرهق من أيامك المكررة التي لا تفتأ ترهق نفسك فيها بحثًا عن المال والثروة؟

أم أنك لا تهتم بالقراءة أصلًا؟ أم أن رسائلي ينتهي بها المطاف إلى أحد موظفي مكتبك الأوغاد، فيرى أنها غير جديرة بأن تُعرَض عليك، وأنها مجرد شيء من السفسطة ينأى قط مهم مثلك له من الأولويات والمشاغل ما يغنيه عن الانشغال بها؟

لكن لا بأس، سأستمر في الكتابة، فقط لأني أريد أن أكتب حتى إذا أتاني الأجل وانتهت قصتي تظل محبرتي وأوراقي شاهدة على ما لقيه صاحبها من بؤس وما تجرعه من غدر في تلك الحياة، ولا يهمني أن تسمع فبعض الدواب كالصخر الأصم لا يسمع ولا يبصر ولا يلين، ووددت أن يكون هناك ما جد في حياتي فأحكيه لك ولكن يا لسخرية القدر، أنت أيامك مكررة تركض خلف المال وأنا في وظيفتي الأولى التي أتحصل منها على ما يكفيني للحياة وحسبي ذلك. أكرر اليوم تلو اليوم في الركض خلف «جيري» لأتحصل على ما يسد جوعي من السيدة «مامي»، فلا حاجة لي في الدنيا غير تلك اللقيمات.

أتدري يا «باتش» أنا لست فاشلًا في عملي كما يصورني هؤلاء المخرجون الحمقى وصُنَّاع الكارتون، دعني أحكي لك قصة لعلك تستوضح الأمر:

يُحكى أن أحدهم ذهب إلى أحد حلاقي بلدته، وأثناء الحلاقة بادر إليه الحلاق بالحديث واللمز على صبيه أنه من أغبى البشر، وقال: سأريك حالًا صحة كلامي، ثم نادى على الصبي وأخرج له جنيهًا في ناحية وعشرة جنيهات في الناحية الأخرى، وطلب من الصبي أن يختار منهما، فأخذ الصبي الجنيه الواحد وترك العشرة ثم تنحى جانبًا، فضحك الحضور من صنيعه، وقال الحلاق في شيء من الزهو والسرور لأنه استكمل أركان الدعابة: أرأيت كم هو غبي!
انتهى الرجل من الحلاقة وعندما خرج وجد الصبي وسأله: لماذا اخترت جنيهًا واحدًا ولم تختر العشرة؟ فقال الصبي: في اليوم الذي سأختار فيه العشرة جنيهات ستنتهي اللعبة.

نعم يا «باتش» في اليوم الذي سأقضي فيه على «جيري» لن يعود لي فائدة في منزل السيدة «مامي» وسينتهي بي الحال على قارعة الطريق، لهذا أنا أكثر المنتفعين بوجود «جيري»، ذلك الفأر الذي إن أردت أن أقضي عليه من الحلقة الأولى لفعلت، ولكن حينها لما كان هناك «توم». وكذلك «جيري» يعلم تمامًا أنه إن جاء قط آخر غيري لقضى عليه في توها، لكنه يعلم أني أذكى من ذلك، لذلك كان هو الأحرص على طردك من المنزل عندما استوليت على وظيفتي، لأنك كنت تتعامل بجدية ولم تكن تفهم وما زلت لا تفهم يا «باتش».

وقد كان وما زال لا يريد لي الرحيل، إن وجودنا أنا و«جيري» مُترتب على بعضه، وتلك عادة الأضداد دائمًا يا صاح، لولا الظلمة لما عُرف النور، ولولا الموت لما عُرفت الحياة، فكان الأجدر بنا أن يحرص كلٌّ منَّا على وجود الآخر، وإن غلَّفنا ذلك الحرص ببعض من العداوة والصراع، لذلك ما كانت الطعنة لتأتيني من نِدِّي طوال تلك الحياة، قبل أن تأتيني منك يا صديقي القديم.

إلى أبي الروحي «جين ديتش»

رثاء متأخر، وتأبين واجب:

انقضى أكثر من العام على فراقك، التزمت في تلك الفترة الصمت، وخلوت إلى النفس، وحبست الجسد عن الأنظار، لا أصدق أنني لن أرى مرة أخرى ذلك الذي أخرجني وقدمني إلى العالم.

يَهُم دمعي بالخروج، ويَقُدم قلمي على خط الرثاء، فتتدافع حينها ذكريات أليمة إلى ذهني، فتحكي علاقة فحواها قسوة وتهميش، فتتوقف الدموع آنذاك على بوابة العين تنتظر إذنًا بالخروج، فتكون العين مغرغرة الدموع، مُعلنةً عنِ الاستعدادِ للولوجِ في البكاء، منتظرةً قرارًا سياديًّا من اجتماع مغلق في ذهنٍ مُشردٍ لم تنقضِ بعدُ مباحثاته، وتقفُ الأحرفُ على لِساني ويشل قلمي على ورقةٍ بيضاءَ لا يدري ما يكتب، فينتظرُ قلمي ولساني هما أيضًا قرارًا أو أمرًا من ذلك الذهن المُشرد، فكانت العِبر والعَبَرات حبيسةَ النفسِ، والنفسُ منعزلةٌ محبوسةٌ عن العالم.

لربما كان «جيري» الفأر هو الأحق بالهرولة للعويل وللرثاء مني، ولمَ لا؟ فهو الابن المدلل الذي دائمًا ما كنتَ تُفضِّله عني في السِيناريوهات والإخراج في أغلب الحلقات، فتُظهره بمظهر العبقري الماكر على حسابي، لأخرج أنا أمام الجمهور «توم» الأَبله الأخرق، فتُقدِّم لص المنزل اللعين عليَّ أَنا… حامي المنزل الشرعي، لقد كنت تُظهرني المتوحش على كلِّ ما هو صغير، طيرًا كان أو حيوانًا، أمَّا هو فيكون «روبن هود» عالم الحيوان، الفارس المُنقِذ لتلك الحيوانات من بين مخالبي، مع أن واقعًا فمعشر الفئران هم الأجرأ منَّا على أذية البشر وافتراس صغار الطيور.

قد أتفهَّم أنك كنت تحبه عني لأنه الأصغر والأضعف، والآباء تلقائيًّا يُفضِّلون الابن الأضعف عَلى إخوته، وما كان تفضيل يعقوب ليوسف إلا تجليًا لتلك الفطرة الأبوية في النفوس، إلا أن تلك الفطرة الأبوية لتنصف الأضعف وتعدل كفته، لا لأن تطغى على البقية، وقد يبدو أن تلك الفطرة الأبوية تتوقف عندما أكون أنا الأضعف والأصغر أمام «سبايك» الكلب، الذي لم تتوقف عن تسليطه عليَّ لتنغيص معيشتي.

لكن أتعلم سيد «ديتش»!

أحيانًا أعزي نفسي بأن ذل الدهر لي كقط أرحم بالمرء من هوان كلبٍ بطوق مذل، أو عيش فأرٍ في جحر خوف، إن تحاملك عليَّ سيد «ديتش» قد بلغ مداه إلى تفضيلك أبناء جنسي عليَّ، ففضَّلت «باتش» قط الشارعِ عليَّ، وسلبت مني عشق فؤادي «تودوليس» وأعطيتها إياه، وتركتني أتخبط بين مآسي الحياةِ مجروح القلبِ، والنفسِ، والخاطر.

أنَّى لعتاب الأموات أن يُجدي نفعًا أَو يُحرز مكسبًا، وإنَّني شئت أَم أبيت، فأنت أَبي الروحي، الذِي لا بد أنه سعى دائمًا بجهدٍ ليخرجنا إِلى العالم، ليجعلنا نتفاعل ونشعر ونُقدِم ونُحجِم، ونؤثر فيمن حولنا ونتأثر.

وإن القليل من الذكريات الحسنة التي تركتها في حياتي لهي كفيلةٌ بأن أشعرَ بالامتنان والعرفان لك، ذكريات التحالفات مع جيري ضد العدو المشترك، والأُلفة التي أحدثتها بيننا الأيام، أَو عندما أرسلت إليَّ ابن عمي «تابي الخجول» في الحلقة الأفضل والأقرب إلى قلبي، ليؤنسني ويهون عليَّ وينتصر معي على «جيري» في واحدةٍ من المرَاتِ النادرة التي عطفت على حالي البائس فيها، فيطيب حينها خاطرِي بتلك الذكريات وتقر عيني، فأشعر حينها بالأسى على فراقك، فتُسكَب الدموع، وتنطلق كلمات الرثاء معلنة أن ارقد في سلام.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.