إضرابات ومظاهرات مليونية ترافقت مع أعمال عنف واعتقالات، كانت أبرز مظاهر الحراك المستمر من بداية الشهر الماضي بقيادة النقابات الرافضة لمشروع إصلاح نظام المعاشات التقاعدية الذي يسعى الرئيس ماكرون لفرضه.

من شبه المؤكد أن الحكومة الفرنسية ماضية في سياساتها كما يبدو غير مكترثة بردود الأفعال الرافضة، فالمشروع مرر في مجلس الشيوخ ومن المرجح أنه سيقر في مجلس النواب.

الصدام الذي تعيشه فرنسا في شوارعها وغرف برلمانها مبعثه الرئيسي ليس فقط تشبث كل طرف بمواقفه، بل أيضاً الصراع الاجتماعي والاقتصادي المتصاعد.

الإصلاح أو الإفلاس

تتكئ الحكومة في تعديلاتها للنظام التقاعدي على مقاربة الضرورة التي تدفعها إلى المضي في خطتها، فالحياة المهنية للموظف الفرنسي تنتهي عند سن 60 عاماً مقارنة بالعامل الألماني الذي يستمر بالعمل لخمس سنوات إضافية ما يعني أن الحياة المهنية للألمان أطول من نظيرتها الفرنسية، بالتالي الحكومة الفرنسية تنفق أموالاً أكثر على فئة المتقاعدين، الأمر الذي من شأنه تحميل الميزانية أعباء كبيرة، أعلنت الحكومة عن عجزها تلبية متطلباتها مستقبلاً.

هذا ما حذر منه «غابرييل أتال» وزير الحسابات العامة خلال نقاشات في الجمعية الوطنية إذ قال «إما الإصلاح أو الإفلاس»، مستنداً إلى تقرير صندوق المعاشات التقاعد الذي تنبأ بتدهور نظام المعاشات ووصول نسبة العجز إلى 0.4 في المئة من الناتج الإجمالي لصندوق المعاشات أي ما يزيد على 10 مليارات يورو سنوياً حتى عام 2032.

ادعى أتـال أن ليس أمام الحكومة سوى رفع سن تقاعد الفرنسيين ليصبح 64 عاماً ما يوفر قرابة 18 مليون يورو ويعيد التوازن لميزانيات المعاشات بحول عام 2027، إضافة إلى زيادة تدريجية في حجم القوى العاملة لتصل إلى 3000 ألف عامل في عام 2030.

جوبهت ادعاءات الحكومة بالرفض من قبل قوى الشارع التي دحضحت تلك الادعاءات بالتأكيد على أن معاشات المتقاعدين تقتطع من رواتب الموظفين خلال حياتهم المهنية وليس للحكومة أي فضل فيها.

ظل «التاتشرية» في تعديلات ماكرون

 تبني الرئيس ماكرون سياسيات نيو ليبرالية تهز أسس دولة الرفاه الاجتماعي يعود بنا بالذاكرة إلى ثمانينيات القرن الماضي التي شهدت مواجهة دامية بين تاتشر المرأة الحديدية وعمال المناجم، التي انتهت بهزيمتهم وفرض السياسات النيو ليبرالية على المجتمع.

 استهل ماكرون عهد رئاسته الأولى بإلغاء الضريبة على الثروة، وقلص الدعم الحكومي للقطاع الطبي وتشير الإحصاءات إلى أنه في السنوات الست الأخيرة فقدت المستشفيات الفرنسية 21 ألف سرير باستشفاء كامل.

 تعود مساعي ماكرون إلى إصلاح نظام المعاشات إلى عام 2019 إلا أنها جوبهت في حينه باحتجاجات وصفت بأنها الأضخم منذ انتفاضة الطلاب في الستينيات من القرن الماضي، وجاء تفشي وباء كوفيد ودخول البلاد في حالة الحظر الصحي وانطلاق السباق الرئاسي الذي حال بينه وبين تنفيذ خططه ما دفعه لتأجيل العمل بها للعام الحالي.

واستئنافاً لسعيه السابق رفع ماكرون شعار «أنا مع فرنسا التي تستيقظ مبكراً»، في محاولة منه لحشد التأييد الشعبي لخطته.

ولدى استطلاع آراء المحتجين ومواقفهم من شعار الرئاسة جاءت أغلب الإجابات متشككة ورافضة له فأحد المتظاهرين دانيال لوزنبرك قال: «لو كان السيد ماكرون صادقاً فالأجدر بالقانون أن يميز بين المهن التي تتطلب جهداً عضلياً، وتلك التي يمارسها أصحابها من خلف المكاتب ومن وراء الشاشات». وبالعموم هناك شبه إجماع بين المتظاهرين الذين قابلناهم، أن المطلوب هو زيادة في الأجور وليس زيادة سن العمل ورفع الضريبة على الأغنياء، فالقانون حسب رأيهم يضر مباشرة بالذين يستيقظون مبكراً وليس العكس كما يحاول السيد ماكرون الإيحاء به، فانحيازه للأغنياء واضح للمتظاهرين ما يجعلهم رافضين لتقبل أي خطوة اقتصادية تقدم عليها الحكومة حتى لو كانت ضرورية كما يزعم.

 الحراك النقابي على المحك

حذر «فليب ما رتينيز»، السكرتير العام للكونفدرالية العامة للعمل (CGT)، وذات الشعبية العارمة في الأوساط العمالية، بعد اليوم السابع للمظاهرات بأن «هناك خطراً بتحويل المظاهرات لشيء آخر لأعرف ما هو بالضبط لكنها حتماً سوف تتحول إن لم يكن هناك استجابة». يوضح تحذير مارتينز إصرار الشارع بقيادة النقابات على الذهاب بعيداً في مواجهة السياسيات الماكرونية، بخاصة بعد استعادتها لزخمها الاجتماعي وتعبئة الطبقة العاملة خلفها، متجاوزة استقطاباتها الهوياتية، يدل على ذلك انخراط «اليد العاملة البيضاء» بقوة في المظاهرات على الرغم من أنه باتت تصوت في الانتخابات الأخيرة لمصلحة اليمين، الأمر لا يتوقف عند الطبقة العالمة و تأطيراتها النقابية والسياسية، فالشريحة العليا من الطبقة الوسطى أصحبت تشعر هي الأخرى بالظلم وبالتهديد لمكتسباتها وهو ما يمفصل مصلحتها أكثر فأكثر مع الطبقة العاملة، ويجعل التصدي للخطة المقترحة صراعاً مع محاولة التغول النيو ليبرالية على دولة الرفاه.

تدرك النقابات صعوبة المعركة التي تخوضها، وبالتوازي تدرك أيضاً حجم قوتها ومدى تأثيرها في الشارع الفرنسي، وهو ما حمل «لورين برجيه»، السكرتير العام لتجمع متحدين من أجل العمل (CFDT) الذي يحظى باحترام الحكومة، إلى الدعوة إلى «فرنسا المعطلة» في تصعيد خطير ينذر بشلل كامل للاقتصاد. الرد جاء سريعاً على دعوة برجيه، إذ قال الناطق باسم الحكومة، ألفيه فيران، «نحن ندعو إلى فرنسا التي تعمل»، في مؤشر واضح على عدم نية الحكومة بالتراجع. 

وبعيداً عن الجدل بين الحكومة والنقابات يواجه الحراك الشعبي تحدي ديمومة التماسك بين أطرافه.

 فالكونفدرالية العامة للعمل، التي تضم العمال الزارعيين وعمال سكك والحرفين وعصبها من الشيوعيين استقطبت في السنوات السابقة أعداداً متزايدة من العمال المنتسبين على حساب التجمع ذات الاتجاه اليساري الديمقراطي وهذا التنافس يهدد تماسك الحراك وحدة مطالبه.

مكتسبات الفرنسيين تحت الضغط

الصراع على تعديل نظام التقاعد ليس وليد اللحظة ففي عام 1982، أقدم فرنسوا ميتران، أول رئيس اشتراكي لفرنسا، على تخفيض سن التقاعد 5 سنوات ليصبح 60 عاماً، ليأتي بعده الرئيس جاك شيراك عام 1988 في خطوة جريئة لتعديل نظام المعاشات التقاعدية، لكنه اضطر للتراجع تحت تأثير الضغط الشعبي في وقتها، غير أن ساركوزي لم يعبأ بالاحتجاجات التي اجتاحت البلاد في حينها ورفع سن التقاعد سنتين، ودفع ثمن عناده السياسي خسارته للانتخابات، وبعودة الاشتراكيين للإليزيه مع فوز فرنسوا أولاند عام 2012 عدل نظام المعاشات التقاعدية جزئياً لكنه لم يجرؤ على التنافس للرئاسة مرة ثانية.

امتياز ماكرون عن سابقيه بعدم اكتراثه بالرفض الشعبي للقانون ويرجع ذلك في جزء منه كونه في فترته الرئاسية الثانية، وبالتالي لا يشعر بالتهديد على مستقبله السياسي أو تدني شعبيته، فقانون إصلاح نظام المعاشات كان في صلب حلمته الانتخابية وسيمضي به حتى النهاية إضافة إلى استناده لمادة قانونية تضمن حق الحكومة في تمرير مشروع واحد في السنة، وإقراره من دون الحاجة لموافقة البرلمان وهو ما لمح له وزير المالية الفرنسي برونو لومير إذ قال: «الحكومة تحاول إيجاد أغلبية برلمانية تدعم الخطة حتى يكون لها شرعية سياسية فقط».

فرنسا دولة الرفاه الاجتماعي، أو هكذا يراها الفرنسيون، بغض النظر عن توجهات الحكومات المتعاقبة يساراً أو يميناً، فالدعم الحكومي لشرائح واسعة من المجتمع الفرنسي اكتسبه الفرنسيون بعد صراعات مريرة ودامية وأي محاولة لمساس بتلك المكتسبات تشعر الفرنسيين باعتداء على حقوقهم المستحقة، فالاحتجاجات لن تتوقف، بل من المرجح أن يزاد زخمها مع الاقتراب موعد تصويت البرلمان على القانون. تاريخياً كانت النقابات في المقدمة لإسقاط القوانين في الشارع كما هو الحال الآن.

نحن الفرنسيين لطالما نفكر أننا لم نجني شيئاً من وراء المظاهرات، ولكن إذا قارنا وضعنا بما عليه في بلد آخر لا يتظاهر فيه أحد، ستجد أننا ربحنا كثيراً جداً، وحصلنا حقوقاً أٌقل مما خسرنها على مدى العقود الماضية.
جيراد بويول، عامل فرنسي متقاعد في مظاهرات 16 أكتوبر/تشرين الأول في باريس