تشهد العاصمة الليبية أزمة سياسية جديدة بعد أن قرر البرلمان الليبي في طبرق، والمدعوم من القوى المتمركزة في شرق ليبيا، تكليف وزير الداخلية السابق في حكومة الوفاق الوطني، فتحي باشاغا، برئاسة الحكومة محل عبد الحميد الدبيبة رئيس الوزراء الحالي المنتخب مطلع ٢٠٢١ من قبل مختلف القوى الليبية في اجتماعها في جنيف. تدخل البرلمان الليبي جاء على إثر قرار الدبيبة بتأجيل الانتخابات

ليس الجديد في الأمر وقوع انقسام سياسي أو صراع على السلطة فهذا هو الوضع المعتاد منذ سنوات طويلة. لكن الغريب هذه المرة أن كلا الرجلين يعمل من داخل العاصمة طرابلس كما يتشاركان كثيرًا من نقاط القوة.

توجه فتحي باشاغا إلى طرابلس، وشكر الدبيبة على عمله، وقال لدى وصوله إلى مطار معيتيقة إنه على ثقة من أن  رئيس الوزراء الحالي سيسلم له السلطة احترامًا للديمقراطية وبدأ مشاوراته لتشكيل حكومته. لكن ثقة باشاغا لم تكن في محلها، فالدبيبة رفض الاعتراف بهذه الإجراءات وأعلن عن كشف محاولة لاغتياله مؤخرًا وأن «اثنين من المرتزقة تم التعاقد معهما لقتله»، دون أن يوضح الجهة التي تقف وراء هذه المحاولة.

الشرق والغرب

ظل الانقسام بين شرق البلاد وغربها عنوان الصراع طيلة السنوات الماضية، فكانت القوات التي تسمى «الجيش الوطني الليبي» المدعومة من البرلمان في مدينة طبرق، شرق البلاد، تتقاتل مع الفصائل التابعة لحكومة طرابلس في الغرب، وهي التي تلقى دعمًا تركيًّا وتنحاز إليها أغلب القوى الإسلامية السياسية.

وصلت الأزمة ذروتها عندما استطاعت قوات الجيش الذي يقوده اللواء خليفة حفتر الوصول إلى مشارف طرابلس، لكن الدعم العسكري التركي لحكومة الوفاق في طرابلس آنذاك قلب الموازين، وتمت مطاردة حفتر ورده إلى مدينة سرت، التي أصبحت تقع على الحدود الفاصلة بين المعسكرين المتصارعين في منتصف عام 2020.

تم التوافق على اختيار الدبيبة قبل نحو عام رئيسًا لحكومة الوحدة الوطنية بعد جهود السلام التي بذلتها الأمم المتحدة للتقريب بين الفرقاء السياسيين ليقود حكومة انتقالية مؤقتة تمهد لتنظيم الانتخابات التي ستفرز بدورها حكومة مستقرة وتنهي المرحلة الانتقالية.

وأصدر رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، قانونًا للانتخابات ينص على ضرورة تخلي أي مرشح يشغل منصبًا مدنيًّا أو عسكريًّا عن منصبه هذا قبل ٣ أشهر من الاقتراع الرئاسي، وبإمكانه العودة إلى موقعه السابق إذا لم ينجح في الانتخابات، واعترضت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا والمفوضية الوطنية العليا للانتخابات على هذا القانون دون جدوى.

واستقال أصحاب المناصب المرشحون من مواقعهم للترشح للانتخابات، وكان أبرز هؤلاء المتنافسين سيف الإسلام القذافي نجل الرئيس الراحل معمر القذافي، وعقيلة صالح، رئيس البرلمان، وخليفة حفتر، قائد قوات الجيش الوطني، وفتحي باشاغا، وزير الداخلية السابق في حكومة الوفاق الوطني، وعارف النايض، السفير الليبي السابق في الإمارات، وكذلك تقدم عبد الحميد الدبيبة بأوراق ترشحه بينما استمر في عمله رئيسًا للحكومة متجاهلًا قرار رئيس البرلمان بضرورة الاستقالة من المنصب قبل الترشح.

وفي 22 ديسمبر/كانون الأول الماضي، اقترحت لجنة الانتخابات رسميًّا تأجيل الانتخابات الرئاسية التي كان من المقرر عقدها في 24 ديسمبر/كانون الأول 2021، وكان من المعروف مسبقًا عدم إمكانية تنظيم الانتخابات بسبب الانقسامات السياسية، إلا أن المؤسسات المختلفة تجنبت تحمل المسئولية عن الإعلان رسميًّا عن هذا الأمر.

لم تصدر المفوضية الوطنية العليا للانتخابات من الأساس قائمة المرشحين النهائية، وأعلنت عدة جهات رفضها لإجراء الاقتراع، وعلى رأسهم خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة بطرابلس الذي يطالب بأن يتم إقرار الدستور أولًا قبل الانتخابات، وكذلك هدد زعماء محليون بعدم السماح بالتصويت في بعض المناطق لاعتراضهم على ترشح سيف الإسلام القذافي وخليفة حفتر.

تكليف باشاغا

بناءً على الوقائع الجديدة المتمثلة في تأجيل الانتخابات، قرر المعسكر الشرقي التواصل مع باشاغا الذي يحظى بنفوذ في الغرب الليبي، والتوافق على شكل المرحلة الانتقالية التي طالت. فالتقى حفتر بباشاغا، كما حظي الأخير بدعم البرلمان لتشكيل حكومة مؤقتة أيضًا إلى حين إجراء الانتخابات التي لا يعلم أحد موعد إقامتها أو حتى إمكانية إجرائها من عدمه. وعاد المرشحون إلى مناصبهم السابقة التي تركوها مؤقتًا من أجل الترشح.

تعهد باشاغا بعدم الترشح للرئاسيات، وأنه سيعتبر أي وزير في حكومته ينوي الترشح للرئاسة مستقيلًا، بينما يصر الدبيبة على أن ولايته المؤقتة مستمرة حتى يونيو/حزيران المقبل، ويشدد على مبدأ أنه لن يسلم السلطة إلا إلى حكومة منتخبة، وأن البرلمان لا يحق له تغيير الحكومة، وأن الجهة المخولة بذلك هي المجلس الرئاسي.

ويعتبر مجلس النواب أن ولاية رئيس الوزراء الحالي انتهت لعدم قيامه بتنظيم الانتخابات التي جاء من أجل إنجازها، ولكن هذا المبدأ قد ينطبق أيضًا على مجلس النواب الذي أصدر قرارًا بتمديد فترة ولايته.

ويبدو الموقف الدولي غير واضح إزاء قرار البرلمان، فرغم إجماع القوى الدولية المشاركة في مؤتمر باريس في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 على عدم السماح بتعطيل الإجراءات الديمقراطية المقررة، لكن هذه القوى تبدو اليوم غير مهتمة كثيرًا بتفعيل تلك الالتزامات.

وأعلنت الأمم المتحدة على لسان ستيفان دوجاريك المتحدث باسمها أنها تعترف بالدبيبة كرئيس وزراء شرعي، لكن مبعوثة الأمم المتحدة إلى ليبيا، ستيفانى ويليامز، التقت كلا الرجلين على حدة، ولم تخرج بعد اللقاءضين بأي موقف واضح، وكأن المجتمع الدولي ينتظر ليرى من ستكون له الغلبة في النهاية ليعلن اعترافه بشرعيته في موقف مشابه لما حدث في 2020 حين ظلت القوى الدولية تترقب نتائج معركة طرابلس التي كانت على وشك السقوط، ثم أعربت عن دعمها حكومة الوفاق الوطني «المعترف بها دوليًّا» بعدما تراجع الهجوم عليها.

يحظى باشاغا والدبيبة، وكلاهما من مدينة مصراتة ولهما نفوذ كبير في المنطقة الغربية، بدعم عدد كبير من الجماعات المسلحة المتنافسة في العاصمة الليبية والمناطق المحيطة بها. ويبدو أن هذا الخلاف بين الدبيبة وباشاغا سيؤدي إلى مزيد من الانقسامات، خاصة في الغرب الليبي، ويساهم كذلك في إطالة أمد المرحلة الانتقالية التي تضخمت بشكل غير مبرر. كما يسهم هذا الوضع في تشجيع الانفلات الأمني وتقوية نفوذ المليشيات المسلحة التي يعول أي طرف سياسي على دعمها لتقوية موقفه أمام خصومه، بل حلفائه أيضًا.