تخيل أنك رئيس الولايات المتحدة في فترة الحرب العالمية الثانية، وبعد هزيمة ألمانيا صار أمامك خياران ضد اليابان؛ الأول هو استعمال القنابل النووية ضد المدنيين، مما سيُنتِج مقتل ما يقارب 200 ألف شخص أغلبهم من الأبرياء ناهيك عن باقي المخلوقات الحية، ولكن في نفس الوقت يُقدِّر الخبراء أنه في حالة عدم إلقاء هذه القنبلة فإن الخيار الثاني، وهو غزو اليابان وإنهاء الحرب، سيؤدي ذلك إلى مقتل حوالي مليون شخص من كلا الجانبين، وهنا بحسبة بسيطة تكون قد استطعت أن تنقذ 800 ألف شخص. على الرغم من ذلك فقد تكون الآن تشعر أن في الأمر خدعة ما.

نحن هنا نتحدث عن «معضلة القطار» أو «معضلة الترولي».

إذا كنت قائداً لطائرة وكانت تلك الطائرة ستقع لا محالة وهي تتجه نحو سوق مكتظ، فإن من واجبك أن تحوِّل مسار تلك الطائرة إلى منطقة نائية، فإذا فعلت ذلك ومات مثلاً خمسة أشخاص بدلاً من المئات، فإن أحد أقارب تلك الضحايا قد يلومك ويقول لقد ساق القدر تلك الطائرة لتقتل مجموعة من الناس، فلماذا تدخلت أنت وتسبَّبت في مقتل أشخاص آخرين لم يكونوا معرضين للخطر!

وإليك صورة أخرى لـ معضلة القطار، فإذا كنت «عامل تحويلة»، ورأيت القطار يتجه ليصطدم بقطار آخر، وهنا النتيجة معروفة… وفاة المئات، في حين على الخط الآخر هناك خمسة عمال يعملون باطمئنان لعدم اتجاه القطار ناحيتهم، وفي الجهتين لن يتمكن أحد من الهروب أو النجاة، هنا ستجد أنه من واجبك أن تُحوِّل مسار القطار، وعندها ستقول لنفسك كان سيموت مثلاً 905 ومات 5 فقط، هنا لقد قمت بإنقاذ 900 إنسان، وستقول إنك لم تقتل الخمسة أفراد، فأنت كنت تحاول إنقاذ 905 ووضع القدر هؤلاء الخمسة في مسار الإنقاذ، وكذلك فأنت هنا كنت تتمني لو استطاعوا الهروب والنجاة ولم تكن تقف في طريق نجاتهم ولكنه قدرهم.

هنا سيتكرر الموقف ولكن بشكل فعال أكثر، نفس القطار يتحرك على القضبان بسرعة في حين يقف قطار أمامه على نفس المسار، وأنت هنا عامل مزلقان تجد أمامك سيارة كبيرة بها خمسة أشخاص ونزل منها السائق والمطلوب التحرك بسرعة، وهنا تقوم أنت وزميلك بدفع السيارة سريعاً أمام القطار، وتقول إنك قد كررت ما فعلته في المرة السابقة، لقد قتلت خمسة أشخاص ولكن نجا في المقابل 905 أشخاص آخرين.

إن أغلب الناس يتفقون على التصرف الأول، وهو تحويل مسار القطار، وكذلك أغلب الأشخاص يرفضون التصرف الثاني، فدفع شخص على مسار القطار ليموت يبدو أنه عمل غير مقبول، وهنا تكمن المعضلة، فلماذا لا نشعر بالذنب عندما نوجه القطار في اتجاه شخص ليقتله في حين نشعر بالذنب عندما نضع شخصاً في مسار القطار ليُقتَل؟!

تعالوا هنا نقوم بإيضاح الفكرة عن طريق تطويرها، تخيل أنه في المستقبل أصبح من الممكن نقل جميع أعضاء الإنسان من شخص لآخر، وأصبحت عملية النقل مضمونة 100%، هنا أنت مدير مستشفى ولديك 202 شخص في حالة حرجة وقد يموتون أو يعيشون بإعاقات رهيبة وكل هؤلاء يمكن شفاؤهم عن طريق نقل أعضاء شخصين بالكامل. هنا دخل شخصان عيادة الأسنان يعانيان فقط من التسوس، فيعرض عليك طبيب الأسنان هذه الفكرة: لمَ لا نقوم بتخدير هذين الفردين وأخد أعضائهم لنمنح الحياة الطبيعية لـ 202 شخص؟! احسبها يا سيدي لقد أنقذنا 200 شخص إضافي ومنحناهم الحياة الطبيعية.

هنا قد ترد: ولكننا سنقتل شخصين بريئين. وهنا يرد الطبيب: الأمر يشبه تحويل مسار القطار لإنقاذ الناس، سيموت الأبرياء، ولكننا سننقذ الكثير من الأبرياء أيضاً، لقد ساق القدر إلينا هذين الفردين لإنقاذ المئات. هيا وافق سريعاً قبل أن يهرب هذان الرجلان… إنها فرصتنا.

بالتأكيد أنت سترفض مثلك مثل الكثير، ولكن هل تستطيع أن تُفسِّر لماذا وافقت في البداية على تحويل مسار الطائرة لتقتل عددًا قليلًا من الأشخاص، في حين أنك ترفض الآن مقتل شخصين من أجل منح الحياة لمئات؟!

بعد تفكير طويل اقترحت إجابة بسيطة، وهي تتعلق بدوافع الفعل واشتماله على القتل. ففي حالة الطائرة كان الدافع الأول هو إنقاذ أكبر عدد من البشر، وهنا يتخذ قائد الطائرة الاتجاه لمنطقة نائية قليلة السكان، ولا يتمنى الطيار أن يموت أي شخص وكذلك لن يقوم بمحاولة قتل أي شخص، مثل الدعابة التي تقول إن سائقاً وجد أنه فقد الفرامل وأمامه تجمع لفرح وشخصين، وبالتالي وجَّه السيارة في اتجاه الشخصين ولكنهما هربا فأصرَّ على مطاردتهما حتى يقتلهما!

على الرغم من أنها دعابة فهي تحل المعضلة: قائد الطائرة أو عامل التحويلة هدفه الأول إنقاذ أكبر عدد من البشر وليس في نيته قتل أي شخص، ويتمنى لو تمكنوا من الهرب، فعمله الأساسي هو إبعاد الخطر عن أكبر عدد من البشر، فهو يتمنى أن يكون المسار الآخر فارغاً.

أمَّا في الشكل الآخر للمعضلة مثل المستشفى أو دفع سيارة أمام القطار، فالفعل الأول هنا هو تعريض حياة الآخرين للخطر، وفي حالة المستشفى هناك إصرار على قتل شخص ما وتقليل فرصه في النجاة.

إن قتل شخص هو عمل مرفوض تماماً، حتى لو كان الدافع هو نجاة أشخاص آخرين، فليس من مهمتنا إنقاذ الآخرين على حساب حياة فرد ما، فنحن نتفق جميعاً -على اختلاف معتقداتنا- أن حياة البشر وموتهم ليس من حقنا إقرارها، بل هي متروكة لقوى أكبر، فإذا تدخلنا لحماية شخص ما، فلا يمكن أن يتضمن ذلك قيامنا بقتل آخر.

إن تحويل مسار القطار ليتجنب وفاة عدد كبير من الأشخاص ولكنه يقتل عدداً أقل هو عمل إنقاذ، لأن الفعل الأول الذي كنت أتحكم فيه هو إنقاذ الأشخاص، بينما باقي حركة القطار لست أتحكم بها، فما قمت به هو عملية إنقاذ، بينما أكمل القطار مساره معتمداً على قوته وليس لي سيطرة عليه، كما أن وفاة الأشخاص الآخرين -وإن كانت نظرياً مؤكدة- فإنها عملياً ليست كذلك، فقد يستطيعون الهرب بأي وسيلة أو ينجو بعضهم، وهذه نيتي.

بينما عندما أدفع شخصاً أمام القطار، فإن الفعل الأول والذي أنا مُتحكِم فيه –والمؤكد- هو القتل، هنا أنا قررت أن أقتل شخصاً في البداية -أياً كان الدافع- وهو شيء مرفوض، كما أن قتل هذا الشخص وإن كان نظرياً قد يُنقِذ أشخاصاً آخرين، فعملياً النتيجة ليست بيدي، قد يموت هذا الشخص ويكمل القطار حركته ويقتل الباقين.

من هنا يكون حل المسألة الأولى من وجهة نظري وهي أن إلقاء قنبلتين نوويتين هي جريمة بكل المقاييس، لأن الفاعل هنا يتحكم في عملية القتل، وهي الفعل المؤكد، بل إنه كان مُصراً على اختيار المكان الذي يتسبب في أكبر عدد من القتلي والدمار، بينما كان مقتل مليون شخص هو شيء نظري لا يستطيع أن يتحكم به، بل كان لديه العديد من الخيارات لمنع القتل.

إن تصوير إلقاء قنبلتين على اليابان، وكأنهما كانتا ستسقطان مثلاً على مليون شخص وقام الأمريكيون بتحويل مسارهما، هو شيء مضحك ولا يعفي مُتخِذي هذا القرار من معاناة مئات الآلاف من الأبرياء.

في النهاية ليس من حق شخص أن يضع الناس أمام قطار مسرع لا يتوقف، وهذا فعلياً ما يحدث أثناء الحروب، ففي الحروب لا بد من معاناة ضخمة لجزء من الشعب الذي يحارب… وفيات وإعاقات ومعاناة نفسية وجسدية واقتصادية واجتماعية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.