لوكاندات مُغبّرة الواجهات. بيوت قديمة ذات نوافذ مُخلّعة. مدرسة فرنسية للغات جدرانها داكنة ونوافذها من طراز قديم. كنيسة لها برج من دون رأس، والجرس هائل يشبه الجرس في فيلم «أحدب نوتردام». يمشي بلا هدف، يقرأ أسماء الشوارع القديمة. الاسم اليوناني تحت الاسم العربي.

غامت السماء، وبدأت تُمطِر. مطر مارس هيّن، لكنه أثار رائحة تراب في الجو، وظهرت على حجارة البازلت نقط لامعة. في كل مرة يزور تلك المدينة يشعر بنشوة تهلُ في وجدانه، يتجوّل ساهيًا، وأطياف قصة الحب القديمة، تُوقظها من غفوتها، رائحة الجو وشكل الشوارع والبيوت. يتحاشى الاتصال بتلك السيدة التي لم يحب غيرها.

توقف المطر. عَبر ممرات ضيقة بين العمارات الضخمة للحي العتيق، تتسع إلى ساحات داخلية ومحلات ومقاهٍ وأكشاك. تناول طعامه في محل السمك كالمعتاد، وأنصت إلى الأحاديث الأسرية حوله بشوقٍ، كأنه لا يعيش نفس الحياة. هنا يُولد في كيانه شخص آخر، مُتجوِّل حر، خالٍ من الروابط الاجتماعية، تَخفّف من كل أعبائه وعادات حياته.

تجوّل في المنطقة المُحطية بالكورنيش. وقف أمام البحر، وعاد إلى الحي العتيق. بدأت تمطر مرة أخرى. احتمى بمقهى في ممر بين عمارتين، مسقوف بالصاج، يتناول الشاي ويُدخِّن، ويُنصِت إلى رنين المطر على السقف كأنه حبات صغيرة من الحصى.

توقّف المطر، ففكر أن يجري اتصالًا بعدد من الأصدقاء ليطمئن عليهم أو يقابل أحدهم إن سمحت ظروفه. فتح التلفون وحاول البحث عن أسماء الأصدقاء. توقف عند اسم تلك السيدة، فاضطرب كيانه بنشوة تُشبه النشوة التي يشم بها رائحة هواء تلك المدينة. اندفع بقوة غامضة للاتصال بها.

رنّ الجرس طويلًا، رفيعًا مكتومًا، كأنه يرن في غرفة نوم بعيدة في شقة مهجورة. أنصت محاولًا السيطرة على دقات قلبه وخوفٍ غريب أن ينفتح الخط فجأة فيسقط في هاوية، لكن الرنين استمر بلا نهاية، حتى أُغلق الخط.

تجوّل في الشوارع، وبدأت السماء تغيم مرة أخرى، وتمنح الشوارع سِمة المساء. فكر أن يزور المقهى الذي كان يلتقي فيه بها. راح يتأمل البحر تغيم عليه السحب ثم تنقشع، ويتلون موجه بتغيرات الضوء، وهو يفكر في تلك المرأة الجميلة.

كان وجهها صافيًا، لها سنتان بارزتان وطابع حسن رقيق، وعيون عسلية برّاقة. لم تقل له إنها تحبه ولكنه أحبها من كل قلبه. كانا يلتقيان في شقة أحد أصدقائه في شارع فؤاد، يأتي من مدينته في نهاية الأسبوع لكي يقابلها. يتحمل صعوبة حياته في مدينة داكنة الهواء بسبب هذا اللقاء، لكنها تغيرت فجأة، بعد عامين من العلاقة، وقالت إن ابنها قد كبر، وإنها تخجل ممّا تفعل.

عاش في اضطراب فترة من الوقت، فقد حُرِم من الرئة التي تعينه على تحمل الحياة، لكنه لم يكف عن زيارة المدينة في نهاية الأسبوع، أحيانًا يتصل بها وتأتي للقائه في نفس المقهى. يرى ظل الرغبة في عينيها، لكن إرادتها كانت قوية، تفرغ الشوق في لمسات عابرة للأصابع، ووضع اليد على الكتف أو الساعد، والتربيت على الظهر أثناء القيام، وأحاديث طويلة عمّا حدث بينهما ولحظات حبهما التي لا تُنسى.

بعد فترة استنفدا تلك الألعاب الصغيرة، فقالت له إنها لن تتمكن من الاستمرار، فهذه اللقاءات تُوتِّرها وتجعلها راغبة في إعادة ما كان بينهما. لكنها جاءت عدة مرات بعد ذلك وجلست إلى جواره، ولمست أصابعه وهي تمسك الملعقة وتصر على وضع السكر وتقليب الشاي بنفسها. لا يزال، حتى الآن، وهو يسرح بعينيه باتجاه البحر، يتذكر الملمس الناعم لكفها الدافئ.

ذات يوم جاءت، وجهها صاف وعيونها دامعة. قالت:

جئت لأقول لك لا تتصل بي مرة أخرى.

لم تجلس. قالت الكلمة بحسم، ولين يُعضِّد الحسم، ويمنحه يقينًا، أن هذه آخر نظرة في العيون وأنه لن يراها بعد ذلك.

يومها خرج من المقهى والشمس تغرب. وقف ينتظر سيارة تاكسي تُقلِّه إلى محطة القطار. أمام باب حديقة الميدان الواسع، كان ضوء الشمس ورديًا. لم ير الضوء بهذا اللون في حياته، ربما كثافة السحب ولونها وهي تقترب من الشمس أعطيا للضوء هذا الطيف النادر. انعكس اللون الوردي على الوجوه السائرة تجاه الشمس، أمّا الوجوه التي ظهرها للشمس فأحاطها خط لامع من النور الذي ينعكس على الأسفلت، يغيب تحت سيارة مُسرعة ثم يعود إلى اللمعان.

يتراجع عن ارتياد نفس المقهى، ويفكر: «لحظة صغيرة، تبدَّد بهاؤها مع ما تبدَّد من لحظات الحب». ثم يشير إلى سيارة أجرة في طريقه إلى محطة القطار.

(انتهى)