لقد تحملنا البرد القارس في الزنزانة- الثلاجة طوال شهور الشتاء ونحن حفاة شبه عراة، واختنقنا إلى الإغماء أحيانًا من فرط الحرارة وقلة التهوية وطغيان الروائح الكريهة في الصيف، وتمزقت أحشاؤنا بمناشير من الجوع المروع ما يقرب خُمس قرن من الزمن، وتعرضت أجسام بعضنا إلى نهش العقارب، وجحافل الحشرات التي عاشت معنا في الظلام.
الضابط أحمد المرزوقي عن معاناته في سجن تازمامرت

الجسد كموضوع للتحليل والمقاربة يأخذ صيغًا مختلفة ويسفرُ عن مآلات متباينة، ولهُ أهمية بالغة على كافة الأصعدة، فمقاربة القول في الجسد، يعني مجاوزة منطق المراقبة والمعاقبة، مجاوزة منطق الثنائيات والتحريم، بكلمة مجاوزة ثقافة متوجسة من السؤال عينه. ما سَيكون بالنسبة لنا حافزاً نحو مقاربة هذا الموضوع ضمن نسقٍ ونظامٍ أقام على الجسد مراقبة ومعاقبة، سنخط في مقالتنا هاته، عتبات الجسد المعذب باعتباره موضوعًا خاضعًا للمأسسة، لنظام ثابت يطبق عليه مقولاته يجعل منه ارتهانًا ويصيرهُ استعمالاً.

في الدول ذات الطابع الشمولي، كل شيء فيها يخضعُ للتقنين، لكل أجهزتها التشريعية والتنفيذية؛ لذا فحياة الناس لا تخضع إلا لهذا المنطق الاستعمالي لحياتهم، بدءًا بالولادة مرورًا بأشكال التربية وأنماط العلاقات الاجتماعية، وأنماط الوعي وحدوده وبالتالي؛ كل الممارسات والنشاطات التي يزاولها الإنسان تتحدد عبر هذا التقنين وتخضع له، فكل خروجٍ عن هذا النظام المحدد والمشرِّع هو خروج عن الحقيقة التي تقرها السلطة، وبالتالي يكون من السهل جدًا تَجريرُ السلوك والممارسة خارج هذا النظام. وليس خفيًا أن يتشكل الوعي الجمعي للإنسان في سيادة النظام الشمولي، من مفارقات ترسخ في الذّهن وتترجم إلى سلوكيات صعبة التفسير. لكن ما يهمنا في الأمر، تلك العلاقة التي جمعت بين السلطة والجسد، باعتبار هذا الأخير من مشمولات النظام الذي يعمل على ترميزه وتوثيقه Document، ولعل دور العلوم الإنسانية والاجتماعية الأول في هذا المجال تحديدًا، يكمن في كشف اللثام عن الممارسات السلطوية العنيفة واستفزازها. من هنا سيكونُ مقالنا عبارة عن تجوالٍ في ساحة أشبه بالأغور/Agora، تتداول فيها الآراء والرؤى، باعتبارها شكلاً من أشكال التلاقح المعرفي؛ أي جَدل العلوم الإنسانية بعضها البعض، تشبيهًا لخصوصيتها بالمجال الأغوري. لذا فطبيعة عملنا هذا فيه من التاريخي الكثير، ومن الأدب حكيًا وتكثيفًا وترميزًا، ومن الاجتماع تنظيرًا، ومنَ الإناسة صورًا تؤثث فضاء الذاكرة. وتَعلة ذلك أن الجسد نمط تذكّر اجتماعي، ومجال ممارسة، يتبدى فيه الثقافي والأنثروبولوجي، كما أنهُ مجال صراع وفرض تأويلات من أجل امتلاكهِ، ومن خلال هذا فإن مقاربتنا ستعمد إلى توظيف مفهوم الخطاب الفوكوي [1] وكذا تحليلاته في كتابه «المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن»، للوقوف على مدى حضور دور السلطة في حياة الإنسان المعاصر، ومدى شموليتها وتغلغلها في أخص ما يملكه.


تازمامرت مسيرة ألف ليل وليلة: حكاياتٌ عن ألم التعذيب

لم يكن أحمد المرزوقي الضابط بثكنة أهرمومو [2]، على علمٍ بما سيحدث ولا بعلم بما خطط له سلفًا، بل في الحقيقة لم تكن الثكنة العسكرية برمتها تدري ما الذي سيحل بها، اللهم من دبروا للانقلاب هم من يعلمون ما الذي بيتوه من نية وتخطيط، للانقلاب على الملك الحسن الثاني، الذي حكم المغرب خلال ( 1961 – 1999م). كانت حياة المرزوقي ورفاقه حياة عادية كسائر الخلق، انهمام بأمور الدنيا، وانغماس في الحياة بما تحتويه من أفراحٍ وأتراحٍ. لم يدرِ أحمد ومن معه أن اللحظة التي سيخرجونَ فيها من الثكنة متوجهينَ نحو القصر الملكي بالصخيرات، هي لحظة النهاية لبداية؛ نهاية اللقاء بالصحب والأهل، نهاية اللقاء بالابتسامات التي تنعش القلب، وتتركُ لهُ أملاً في مواصلة الحياة، نهاية اللقاء بحواري وأزقة المدن المغربية وما تحويهِ من تنوّع ومن تناقضات، نهاية اللقاء بالعالم الخارجي بكل مكوناته، وبداية اللقاء بمستقبل قاسٍ فظيع مؤلم، بداية اللقاء بحياة لا يستطيعُ الخيال أن يستوعبها، بداية ستطبعُ حياة المرزوقي وصحبه بأحداث طبعت تاريخ المغرب المعاصر وارتبطت به. إنهُ تاريخ الانقلابات الشهيرة بمغرب الحسن الثاني، حيث الانقلاب الأول المسمى بانقلاب الصخيرات سنة 1971، الذي رجّ المغربَ رجًّا، فرجَّت معه نفوس المغاربة وكل من سولت لهُ نفسه أن يحدثها عن الأمر الجلل، الذي سمعوه أو عايشوه، بعد الانقلابين والأحداث الدامية التي تلت هاتين الواقعتين.

كان الذهاب إلى القصر الملكي [3] على أساس استعراض ومناورة عسكرية في المناسبة الملكية التي يعقدها كل سنة في عيد ميلاده. لم يكن الضباط والعساكر والجنود، وكل من له رتبة عسكرية، على علمٍ بما سيقدمون عليه إلا بعد قربهم من الصخيرات حيث خطب فيهم أعبابو أحد المتواطئين مع الجنرال أوفقير على تصفية الملك، بأن لهم موعدًا مع التاريخ إذا قاموا فعلاً بإنجاز مهمتهم على أكمل وجه. وهي مداهمة القصر وحصاره من كل جانب ثم تصفية كل من خوّلت له نفسه أن يقاوم، فعلاً كانوا في صلب الحدث، بل كانوا هم شخوصه الرئيسة بعد أن دخلوا في لعبة الحدث، وسقطوا في نسيان تازمامرت بعد أن فشل حدثُ الانقلاب، لسبب واحد ووحيد غياب التنسيق والتواصل بين زعماء الانقلاب فكان ما كان.

قُيّدَ تسعةٌ وخمسونَ رجلاً من رتب عسكرية مختلفة من جند، ضباط، عمداء، نقباء، إلى جحيمٍ دنيوي وسط الصحراء المغربية، في مكانٍ مجهول عرف بتازمامرت الرهيب الذي سيقضي فيه أحمد وصحبه ثماني عشرة سنة وثلاثة أشهر، ذاقوا خلالها آلام التعذيب الجسدي والنفسي، وقد وضعوا في سجنٍ منعزلٍ عن العالم الخارجي بكل ما فيه، جُردوا بداية من كل ما يملكون وهم في طريقهم إلى تازمامرت حيث جرت محاكمتهم من قبل في الرّباط، كلٌ أخذ نصيبه من السنين التي ظنوا أنهم سيقضونها وراء قضبانٍ عادية يتمتعونَ فيها بكافة حقوقهم الإنسانية، لكن هيهات!، فبعدَ حلولهم بتازمامرت انكشف الغطاء والتفت المآقي متجولةً منذهلة، رباه أفرغ علينا صبرًا كما فرغتهُ على الذينَ من قبلنا!، هكذا كانَ لسان حال أحمد، لما رأى مِن حوله ما رأى، ما كذبتِ العينُ ما رأت.

أُلقي السُّجناء في زنزانة مظلمة أشد ما تكونُ ظلمة، زنزانة حفّت حواشيها من أسمنت وحائط يبلغُ سمكهُ من زنزانةٍ لأخرى مترًا ونصف، كانَ هذا هو سجن تازمامرت ذو التسعة والخمسونَ زنزانةً من الداخل، أما شكله الخارجي فهو بشع وقبيح المرأى، بقبح وبشاعة الحياة في تازمامرت نفسها، فهو عبارة عن عنبرين للسجناء، وبِنايتين مستطيلتين مسقفتين بالزنك، في كل من أحدهما انتصب برج الحراسة يطل من كل الجهات على الساحة الداخلية للسجن؛ ما يعني أن الفرار شيء مستحيل [4]. كانت الليلة الأولى بداية التكهن الحقيق بما تنذر به الليالي الآتية من عذابات و معانات، أمضى السجناء سحابة أيامهم الأولى في جحيم نفسي رهيب، الوحدة والظلمة هما أنيس السجناء، والذكريات تتراقص في الذهن تباعًا، هي عزاء السجين في وحدته الرهيبة. لم يمتد هذا الألم النفسي طويلاً حتى تضاعف عليه الألم الجسدي، وهنا ابتدأت المأساة الحقيقية لسجناء تازمامرت، حين بدأ الوهن والضعف يتسللان إلى الجسد؛ لرداءة المأكل وندرة المشرب، وتكالب الادواء، والأسوأ من ذلك شراسة الطبيعة في الخارج، التي لم يستطيع السجناء مقاومتها فأغلبهم قضى بسببها وبسبب اللباس الذي لم يكن ليقيهم زمهرير الشتاء ولا يخفف عنهم حر الصيف، هنا ستبدأ حكاية التعذيب الجسدي، وسيعيش السجناء أحلك ايامهم.


الجسد المعذب

يحكي المرزوقي قائلاً: «لقد تحملنا البرد القارس في الزنزانة- الثلاجة طوال شهور الشتاء ونحن حفاة شبه عراة، واختنقنا إلى الإغماء أحيانًا من فرط الحرارة وقلة التهوية وطغيان الروائح الكريهة في الصيف، وتمزقت أحشاؤنا بمناشير من الجوع المروع ما يقرب خُمس قرن من الزمن، وتعرضت أجسام بعضنا إلى نهش العقارب، وجحافل الحشرات التي عاشت معنا في الظلام»[5]. يكتسي هذا الاقتباس تركيزًا مهمًا لحجم الألم الذي مُورس على السجناء في تازمامرت، فلم تحصر السلطة دورها في إصدار الاحكام في حق أحمد وصحبه، وحرمانهم من حقوقهم الآدمية، بل سعت إلى امتلاك أجسادهم والتصرف فيها، وهنا تظهر لا عقلانية السلطة، تُبرز عن إستراتيجيتها المدمرة، عن قناعتها في احتواء الانسان وفقَ نظامها وبالتالي؛ يكذب كل ادعاءاتها وخطابها حول أولوية الانسان وإصلاحه، بل وحتى عن دور السجن في إعادة تأهيل السجين، وربما يكونُ الامر مدعاةً للسخرية، حينما تحدد السلطة مجالاً تضع فيه الإنسان بغية إعادة إصلاحه، وهنا ينطوي الأمر على نقطتين:

– هل مقتضى إصلاح الإنسان وتأهيله وفقَ نظام السلطة هو النمط الحقيقي لإصلاحه، أم أن مسألة الإصلاح تُنشئ خطابًا يعيد تشكيل وعي السجين وفق النظام الذي تبغيه السلطة؟

-بمجرد ما تضع السلطة مجالاً تضع فيه الخارجينَ عن نظامها، فإنه سرعان ما يكشف عن هشاشتها وهشاشة أجهزتها في حوار الناقمينَ على سلوطتيها [6].

قضى أحمد هو وصحبه بياض أيامهم في زنزانة تازمامرت؛ بسب جريرة تورّطوا فيها تورطًا، وباعتبارهم جزءًا من النظام الشمولي. تمت مصادرةُ حريتهم والتنكيل بهم. لقد أثبتَ النظام أن الجسد الإنساني موضوع ممارسة، ووسيلة لكبح جماح غضب اجتماعي، بل أداة طيعة في تمثيل جدلية العبد والسيد، لذا يظل الجسد أحد أغنى وسائل الترهيب والتنكيل السيكولوجي للمجتمعات.


الجسد ذاكرة المجتمع

يشكل الجسد في بعض الدراسات الإنسانية والاجتماعية موضوعًا للممارسة السيوسولوجية والسيكولوجية والتأملية، ومن بينها دراسة ميشيل فوكو في كتابه «المراقبة والمعاقبة surveiller et punir صدر سنة 1975». يرمي فوكو بعيدًا في كتابه هذا، حينما يسائل السلطة عن طريق علاقتها بالجسد، فهو لا يبحث عن معانٍ غائرة تكشف عن إستراتيجيات السلطة وممارساتها [7]، وإنما يبحث في معانٍ قريبة تظهر أكثر مما تتخفى؛ لذا أتى كتابهُ هذا عبارة عن تاريخ تحليلي لوقائع حيّة جرت في فرنسا قبل الثورة، حينما أقدمَ دَمين/Damiens [8] على اغتيال لويس الخامس عشر سنة 1757، ويُسائل فوكو عن الذي تغير في المجتمع الفرنسي فيما يخص جريمة العقاب، وما هي آليات السلطة في العقاب؟.

يرى فوكو أن مسألة العقاب تأخذ مسلكين: مسلك التأديب الملكي، الذي ينفذ في العلن لإرهاب الجماهير وبالتالي؛ يسهلُ بث الرعب فيهم وضبطهم، أما المسلك الثاني: فهو يقوم على وظائف المؤسسات الحديثة التابعة للدولة، والتأديب الذي اضطلع به كأداة قمعية للجسد، حيث العيادة، السجن، دور الرعاية …إلخ. وهي كلها أدوات تعملُ على رهن الجسد بالنظام الاجتماعي، من هنا أمكننا أن نتعرف أن للسلطة علاقة استثمارية بالجسد، الشيء الذي يشير إليه فوكو في تضاعيف كتابه وبالتالي أمكننا القول إن السجن هو أحد الطرق التي أعادت الدولة الحديثة تفسير نفسها وتحديثها؛ بغية تحقيق السيطرة على الجسد وإنفاذ جملة مقولاتها فيه، لهذا يمكن أن نعتبر الجسد أبلغ توثيقًا من النص، وعلةُ ذلك أن الجسد يقدم نفسه في إطار أنماط العلاقات الاجتماعية، كذاكرة اجتماعية وأنثروبولوجية [9]. تصف مجموع العادات والسلوكيات والتصورات، التي يعكسها المرء داخل جماعته، وارتباطًا بمسألة السلطة فإن الجسد المعذب هو ذاك الذي لا يخضع لبنية الخطاب السلطوي ولا لفعله، ومنه يمكنُ أن نستنتج أن فعل السلطة باعتبارها نظامًا، استطاعت ترسيخ مجموعةٍ من الممارسات والقناعات التي أفرزت ممارسات أتت نتيجة رد فعل عن التعذيب الذي مورس عليها، ليس أقلها ظاهرة العنف في الجامعة أو الجماعات (الدينية/ اليسارية) التي تلجأ إلى العنف، أو في الظواهر التي باتت مألوفة باسم الإرهاب والتطرف الديني.


[1] ميشيل فوكو، نظام الخطاب، كاليمار1971 ، ص 10، 11. نقصدُ بالخطاب تحديدًا ما قصده فوكو في افتتاحية درسه، في الكوليج دو فرنس، وهو بنية من الخطابات/السرديات، المتعددة التي تخضع للمراقبة، والانتقاء، وللمأسسة أيضًا.[2] ثكنة أهرمومو هي الثكنة أو المدرسة العسكرية، التي كان الضباط والجنود يتلقون فيها تدريباتهم، وهي واقعة في مجال مدينة صفرو في بإحدى القرى المجاورة لها.[3] كل هذه الأحداث التي نسردها، مضمنة في الكتاب الرئيس الذي نعتمده تازممارت: الزنزانة رقم 10 (الدار بيضاء- المغرب، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2012)، من ص 15 الى ص 155.[4] أحمد، المرزوقي، تازممارت الزنزانة رقم عشرة، (الدار بيضاء- المغرب، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2012)، ص83.[5] أحمد، المرزوقي، نفس المرجع، ص 211.[6] نحنُ هنا نتحدث عن السجناء الساسيين الحزبيين الممارسين للشأن السياسي أو المعارضين بصفة عامة للأنظمة الشمولية، وليس حديثنا هنا يحتوي ذوي الجرائم الجنائية أو ما شابه.[7] Michel, Foucault, surveiller et punir : Naissance de la prison, (Gallimard 1975), p 35 « Que les punitions en général et que la prison relèvent d’une technologie politique du corps, c’est peut-être moins l’histoire qui me l’a enseigné que le présent. […] Il s’agissait bien d’une révolte, au niveau des corps, contre le corps même de la prison. Ce qui était en jeu, ce n’était pas le cadre trop fruste ou trop aseptique, trop rudimentaire ou trop perfectionné de la prison, c’était sa matérialité dans la mesure où elle est instrument et vecteur de pouvoir. […] C’est de cette prison, avec tous les investissements politiques du corps qu’elle rassemble dans son architecture fermée, que je voudrais faire l’histoire ».[8] Michel, Foucault, surveiller et punir : Naissance de la prison, p 9.[9] يمكن أن نعطي حول هذا مثلاً واضحًا: فالمجتمعات التي يغلب عليها الحفاظ على الموروث الشفهي بدل المكتوب، فهي غالبًا ما ترسخُ قيمها وعادتها ضمن ثقافة الجسد، وتحافظ عليه وتنقلهُ للأجيال عبر الممارسات الاجتماعية والأنشطة السائدة، ومن هنا يأتي معنى الجسد كتوثيق اجتماعي لتاريخ ما.
المراجع
  1. المرزوقي أحمد، تازممارت الزنزانة رقم عشرة، الدار بيضاء- المغرب، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2012.
  2. Foucault Michel, surveiller et punir : Naissance de la prison, Gallimard 1975.
  3. Foucault Michel, l’ordre de Discours : Leçons inaugurale au Collège de France prononce le 2 décembre 1970, Gallimard 1971.