في البداية، أود أن أذكرك بأن هناك حكمة أو مُسلمة اقتصادية شهيرة تقول: «إذا مُنحت خدمة دون مقابل فاعلم أنك السلعة»، سنترك هذه المقولة جانبًا الآن، ونعود لها في وقت لاحق، لكن هنا سأثير بعض تساؤلات هامة ومنها: هل فكرت يومًا ما الفائدة وراء صناعة ما يُعرف بالتريندات؟ هل تظن أن الهدف فقط إسعادك؟ هل فكرت يومًا في الآثار المترتبة على متابعة التريندات على المدى البعيد؟

مرحبًا بك أيها «الماريونت»!

إن كنت لم تشاهد يومًا أي عرض مسرحي للعرائس السلكية، فأحب أن أعلمك أن العروسة التي تتحرك بالأسلاك تُسمى عرائس الماريونت، لكن ما علاقة ذلك بموضوعنا؟

هناك علم متخصص يُعرف باسم علم نظريات الاتصال، يكمن الهدف من هذا العلم هو محاولة استكشاف كيف يتحول الإنسان تدريجيًا إلى مجرد عروسة ماريونت، ويتم التأثير على عقله إلى درجة أن العاملين في المجال الإعلامي بمختلف فروعه قد يصبحون في بعض الأحيان مسيطرين على عقلك بنسبة كبيرة، لن أستطيع أن أقول إن العقل قد يتم تغييبه بشكل كامل، لكن مهما كانت النسبة ضئيلة فإنها قد تؤثر على حياتك في أمور معينة بشكل لن تستوعبه إلا بعد فوات الأوان.

الحقيقة أن هذا العلم بدأ مع فترة زيادة نفوذ هلتر، والذي كان يعتمد بشكل كبير على وزير دعايته في السيطرة على العقول، بل وتحقيق هزائم نفسية في نفوس خصومه؛ حتى يسهل عليه القضاء عليهم في أرض المعركة بسهولة، لكننا لن نركز هنا على النظرية التي ظهرت في عهد هتلر والمعروفة باسم «الرصاصة السحرية» أو «الحقنة تحت الجلد»، فقط أحببت أن أسلط الضوء على مدى خطورة هذا العلم، وبصرف النظر عن أن هذا العلم يحتوي على العديد من النظريات فإنني سأسلط الضوء بشكل أكبر على نظرية تُعرف باسم ترتيب الأولويات أو «الأجندة» ونظرية أخرى باسم الغرس الثقافي.

في اعتقادي الشخصي بعد دراسة الكثير من نظريات الاتصال – بحكم التخصص – فإن نظرية الأجندة ونظرية الغرس الثقافي هما من أخطر هذه النظريات، ويتم استخدامهما بشكل كبير في هذا الوقت، خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت فرعًا إعلاميًا هامًا.

وتقول نظرية الأجندة باختصار: «إن ترتيب أولويات الإنسان يتأثر بالرسائل الاتصالية التي يتعرض لها بشكل منتظم على المدى البعيد». وبشكل أكثر وضوحًا، فإن الإعلام – بحسب هذه النظرية – يحدد ما يسيطر على الأولويات التي تسيطر على عقل الإنسان. على سبيل المثال، قد تحتل قضية أين سنقضي مصيف هذا العام الأولوية في عقل شخص ما في حين تأتي قضية قومية في مرتبة متأخرة من قائمة أولوياته!

أما نظرية الغرس الثقافي فيمكن إيجازها في: «أن الرسائل الاتصالية يمكن أن تغير في طريقة إدراك الشخص للواقع من حوله». بالرغم من أن هذه النظرية تنطبق بشكل أكبر على التلفاز، لكن يمكن أيضًا أن يظهر تأثيرها في مواقع التواصل، فبحسب تلك النظرية يمكن أن تتغير نظرتك لأمور نشأت عليها في حياتك في صورة معينة إلى نظرة مختلفة بـ180 درجة، والسبب هو كثرة تعرضك لنوعية معينة من الرسائل، مثال على ذلك: حاول تذكر إدراكك لفكرة العلاقات المفتوحة بين الشباب والفتيات قبل وبعد دخولك لعالم مواقع التواصل وستشاهد الفرق واضحًا.

هل كل التريندات تسيطر على العقول؟

بالطبع، فليس كل صناع التريندات على مواقع التواصل يدركون خطورة علم النظريات، أو على الأقل لديهم فكرة عن وجود هذا العلم، ولا كل التريندات تؤثر في العقل، لكن الأمر الخطير هو أن هناك أمرًا مشتركًا بين صناع التريندات، هو أنه غالبًا يكون صناع التريندات من المشاهير، فهل تضمن أن هذه الشخصيات ستصبح مغيبة عن هذا العلم فترة طويلة؟

لكن من الطرق الخبيثة في السيطرة على العقول هو أن يتم تغيير بعض المفاهيم الراسخة عندك من خلال تريندات في صورة سخرية أو مزح، بل الأمر قد يصل إلى تهديد ثبوت المعتقدات الدينية الخاصة بك في عقلك، هل تتذكر تريند «استجاب»؟ وكيف تمت «محاولة» زعزعة قدسية العلاقة بين الله وعباده تحت مسمى المزح؟

من الحماقة أن تظن أن من يريد السيطرة على العقول سيفعل ذلك بين عشية وضحاها، الموضوع قد يستغرق عشرات السنوات من خلال بث مجموعات متتابعة من الرسائل المنفصلة في الشكل والمتصلة في المعنى والتأثير، ويتم توجيهها بشكل بسيط لا يثير شك المتلقين البسطاء.

صانع الخمر أول السكارى!

مفهوم كلمة التريند هو أن يحقق موضوع ما انتشارًا واسعًا بين الناس، ليتحقق هذا الأمر فإن المسلك الطبيعي أن يطلق هذا التريند شخصيات مشهورة لديها الكثير من المتابعين، سواء كانوا يقصدون نشر هذا التريند أم لا، ويتم تقديم هذا التريند بصورة تجذب إعجاب أكبر عدد من المتلقين، الذين لا يتأخرون في نشره على صفحاتهم حتى يصل التريند إلى أكبر عدد ممكن.

الحقيقة أنا لست ممن يؤمنون بنظريات المؤامرة، لكنني أدرك أن محاولة السيطرة على العقول هي شيء ممتع، ويحقق الكثير من الأغراض، لن أتعمق في كثير من التريندات التي تنتشر، سأذكرك فقط بها وستدرك أنت مدى التأثير الذي يحدث في عقلك بسبب هذه التريندات. ما رأيك في تريند «سلّم لي على الحجج والأعذار»؟ هل له علاقة بارتفاع تطلعات المقبلين على الزواج ومن ثم زيادة نسب الطلاق عندما يصطدمون بالواقع؟ ما أول انطباع سيظهر في عقلك عندما تسمع مصطلح «صفقة القرن»؟ هل ستتذكر القضية الفلسطينية، أم ستتذكر توقيع عبدالله السعيد للزمالك، أو انتقال نيمار من برشلونة لباريس سان جيرمان؟ ما انطباعك عن فكرة الـsingle mother؟

كل حرف تستمع له يؤثر على إدراكك الأمور من حولك، لا تتعجب بعد فترة لماذا تغيرت مفاهيمك بشكل لم تكن تتخيله، العقل البشري هو كتلة من العجين يشكله الإعلام بمختلف أنواعه كما يشاء، وإن كنت تظن أن لديك وعيًا كافيًا لحماية عقلك مما يتعرض له من رسائل بسبب تحصيلك قدرًا كبيرًا من العلم، فمرحبًا بك في بداية طريق الوصول لأن تكون ماريونت جديدة.

الكل يتأثر، لكن الوعي والعلم يتحكمان في سرعة تأثرك، لكنك حتمًا ستصبح ماريونت لطالما تتعرض لهذه الرسائل وتستجيب لها برغبتك.. والآن، هل أدركت سبب حصولك على خدمات التواصل الاجتماعي بشكل مجاني؟ أدركت سبب أنه يتم منحك أموالًا كلما زاد وصولك للناس على مواقع التواصل؟ ليس هذا بسبب العشق لسواد عينيك، أنت السلعة وأنت المستهلَك – بفتح اللام- تذكر دائمًا أن الإعلام لا يجبرك على شيء، فقط يدفعك لأن تصنع الخمر ثم يقنعك بإرادتك أن تشربه.