هيثم قطب

( 1 )

يجلس (سكوت) ذو الشعر الكستنائي المرتب في قلب مكتبه في بدايات شتاء 2007 متململًا في ضجر، منتظرًا بفارغ الصبر انتهاء موعده القادم مع أحد مدعي ريادة الأعمال من الشباب المهووسين بها، لا يبدو على (سكوت) الرضا عما أجبر عليه، لكنه لا يستطيع رفض طلب (بنشمارك)، الشركة التي بدأت مع PayPal من الصفر منذ أن كانت في شقة صغيرة وحتى وصلت لمكانتها الحالية والتي لديها استثمارًا رئيسيًا فيها، لقد وعد (سكوت) الفتي بعشرين دقيقة سريعة في مكتبه وهو ملزم بذلك.

(سكوت تومبسون)، أحد عقول (باي بال) الرئيسية حينها، الشركة الأولي عالميًا في خدمات الدفع عبر الانترنت والتي توظف أكثر من ثلاثة عشر ألف موظف وتساوي قيمتها السوقية الآن أكثر من أربعين مليار دولار، رقم على يمينه الكثير من الأصفار، والرئيس التنفيذي لها ونائب مدير قسم التقنية السابق الذي لا يري أن بهذه المقابلة ما يهم غالبًا، لقد رأى الكثير من هذا، الكثير من الشباب، الكثير من الأحلام، والكثير من الحماس، ثم لا شيء!

يدخل (شافات) ليبدأ موعده مع (تومبسون)، لا يبدو عليه الكثير من الجرأة، ولا أي تهور مما يميز رواد الأعمال دائمًا، أولئك الذين رأى منهم (سكوت) العشرات، يصنعونهم بالدستة، لا يبدو (شافات) الإسرائيلي مختلفًا كثيرًا عنهم، مجرد مهووس آخر طلبت (بنشمارك) من (سكوت) أن يطلع على ما لديه، بالأحرى على ما لدى شركته القائمة في تل أبيب، (Fraud Sciences) أو علوم الاحتيال التي تدعي أن لديها ما يساعد (باي بال)، سألبي طلب (بنشمارك) وسأتخلص من الفتي في أقل من عشرين دقيقة، تبدو صفقة رابحة تمامًا.

سأله سكوت مباشرة (ما الذي تطرحه شافات؟)، العشرون دقيقة الطويلة سأنهيها بسؤال مباشر كهذا، يفكر (سكوت) بذلك بينما يجيب (شافات) في هدوء بأن فكرة شركته (علوم الاحتيال) بسيطة، العالم ينقسم بين الأخيار والأشرار، ومن أجل مكافحة الاحتيال على الانترنت سنقوم بخدعة بسيطة، سنفرق بينهما لنحمي باي بال وأموال العملاء!

لم يبد على سكوت أي رضا، العكس ما حدث، إحباط تصاعد مع جملة ربما تبدو أفضل إن صدرت عن هومر سيمبسون في كارتون بدلًا من أن تصدر من شاب يريد أن يسوق ال Start Up الخاصة به لأفضل شركة معاملات مالية انترنتية في العالم، أي احتيال ؟، هناك عشرات الآلاف من العاملين في العالم يكافحون الاحتيال عبر الانترنت في شبكة مترابطة بشكل غير مباشر، باي بال نفسها لديها ألفي موظف منهم خمسين شخصًا يحملون دكتوراه في الهندسة من جامعات النخبة العالمية، كلهم ينشئون خوارزميات تتقدم دائمًا علي المحتالين بخطوة علي الأقل لحماية أموال الناس وأموال باي بال نفسها، ما الجديد الذى أتي به الفتي الإسرائيلي إذا ؟!

(همم، يبدو هذا جيدًا، اشرح لي الطريقة)، قالها سكوت بلا اكتراث، استمر شافات بنفس الهدوء ورد بأن الأشخاص الجيدين لديهم دائمًا بصمات إلكترونية واضحة، صور، حسابات تواصل اجتماعي مفتوحة، أرقام بطاقات ائتمان مسجلة في أماكن موثوق بها، حسابات بنكية، مشاركات كتابية، أشياء كثيرة، إنهم واضحون تمامًا، أما الأشخاص الأشرار فليس لديهم أي آثار أو يحاولون جاهدين إخفائها، الخدعة كلها في البحث عن آثار الأشخاص الالكترونية، وجدناها؟ .. لقد انتهت المهمة إذًا ونجحنا في تقليص خطر الاحتيال لمستويات مقبولة.

كان الأمر شبيهًا بأن تذهب إلى ناسا ” الوكالة المالكة لأكبر وأكثر الصواريخ تقدمًا علي سطح الأرض ” ثم تعرض عليها مشروعًا مثل منصة إطلاق للصواريخ، إنك تبيع الماء لمالك البئر، أين عقلك تحديدًا ؟!

فكر سكوت في ذلك وأوشك علي الانتهاء، سأل شافات عن إن كان جرب ما يقول في أي مكان فرد الإسرائيلي ب ( نعم، جربناه في اصطياد الإرهابيين الذين ينقلون أموالهم عبر الانترنت ونجحنا، حللنا أربعين ألف معاملة مالية عبر خمس سنوات ) ..

كان الرقم ضئيلًا جدًا، باي بال تعالج سنويًا الملايين من عمليات التحويل، لذا، ولينتهي سكوت من هذا العبث قال ل (شافات شاكيد) أنه سيعطى شركته مائة ألف معاملة مالية سبق وأن عالجها مهندسو باي بال، وسيزيد بأنه سيخفي بعض المعلومات عن شركة الإسرائيلي للحفاظ علي خصوصية العملاء، وعليهم أن يحللوا في Fraud Sciences المائة ألف معاملة ثم يعود شافات إليه بالنتائج ليري إمكانية التعاون من عدمه.

إنها حسبة بسيطة، أربعين ألف عملية في خمس سنوات، ماذا عن مائة ألف عملية إذا ؟، يبدو أنه لن يري الشاب الإسرائيلي ولا شركته قريبًا، فضلًا عن إخفاء باي بال لبيانات المستخدمين، إنها مهمة مستحيلة تمامًا!

( 2 )

أيتها العرافة المقدسة ..

جئتُ إليكِ مثخنًا بالطعنات والدماء ..

أزحف في معاطف القتلى وفوق الجثث المكدسة ..

منكسر السيف .. مغبر الجبين والأعضاء ..

” أمل دنقل، ( زرقاء اليمامة ) “

ـــــــــــــــــــــــــ

في منتصف القرن الخامس الهجري وحتى بدايات القرن السادس وفي عصر ما قبل الحملات الصليبية الأولي كانت الأمور تسير من سيء إلى أسوأ، انتشر التعصب المذهبي والتحزب الفقهي بين طلبة وشيوخ المذاهب المختلفة حتي كاد أن يقضي على كل شيء، وأصبحت المشاجرات والمشاحنات هي العنوان الأصيل للمشهد، كما فعل أبو النصر بن القشيري الأشعري عندما قدم في عام 469 هـ إلي المدرسة النظامية وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلي التجسيم وأيده في ذلك بعض شيوخ المذهب ثم امتدت الفتنة إلي خارج المسجد ليتحمس جماعة من أنصار الشافعية ويهاجموا أبى جعفر بن موسى ( شيخ الحنابلة في هذا الوقت ) في قلب مسجده، وكان رد الفعل أن دافع عنه بعض أنصار المذهب الحنبلي ليقتتل الناس مباشرة علي اثر ما حدث، وحينها من عظم الاقتتال الأهلي المتحزب تدخل الخليفة ليمنع الوعاظ من التدريس في أي مسجد في بغداد لمدة أربع سنوات كاملة!

لم يكن قرار الخليفة كافيًا بأي شكل، بعدها، وبعام واحد فقط وفي 470 هـ اقتتل بعض أنصار الشافعية مع بعض أنصار الحنابلة وتدخل عامة الناس لنصرة كل فريق يتبعوه، النتيجة أن عشرين قتلوا وجرح عدد كبير آخر وكانت فتنة كبيرة وصلت إلي أن رفع بعض عامة المسلمين فيها الصلبان مع الكثير من النهب والسرقة وإحراق بعض المنازل، في هذه الأجواء انتشر التكفير واتهام الآخرين بالزندقة بشكل كبير، وأصبح الناس أعداء بعضهم بعضًا وتقاسمت المجموعات البغضاء مادام الآخرين ليسوا أتباعًا لنفس المذهب الذي تتبعه مجموعة ما.

في وسط ذلك كان الإقبال علي الانضمام للمذهب حسبما تقف منه دولة الخلافة الإسلامية حينها، وكلما زاد قرب المذهب من الخليفة وبطانته الحاكمة ووزرائه زاد اقبال الناس عليه وانتقالهم من مذهب لآخر حتي صار الأمر أشبه بانتقالات كرة القدم الآن، وكلما رضيت الدولة عن المذهب رضى أتابعه عنها، فإن قربت الحنابلة مثلًا صارت لديهم هي دولة الإسلام الثابتة الراسخة التي تقيم العدل ولا تظلم أحدًا، وإن حدث العكس صارت الدولة الظالمة التي تسير بالمحسوبية وتولي القضاة الظلمة والوزراء الفاسدين، وبالطبع فإن هؤلاء القضاة تحديدًا من مذاهب أخري!

تحول القضاء حينها لكارثة حقيقية، يمكن فهم ذلك بمثال القاضي (أبو منصور المعالي) الشافعي الفروع أشعري الأصول، قاضي باب الأزج الذي كان بينه وبين الحنابلة هناك ما صنع الحداد، فكان يلقبهم بالحمير وبأنهم ليسوا بشرًا وأن من رآهم فأقسم بأنه لم ير بشرًا فليس بحانث، أو قاضي دمشق الحنفي محمد بن موسي بن عبد الله المتوفي لعام 506 هــ والذي كان يبغض الشافعية حتى قال أنه لو أن له الولاية لأخذ من الشافعيين الجزية!

( 3 )

أسأل يا زرقاء ..

كيف حملت العار ..

ثم مشيت .. دون أن أقتل نفسي؟! .. دون أن أنهار؟!

ودون أن يسقط لحمي .. من غبار التربة المدنسة ؟!

تكلمي .. لشد ما أنا مهان.

ـــــــــــــــــــــــــ

(شتاء العام 1999، وقت غير معلوم. )

يسير أنس في أزقة المنطار بالشجاعية لا يلوي على شيء، ساهمًا شاردًا ببصره تارة إلي السماء في وجل وتارة إلي الأرض في هم، تبدو عليه آثار الحزن الطازج الذي يحتل الانسان بلا احتمالية للجلاء، وينتصر بلا احتمالية للهزيمة، حزن شفاف رائق كما خلقه الله.

يسير أنس ولا يعرف من أين يبدأ هو ومن أين بدأ كل شيء، تعود ذاكرته لخمس سنوات ماضية في ركعته الثانية في ظهر جمعة الثامن عشر من تشرين الثاني ” نوفمبر “، حيث مسجد فلسطين الذى تجمع فيه الآلاف من سكان القطاع الذى تسلمت السلطة ال ( وطنية ) السيطرة عليه منذ ستة أشهر، تجمعوا للتعبير عن تأييدهم لما فعله المجاهد ( هشام عبد )، هشام الذى فجر نفسه قرب مستوطنة نتساريم ليوقع عددًا لا بأس به من المستوطنين الصهاينة ما بين القتلى والجرحى، لينتقم لهاني العبد قيادي المقاومة التي اغتالته الأيدي الإسرائيلية في أول الشهر نفسه، اغتالته وسط قطاع من المفترض أن ( السلطة ) تحكم سيطرتها عليه!

يبدو علي أنس المستمر في سيره وهن الذكريات السيئة، يرفع نفسه من سجدته الأخيرة، يقرأ التشهد، يسلم الامام فيسلم الآلاف وراءه، ثم تبدأ أنهار الدماء في الفيضان.

السلطة ( بالغة الوطنية ) قررت قتل الفلسطينيين المصلين بلا أي رحمة، وفتحت نارًا عشوائية علي جموع غفيرة في قلب المسجد لم يكن معها سلاح واحد، فقط حجارة دافعت بها عن نفسها بعدما سقط الشهيد الأول، ثم الثاني، فالثالث حتى وصل العدد لسبعة عشر شهيدًا بنيرانٍ فلسطينية، أو يطلق عليها مجازًا وشكلًا ( فلسطينية )، وعشرات من الجرحى والمصابين، وأنس الذى مرت رصاصة بجانب أذنه لم يعرف إلى الآن كيف نجا منها، والفزع الهائل وهتافات المصلين ضد الأمن الفلسطيني الذى أطلق النار ربما للمرة الأولي على نفس الفلسطينيين داخل بيت من بيوت الله.

لم تكن هذه النكسة الأخيرة، ولم تعرف حركة المقاومة (حماس) كيف توجه بوصلتها التي طالما اتجهت للأبد إلى تل أبيب فقط، أصبح الأمر أشبه بمطاردات الساحرات، وتعقبت السلطة الفلسطينية قادة وفاعلي المقاومة من حماس أو غيرها بكل الأشكال، في أسوأ فترة زمنية مرت على حركات المقاومة ولمدة سنوات لم تنتهي إلى وقت سير أنس الذي لا يلوى على أي شيء، أسوأ فترة أمام خصم فلسطيني قح، كيف يمكن مواجهة خصم كهذا ينكل بالمقاومة أشد التنكيل؟!

لا تبدو الأمور بهذه الجودة، وارتدي أنس المنظار الأسود ولم يعد يرى أي أمل بأي شكل، هذه أرض لن تتحرر أبدًا، وهذه مقاومة لن تفعل أي شيء، وستنجح تل أبيب في أن تنهيها بلا أي مشقة، وبأيدٍ فلسطينية خالصة، وبلا أي مجهود على الإطلاق!

( 4 )

لم يقل الوضع الاقتصادي كارثيةً عن الوضع الديني والقضائي، حيث كان للفساد الكلمة الأولي في ثراء فئة محدودة العدد والمناصب ثراءً هائلًا علي حساب بقية الشعوب الإسلامية، وسار مع هذا الفساد واغتناء الطبقة الحاكمة شيوع الاحتكار التجاري وظهور طبقة فاحشة الثراء من التجار الذين احتكروا كل شيء تقريبًا مع غلاء ورفع كبير للأسعار، لذلك انتشرت المجاعات في القرن الخامس الهجري كما لم تنتشر أبدًا منذ العهد النبوي الشريف، وأهملت الدولة مع هذا الفساد الزراعة والصناعة والأمن والانشاءات مما تسبب في خسائر زراعية مهولة بسبب فيضانات نهري دجلة والفرات، مع انتشار للصوص بشكل واسع النطاق وانشغال جند الخليفة بشيئين هم ( حماية النظام الحاكم ) و ( مشاركة البطانات الفاسدة الحاكمة في السرقة ).

في العام 440 هـ ضرب الطاعون العراق والجزيرة العربية وتسبب في قتل 300 ألف شخص، وفي العقد الخامس من نفس القرن عم القحط حتي وصل ببعض الناس لأكل لحوم الكلاب الضالة ثم البشر، أما الأغنياء فكانوا يشترون ثمرة الرمانة الواحدة بدينار ذهبي كامل، لتقريب الصورة، تخيل أنك تشتري برتقالة واحدة بجنيه ذهب، هذا يعطيك فكرة عما وصل إليه المسلمون في هذا العصر!

بالتبعية، فإن الوضع الاجتماعي وصل نسيجه لحالة بالغة الاهتراء، وكانت الأخلاق في وضعها الأدنى مع انتشار لسلوكيات لم تكن شائعة بهذا الشكل قبل ذلك ومنها الزنا وشرب الخمر جهرًا وتجمعات من السارقين واللصوص والعصابات استعصت حينها علي قوات الخليفة نفسها، ثم كانت وفاة السلطان ملكشاه في أواخر العقد الثامن من القرن الخامس الهجري نهاية فعلية لدولة السلاجقة مع انقسام سياسي واسع النطاق وصل لحد إعلان دولة وحاكم من داخل مدينة واحدة فقط كأتابكية الموصل وأتابكية دمشق مثلًا، ثم صراعات طويلة الأمد وحروب استنزاف بين هذه الدويلات التي لا تذكر وبين الدولة الفاطمية في مصر وجنوب الجزيرة العربية، فضلًا عن وجود الباطنية الذين كانوا صداعًا حقيقيًا في ظهر دولة السلاجقة قبل نهايتها.

والمثال الأكبر على هذا الفساد ما ذكره ابن خلكان في كتاب (وفيات الأعيان) عن الثروة التي وجدت لدي الوزير الفاطمي بدر الجمالي بعد وفاته في عام 515 هـ والبالغة أكثر من ستمائة ألف ألف دينار (600 مليون دينار)، مع عدد ضخم من الماشية والأغنام والخيول وعشرات الآلاف من الملابس الحريرية والأثواب ” بلغت حسبما قال الراوي خمسة وسبعين ألف ثوب حريري “!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(نحن ننتظر صلاحَ دينٍ آخر، أو المهدي المنتظر، ويوم القيامة اقترب وسيقترب القصاص من الظلمة، اللهم أهلك الظالمين بالظالمين)

شتاء الإسكندرية، أبريل من العام الماضي، في حوار مع أحد الأصدقاء .. قال الجملة لي ورددت بالصمت الذي لم يفهمه، ولم أشرح.

(يـُتبع)