نقلت إدارة «ترامب» السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس واعترفت بها عاصمة للكيان الصهيوني، وأعلنت في الوقت عينه أنها حريصة على استئناف المفاوضات لإيجاد تسوية دائمة للقضية بين الإسرائيليين والفلسطينيين! وفي الوقت الذي قدم فيه الشعب الفلسطيني أقصى ما في وسعه من جهد وتضحيات وشهداء رفضًا لهذه الجريمة الجديدة، عوَّل المجتمعون في قمة التعاون الإسلامي الطارئة في إسطنبول في الثامن عشر من الشهر الجاري على ما يسمى «المجتمع الدولي» كي يقوم بواجبه تجاه مظلومية الشعب الفلسطيني، وكأنهم لا يعلمون أنهم جزء أصيل من هذا المجتمع الدولي الذي يناشدونه! أو كأن المجتمع الدولي عندهم هو الاسم الحركي للولايات المتحدة الأمريكية التي اقترفت الجريمة وضربت بالشرعية الدولية عرض الحائط، وهذا هو الأقرب للصواب، والأبعد عن الاستجابة لمناشداتهم في الوقت عينه.

في قضايا التحرر الوطني، أثبتت تجارب الشعوب المستعمرة أنه ما من مرة تخلت فيها حركات التحرر عن مبدأ المقاومة وانخرطت في المفاوضات بلا ظهير من المقاومة المسلحة؛ إلا وآلت قضيتها إلى العزلة والانحسار.

نقل السفارة والاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني فعلٌ وقعَ وأمر خطر، ولكنه لن يغير من حقائق التاريخ شيئًا، طال الزمن أم قصر. أما إعلان الإدارة الأمريكية عن حرصها على استئناف المفاوضات للقضية الفلسطينية فهو قولٌ لن يقع، ولكن مآلاته أشد خطرًا وفتكًا من ذلك الفعل الذي وقع؛ والسبب هو أن العودة إلى ألعوبة المفاوضات ستؤدي إلى تغيير الأفق الإستراتيجي لقضية فلسطين برمتها من أفق المقاومة المفتوح داخليًا وإقليميًا وعالميًا على قوى التحرر والضمير الإنساني، ونبلاء العالم ومحبي الحرية، إلى أفق التفاوض المغلق على كل هذه المستويات، فضلًا عن أنه أفق عبثي في حالة القضية الفلسطينية بشهادة ربع قرن من هذا العبث منذ أوسلو سنة 1993م.

الوجهةُ الإستراتيجية للتفاوض لحل الصراعات هي بحسب لغة العلاقات الدولية: آلية من أجل تقريب وجهات النظر والتوصل إلى حل وسط يرضي جميع أطراف الصراع وفق ميزان القوى القائم بينها.

وعندما ينخرط أطراف الصراع في مفاوضات ما؛ فإن الآخرون سرعان ما ينصرفون عنهم، وغالبًا ما ينساهم الرأي العام العالمي. وفي قضايا التحرر الوطني والتخلص من وباء الاحتلال الأجنبي، أثبتت تجارب الشعوب المستعمرة كلها خلال القرنين الأخيرين أنه ما من مرة تخلت فيها حركات التحرر الوطني عن مبدأ المقاومة وانخرطت في المفاوضات بلا ظهير من المقاومة المسلحة؛ إلا وآلت قضيتها إلى العزلة والانحسار بين قوتين غير متكافئتين: الاحتلال الغاصب الذي يفرض قوة الأمر الواقع من جهة، والحركة المطالبة بالحق الوطني الأصيل ولكنها منزوعة من قوة المقاومة من الجهة الأخرى.

الدعوة إلى استئناف التفاوض كما جاءت في تصريحات ترامب، ليست أمرًا عبثيًا من منظور الإدارة الأمريكية والمؤسسة الإسرائيلية، وإن كان هو عين العبث من منظور المقاومة الفلسطينية ومعها قوى التحرر ومحبي السلام في العالم. الأمريكان والإسرائيليون يسعون بكل قوة وبأقصى سرعة للإجهاز على النواة الصلبة للمقاومة المسلحة وتصفية القضية نهائيًا من خلال ألعوبة المفاوضات. وهذا التحول الإستراتيجي من المقاومة المنفتحة على الضمير العالمي، إلى المفاوضة المنغلقة بحكم اختلال موازين القوى؛ هو أخطر التحديات التي تواجه القضية الفلسطينية في الثلاثين شهرًا المتبقية من ولاية ترامب.

نحن نعلم أن قضية فلسطين كانت منذ نشأتها ولا تزال هي قضية العالم الإسلامي بأسره، هي ميزان كرامته، ومقياس هيبته، ومظهر قوته. ويدلنا تاريخ هذه القضية على أن عزلها عن أمتها كان ولا يزال هدفًا رئيسيًا للاحتلال الإسرائيلي والقوى الدولية الداعمة له، وفي مقدمتها أمريكا. فإلى جانب استخدام القوة الغاشمة وشن الحروب وسياسات التهويد وبناء المستوطنات وشن الاعتداءات ضد أبناء الشعب الفلسطيني، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة للكيان الصهيوني، يحاول الاحتلال عزل القضية الفلسطينية برمتها عن العالم الإسلامي، بل وعزلها عن الضمير الإنساني العالمي.

يستخدم الاحتلال وسائل شتى لتحقيق هذا الهدف: منها التشويه الإعلامي المنظم، وتصوير المقاومة في صورة العنف والإرهاب، وإحكام الحصار على قطاع غزة، وإثارة الانقسام في الصف الفلسطيني وتغذيته. ثم تأتي الدعوة للمفاوضات في ظل هذه الظروف لتكون ألعوبة لا تترك لأكثر القوى الفلسطينية اعتدالاً أي فرصة لقبول التفاوض؛ وهنا بالضبط ينغلق الأفق الإستراتيجي للقضية أمام الضمير العالمي بدعوى أنه لا يوجد شريك للسلام، وأن الرافضين للتفاوض «إرهابيون».

صحيح أن المفاوضات كانت منذ أوسلو وسيلة من الوسائل التي تتذرع بها الإدارة الأمريكية بالتعاون مع الاحتلال لعزل قضية فلسطين عن عالمها الإسلامي الممتد من المحيط إلى المحيط، وعن عمقها الإنساني والأخلاقي، ولكن ما تُجهز له إدارة ترامب هذه المرة وبعد نقل السفارة الأمريكية للقدس يعني قطع طريق المفاوض الفلسطيني المعتدل بمعايير الإدارة الأمريكية والمؤسسة الإسرائيلية ذاتها، وفي هذه اللحظة سوف تدعي الإدارة الأمريكية أن الطرف الفلسطيني غير راغب في السلام، بل وإنه «إرهابي» يجب القضاء عليه وفق أجندة الحرب المفتوحة على ما تسميه هذه الإدارة: الإرهاب.

في المرحلة السابقة ومنذ أوسلو كانت المفاوضات هدفًا في حد ذاتها ولذاتها من المنظور الإستراتيجي الأمريكي والإسرائيلي، ولم يتم اعتبارها وسيلة للحل السلمي أبدًا. وكانت آخر جولات المفاوضات الفاشلة تلك هي التي بدأت في الرابع عشر من أغسطس/ آب لعام 2013م، بوساطة الأمريكي «مارتن أنديك»، وذلك بعد توقف دام ثلاث سنوات قبل ذلك. وسرعان ما توقفت ألاعيب الوسيط الأمريكي إنديك بعدما تبين أن المفاوضات ستتم في ضوء اتفاق إطار قدمه آنذاك وزير الخارجية الأمريكي «جون كيري». وكنا نظن أن ما قدمه كيري هو الأخطر على الفلسطينيين والعرب منذ النكبة الأولى سنة 1948م حتى ما قبل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في الذكرى السبعين للنكبة، وكان بعض ما قدمه كيري معلنًا وأغلبه مخفيًا.

هدف الإدارة الأمريكية من الحديث عن المفاوضات كان ولا يزال هو: عزل القضية وإغلاق أفقها الإستراتيجي، وتمكين الجانب الصهيوني من تصفية المقاومة أملًا في حسم الصراع لصالحه نهائيًا.

ولكن ماخفي فيما قدمه كيري وقتها هو ما كشفت عنه الأحداث بعد ذلك تحت عنوان جديد هو «صفقة القرن» التي توجه ضربة قاصمة لحلم إنشاء دولة فلسطينية، وتعطي إسرائيل كل ما تريده ابتداءً من إسقاط حق العودة، وتهجير حوالي ثلاثة ملايين فلسطيني من الضفة ومن داخل الخط الأخضر بزعم أن الدولة الفلسطينية الموعودة لن تستوعب العائدين من لبنان وسورية ومن بقية دول الشتات! ومرورًا بالتنازل عن القدس والاعتراف بها عاصمة للكيان الصهيوني، والتسليم بالمستوطنات كأمر واقع، وانتهاءً باعتراف النظام العربي الرسمي بيهودية دولة إسرائيل، بل والدخول معها في حلف لمواجهة الإرهاب!

لقد مر ربع قرن على ألعوبة المفاوضات منذ بدأت في سنة 1993م إلى صيحة الإدارة الأمريكية الأخيرة المصاحبة لجريمة نقل سفارتها للقدس في مايو 2018؛ أي أن هناك جيلًا كاملًا من أبناء فلسطين ضاع عمرهم في انتظار سراب السلام عبر المفاوضات دون جدوى.

لقد بدأ المسلسل الهزلي للمفاوضات بعد اتفاق أوسلو في الثالث عشر من سبتمبر/ أيلول لعام 1993. ثم دارت عجلتها دورات متتالية دون أن تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام باتجاه الحل. فمن مفاوضات القاهرة في سنة 1995، إلى مفاوضات واي ريفر الأولى في سنة 1998، فالثانية في سنة 1999 بالولايات المتحدة، ثم خارطة الطريق التي وضعتها اللجنة الرباعية في سنة 2002، ومنها إلى «أنَّا بولس» في سنة 2007، التي توقفت في سنة 2008. ثم إلى مفاوضات غير مباشرة بوساطة الأمريكي «جورج ميتشل» في سنة 2010 وكان مصيرها الفشل كسابقاتها، وكانت آخر الآلاعيب في أغسطس/ آب سنة 2013م بوساطة أمريكي آخر هو مارتن إنديك، وانتهت النهاية نفسها.

إن البطلان الأصلي هو علة العلل في آلية المفاوضات التي يتحدث عنها الأمريكيون وغير الأمريكيين بين الفلسطينيين والصهيونيين. وأسباب بطلانها كثيرة تتعلق بمبدأ التفاوض ذاته، وليس بعقبات إجرائية هنا أو هناك كما يصور الطرف الإسرائيلي والأمريكي. وهنا سنذكر عشرة أسباب لبطلان التفاوض بطلانًا أصليًا لا إجرائيًا. وكل سبب منها كفيل وحده بإبطالها. وكل منها يقدم لنا دليلًا دامغًا على أن هدف الإدارة الأمريكية من الحديث عن المفاوضات كان ولا يزال هو: عزل القضية وإغلاق أفقها الإستراتيجي، وتمكين الجانب الصهيوني من تصفية المقاومة أملًا في حسم الصراع لصالحه نهائيًا.

هذه نقطة أحببت أن أوضحها لأن هذا ما يجعلنا ننطلق أو نفكر بعمق في هذه الأسباب العشرة التي أتصور أنها تبطل أي حديث عن المفاوضات. وتفتح أعيننا على حقيقة مؤلمة وهي أن المفاوضات ليست سوى وسيلة لفرض العزلة على القضية وإتاحة فسحة من الزمن لتمكين المحتل الصهيوني من ابتلاع ما تبقى من فلسطين ومقدساتها.

إن هدف عزل القضية واضح تمام الوضوح لدى صناع القرار ومستشاريه في الولايات المتحدة الأمريكية ، ويؤكد ذلك ما قاله منذ سنوات «برنارد لويس» المستشار الأقدم في الإدارة الأمريكية عندما دعت أمريكا في سنة 2007م إلى مؤتمر أنابولس للسلام، فقد كتب مقالًا في صحيفة «وول ستريت» وأكد فيه أنه:

يجب ألا ننظر إلى هذا المؤتمر ونتائجه إلا باعتبارها مجرد تكتيك موقوت، غايته تعزيز التحالف ضد الخطر الإيراني وتسهيل تفكيك الدول العربية والإسلامية، ودفع الأتراك والعرب والأكراد والفلسطينيين والإيرانيين ليقاتل بعضهم بعضًا، كما فعلت أمريكا مع الهنود الحمر من قبل.

هذا هو وعيهم بالقضية وبوظيفة المفاوضات. وأتصور أن الأسباب العشرة التي سأذكرها من شأنها أن تجدد وعينا الذاتي وتصوبه بالاتجاه الإستراتيجي الصحيح.

1. أراضي فلسطين ومقدساتها «وقف» غير قابل للتفاوض

أغلبية أراضي فلسطين مسجلة منذ بدايات الفتح الإسلامي باعتبارها من الأوقاف الإسلامية أو المسيحية. و60% من مدينة القدس تحديدًا عبارة عن وقف إسلامي منذ سطعت عليها شمس الإسلام قبل أربعة عشر قرنًا. وقد حافظت الحكومات الإسلامية المتعاقبة على حرمة الوقف ومؤسساته. وطبقًا لقواعد الوقف وأحكامه الشرعية والقانونية؛ تقعُ باطلةً جميع تصرفات البيع والشراء، والهبة والتنازل بأي وسيلة كانت ومنها التفاوض.

ومن ثم، فإننا لو فرضنا جدلًا أن المفاوضات ذات جدوى في حل الصراعات، فإنها ستكون باطلة حصريًا في حالة الأرض الفلسطينية وما تحويه من مقدسات، لكونها أرضًا موقوفة. ووثائق التاريخ تقدم لنا حججًا دامغة لا تقبل النقض، وتؤكد وقفية فلسطين ومقدساتها. ومن هذه الناحية فإنهم يتفاوضون على ما لا يقبل التفاوض، وما لا يملكون التصرف فيه أصلًا.

إن القبول بمبدأ التفاوض على أرض فلسطين الموقوفة، يعني أيضًا نزع صفتها الوقفية التي تفتحها على عالمها الإسلامي بشعوبه وأممه، ويعني أيضًا قطع روابطها الدينية والاجتماعية وعزلها عربيًا وإسلاميًا وإنسانيًا عن مضمونها الإيماني والخيري، فضلًا أنه يعزلها بداهة عن أصحاب الحقوق المادية والروحية في هذا الوقف، وهم يمثلون قطاعات واسعة من شعوب أمتنا الإسلامية.

2. انعدام الأهلية القانونية لطرفي التفاوض

الطرفان المدعوان للتفاوض دومًا لا أهلية قانونية لهما؛ فأحدهما إسرائيلي محتل، بحسب توصيفه وفق أحكام القانون الدولي، وثانيها فلسطيني واقع تحت الاحتلال، وتمثله السلطة الفلسطينية، وهذا طرف مكره وليس حرًا. والإكراه عيب من عيوب الإرادة، وفي الفقه تقع باطلةً كل تصرفات المكره أيضًا، ويضاف إلى هذين الطرفين طرف ثالث أمريكي أو أوروبي أحيانًا وهو متحيز للطرف الصهيوني على طول الخط، وهذا التحيز يفقده الأهلية أيضًا للقيام بدور الوسيط النزيه.

إذا كانت تصرفات المكرَه تقع باطلة إذا تعلقت بشأن من شؤونه الخاصة، فما بالك إذا تعلقت بمصير شعب بأكمله، وبمقدسات هي جزء من عقيدة ربع سكان العالم؟ إنها ستكون والعدم سواء. ولن تزيد ألعوبة المفاوضات هذه القضية إلا عزلة وكثرة في أعداد المشككين في عدالتها، وهذا ما تسعى إليه الإدارة الأمريكية.

3. فقدان أطراف التفاوض للشرعية

سلطة رام الله مفتقرة إلى الشرعية والشعبية معًا، هي لا شرعية، لأنها منتهية ولايتها بحكم الدستور والقانون الفلسطينيين منذ سنة 2009، ومن ثم لا شرعية قانونية لها من هذه الناحية. ومن لا شرعية له، لا صلاحية له في التحدث نيابة عن شعبه. وهي غير شعبية بدلالة نتائج انتخابات سنة 2006 التي فازت فيها حركة حماس بأغلبية أصوات الشعب الفلسطيني. ولم تجر أي انتخابات أخرى بعدها إلى اليوم. وإلى أن تجرى انتخابات جديدة ونزيهة، ستظل تلك النتائج هي الدليل المتوافر على مدى شعبية أو لا شعبية أي من القوى السياسية على الساحة الفلسطينية.

إن الوضع في الداخل الفلسطيني مزرٍ من الناحية السياسية بسبب حالة الانقسام. وإن شرعية المفاوض وتمتعه بتأييد شعبي معتبر، هما من أبجديات وضع أي قضية في أفقها الإستراتيجي الصحيح محليًا وإقليميًا وعالميًا، ناهيك عن أن تكون قضية من القضايا المركزية بالنسبة للأمة الإسلامية بكاملها. وفي حالة كهذه فإن نتيجة أي تفاوض لن تعدو إلا مزيدًا من عزل القضية بإثارة مزيد من عوامل التشتت والانقسام بين الأطراف الفلسطينية ذاتها. وهذا التشتت يؤدي بدوره إلى تنفير المؤيدين والمتعاطفين معهم على كل المستويات.

4. التفاوض يجري على حقوق غير قابلة للتصرف

إن جميع موضوعات التفاوض الفلسطيني الإسرائيلي المعلن عنها منذ مفاوضات أوسلو في سنة 1993م تدخل ضمن ما يعرف في القانون الدولي المعاصر بـ«الحقوق غير القابلة للتصرف – Inalienable»، أو غير قابلة للتنازل عنها. فهي في مجملها موضوعات تتعلق بالأرض، وبالشعب، وبالسيادة العليا. وهذه هي المكونات الثلاثة الأساسية لبناء الدولة الفلسطينية الموعودة في إطار حل الدولتين! ومعنى هذا أن أسس بناء الدولة الفلسطينية ذاتها هي موضوع التفاوض، وطبقًا لأحكام القانون الدولي المعاصر فإنه لا يجوز التفاوض بشأنها، ولا التصرف فيها، ولا التنازل عن أي شيء منها تحت أي ذريعة من الذرائع.

الآن عندما تطرح فكرة حل الدولتين ويجري التفاوض على الأرض والشعب والسيادة يصبح السؤال هو: كيف يمكن أن نتصور الدولة، إذا كانت ستأتي وليدة التفاوض على مثل هذه القضايا؟ وإلام يقود التفاوض في ظل استمرار بناء المستوطنات، وتزايد الحديث عن مبادلة الأراضي والمستوطنات وإخراج القدس من جدول المفاوضات، ورفض عودة اللاجئين الذين يمثلون 60% من الشعب الفلسطيني تقريبًا؟ وهل يمكن أن تؤدي هذه الأفكار إلى التوصل إلى حل للقضية وإقرار الحقوق المشروعة؟ أم أنها ستؤدي إلى عزل القضية برمتها وإبعادها عن مسار العدالة ومقتضياتها؟

رضي العرب في «مبادرة السلام العربية» سنة 2002م بمبدأ مبادلة أراض من الضفة مع أراض من الجليل الأعلى، وإقرار مبدأ مبادلة الأراضي هو إدخال موضوع غير قابل للتفاوض على طاولة المفاوضات، وبحسب مبدأ تبادل الأراضي سيجري التفاوض على أرض الدولة الفلسطينية، حتى لو قبلنا أنها أراضي ما قبل 5 يونيو 1967. وهذا سبب أساسي لبطلان التفاوض وفقًا لمعايير القانون الدولي الحديث والمعاصر.

5. ضعف الدعم العربي والإسلامي للطرف الفلسطيني

يحظى الطرف الإسرائيلي منذ نشأته بدعم علني ولا محدود من أمريكا، إضافة إلى الدعم الروسي والدعم الأوروبي، ولا تكف الإدارة الأمريكية جمهورية أو ديمقراطية عن تقديم هذا الدعم، ولا تكف عن الجهر بالتزامها بأمن الكيان الصهيوني، وتعتبره جزءًا من أمنها. بينما الطرف الفلسطيني لا ظهير له، حتى إن بعض النظم العربية الأقرب إليه تخلت عنه، وباتت تتقرب إلى الطرف الأمريكي عبر الخصم الإسرائيلي! وأي مفاوضات في ظل هكذا معطيات، لن تصب إلا في خانة عزل القضية، ولن تكون إلا محض تنازلات من الطرف العاري من سند القوة.

هذا سبب عملي لبطلان التفاوض؛ إذ لا يوجد دعم من الناحية الرسمية على مستوى أغلب الحكومات والدول العربية والإسلامية للطرف الفلسطيني. ومنطق التفاوض هو القوة كما أن منطق السياسة هو القوة ذاتها. أنت قوي إذن أنت تستطيع أن تفعل ما تريد، وأنت ضعيف إذن أنت لا تستطيع أن تفعل أي شيء، لأنك إذا كنت ضعيفًا فإنك تستطيع فعل شيء واحد فقط هو ما يريده عدوك!

6. بطلان التفاوض في ظل استمرار بناء المستوطنات

في كل حالات التحرر الوطني التي عرفها العالم المعاصر، كانت سلطات الاحتلال تتوقف عن ممارسة أي أعمال عدائية تجاه الشعب المحتل، وتجاه أرضه وموارده؛ لتدلل على حسن نيتها قبل الجلوس إلى مائدة المفاوضات من أجل تنظيم عملية الجلاء وإنهاء احتلالها، وليس من أجل المساومة على حقوق غير قابلة للتصرف. وكانت سلطات الاحتلال تقبل أن تستمر حركة المقاومة في نضالها الوطني بكل الوسائل المتاحة لها، بما فيها القوة المسلحة، إلى جانب جناح سياسي يتفاوض نيابة عن الشعب لانتزاع حقوقه.

ولكننا نجد في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية أن الوضع معكوس تمامًا: الإسرائيليون والأمريكان يطالبون المقاومة بالتوقف عن مقاومتهم كشرط للدخول في المفاوضات، فيما يستمر الاستيطان والعدوان الإسرائيلي على كل شيء، البشر والحجر. وهذه حالة تبطل أي مفاوضات سياسيًا وقانونيًا ووطنيًا. ولا تجعل لها هدفًا إلا إحكام الحصار على أصحاب الحق، وعزلهم تمامًا عن العالم الخارجي، وتركهم فريسة لقوات الاحتلال وسياساته العدوانية.

في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية على مدى ربع قرن، كان ممثل الطرف الفلسطيني متوقفًا تمامًا عن أي عمل مقاوم، بل ويتعاون مع العدو الإسرائيلي فيما يسمى بالتنيسق الأمني بين سلطة رام الله والاحتلال الإسرائيلي، وفي المقابل كان ممثل سلطة الاحتلال مستمرًا في التوسع الاستيطاني، وهدم المنازل وقتل الناس وقصف المنشآت والحصار. ثم يدعون إلى التفاوض!

7. التفاوض يمنح المعتدي شرعية لا يستحقها

إن التسليم من حيث المبدأـ بفكرة التفاوض على الحقوق الأصلية غير القابلة للتصرف من شأنه أن يضفي مشروعية قانونية على جرائم الاحتلال، ويقنن سلطة الاغتصاب، ويكافئ الاحتلال على ما فعل. فالتفاوض في مثل هذه الحالة، يعني أنك تعترف بما فعله اللص الذي سرق دارك!

إن التسليم بالمفاوضات مع العدو الإسرائيلي يعني إقرار المعتدي الغاصب على جرائمه، ويعني أيضًا الاستعداد للتنازل ولو عن جزء بسيط من الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني في أرضه وفي مقدسات الأمة في القدس وفي غيرها. وكل هذا لا يجوز منه شيء واحد؛ لأن فيه مساعدة أيضًا على هدم القيم والأخلاق، وتشجيع الرذائل التي يمارسها الصهاينة، وإهدارهم الفضائل الإنسانية.

ليس الخطر هو إقرار المغتصب على اغتصابه فقط، وإنما هو في الاعتراف بشرعية اللاأخلاق في السياسة، وإقرار مبادئ الغدر والخيانة والانحلال الاخلاقي وكل الرذائل التي تحدث عنها القرآن الكريم في بني إسرائيل، والدخول مع قوم كهؤلاء في مفاوضات معناه الإقرار بكل ما يصادم منظومة القيم الإسلامية. وهذا السبب وحده كاف لإبطال المفاوضات.

8. التفاوض ينقض فريضة الجهاد

الجهاد كما نعلم جميعًا فريضة واجبة على كل مسلم ومسلمة إذا ديست أرض الإسلام، أو إذا انتهك العدو حرمتها. فما بالك وقد اغتصب العدو الصهيوني أرض فلسطين، ودنس مقدساتها المسيحية والإسلامية؟ نحن نتكلم هنا عن جهاد الدفع والمقاومة، ولا نتكلم عن جهاد الفتح والغزو. نحن نتكلم عن حق أمتنا في الدفاع عن نفسها وشرفها، لا أكثر ولا أقل، وهذا حق كفلته كل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية.

وعلى ذلك فإن القبول بمبدأ المفاوضات بحد ذاته في شأن القضية الفلسطينية ينتقص من مبدأ الجهاد. وهذا لا يقول به أحد، ولا يقبله أحد، ولا تقرّه الشرائع السماوية ولا القوانين الوضعية. ويضاف إلى ذلك أن الدخول في مفاوضات ينقض فريضة الجهاد في ظل المعطيات والأوضاع المذكورة سلفًا. وثمة جهود جبارة لتحقيق هذا الهدف حتى تصبح الأمة مجردة من حقها في الدفاع عن نفسها.

9. التفاوض أداة عزل القضية لأنه بلا مرجعية

إن المفاوضات التي يدعون الفلسطينيين إليها، يجري الحديث عنها دون تحديد مرجعية قانونية أو رسمية محددة لها. الإدارة الأمريكية تتحاشى الحديث عن مرجعية المفاوضات، بما في ذلك مرجعية أوسلو وما تلاها وصولًا لخارطة الطريق، وهي أسوأ المرجعيات وأكثرها ظلمًا للجانب الفلسطيني، ومع ذلك لا يأتون على ذكرها لا من قريب ولا من بعيد. وهذا الوضع يعني فقط إدخال القضية في جب العزلة، ومحاولة شطبها من قائمة الحقوق المشروعة، ومن ثم محوها من الوعي الجمعي لشعوب العالم الإسلامي، وإخضاعها لقانون الأمر الواقع والقوة الباطشة.

الكل يتحدث عن «حل الدولتين» دون أي إشارة إلى مرجعية بناء هذا الحل، ولا إلى أساس بناء الحدود بين الدولتين. والواضح أن الأمر الواقع الذي يفرضه الاحتلال هو المرجعية الوحيدة التي تتحرك على أساسها مسرحية ألعوبة المفاوضات، ومفاوضات على هذا النحو تقع باطلة بطلانًا أصليًا لانعدام معناها، وتحولها إلى إجراءات اعتماد لقوة الأمر الواقع.

10. التفاوض بداية التفريط

هذا السبب يوضح بجلاء ما قد يكون قد بقي غامضًا من دور التفاوض في عزل قضية فلسطين عن عالمها العربي والإسلامي. فالدخول في التفاوض يؤدي إلى التنازل بالضرورة عن بعض الحقوق؛ باعتبار أن التفاوض هو فن الوصول للحلول الوسط. فما بالك والمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية تجري في ظروف الضعف العربي والتشتت الفلسطيني والصلف الإسرائيلي؟

إن الظروف العصيبة التي تمر بها القضية الفلسطينية في الوقت الراهن تفرض علينا ضرورة التفكير بأفق إستراتيجي عملي، يأخذ في الاعتبار عنصر المستقبل، وليس فقط ضغوطات الواقع وميزان القوى القائم بين الأطراف الرئيسية في الصراع العربي الصهيوني. ولم يعد من المعقول أن تتدحرج هذه القضية من سيئ إلى أسوأ، ومن سقف منخفض إلى سقف أدنى منه، أو من الكليات الإستراتيجية إلى التفصيلات الفرعية التي ينفي بعضها بعضًا، ويجري استدراج الطرف الفلسطيني/ العربي إليها على طريقة متوالية الاختزال التي لم تتوقف منذ مدريد وأوسلو وإلى اليوم. واستئناف المفاوضات في ظل المعطيات الراهنة فستدخل في دورة اختزالية جديدة، وتنحدر إلى درك أسفل مما هي عليه الآن.