النفاق على المستوى الفردي هو ما عَرَّفَته الأديان السماوية وثقافات الشعوب المختلفة بـأنه إظهار خِلاف ما في الباطِن، وأسوأ أنواعه ادعاء المبادئ ثم فعل عكسها. وقديمًا قرر علماء الأصول أن أصحاب المذاهب لا بد أن يلتزموا بقواعد المذهب ومبادئه ولوازمه، وإلا كانوا من أهل النفاق والخداع، ولهم مقولة مشهورة هي أن «لازم المذهب ليس بلازم ما لم يلتزمه صاحب المذهب»؛ أي إذا لم تلتزم بأركان مبادئك فلن تكون تلك سوى مجرد شطحات فكرية، أو ادعاءات من أجل المصالح وليست مبادئ.

وعلى مستوى الدول عرف التاريخ بلادًا تناقض أقوالها أفعالها، وتتشدق بمبادئ لم تستطع أن تلتزم بها سواء بإرادة سياسية على مستوى إداراتها، أو على مستوى شريحة عريضة من المجتمع. ومن الأمثلة الكبرى على ذلك هي الولايات المتحدة ذاتها، ولعل الإدارة الحالية هي خير دليل على ذلك التراث الطويل.

ظهر الشعب الأمريكي الحالي فعليًا من رحم العالم أجمع، ويضم أكبر تنوع عرقي في التاريخ والكون. فهذا العالم الجديد كان قبلة كل من أراد فرصة جديدة وحياة رغيدة بعيدًا عن أوطان مزقتها الحروب أو النزاعات السياسية والدينية.

كان المفترض أن هؤلاء الوافدين والمهاجرين سيحاربون كل أنواع الظلم التي تعرضوا لها في بلادهم قبل أن يفروا منها، وينشئوا مجتمعًا مثاليًا خاليًا من تلك الأمراض. لكنهم عندما استقروا مارس معظمهم أسوأ أنواع الظلم، وأقدم الأمريكيون المهاجرون على أكبر جريمة إبادة في العصر الحديث ضد السكان الأصليين الذين استوطنوا أمريكا قبلهم بمئات القرون.

ثم أعقبوها بجريمة استعباد ملايين الأفارقة الذين خطفوهم ونقلوهم إلى بلادهم عبر أضخم عملية اتجار في البشر عرفها التاريخ، وتمتلئ كتب التاريخ الأمريكي بفظائع تثير الاشمئزاز والغثيان من القدر الذي يمكن أن يصل إليه بشر في الانحطاط وسوء المعاملة.

وحُرم الأمريكان الأفارقة وذوي الأصول الآسيوية واللاتينية من المساواة في الحقوق السياسية والمواطنة مع ذوي الأصول الأوروبية، وظل التمييز في التعليم وحيازة الأراضي والهجرة والتصويت طوال الفترة منذ ظهور أميركا في القرن السابع عشر وحتى ستينيات القرن العشرين.

لم تقتصر العنصرية على ذلك فقط بل طالهم أيضًا الاضطهاد الديني لكل الملونين، فلم يكن يسمح لهم بدخول كنائس البيض الأوربيين. وحتى الأوروبيون من مذهب مسيحي مخالف لمذهب النخبة وقتها (الكاثوليكية) كان يطالهم التمييز والعنصرية داخل مجتمع البيض، رغم أن الغالبية بروتستانت.

وفي منتصف القرن العشرين تم حظر التمييز والعنصرية رسميًا بالقانون، ولكن ظلت منظمات وشبكات حقوق الإنسان داخل الولايات المتحدة تؤكد على وجود التمييز في كافة مناحي الحياة والمجتمعات المحلية وخاصة في المدن الصغيرة والقرى وولايات الجنوب العتيدة.

جرى التمييز والاضطهاد ضد الأمريكيين من أصول يابانية خلال الحرب العالمية الثانية، وأخذ الأمر شكلاً رسميًا بجمعهم وأسرهم واحتجازهم في معسكرات عزل خارج المجتمعات العمرانية الأمريكية، بدعوى الشك في عمالتهم لليابان ضد الولايات المتحدة، ولم يشفع لهم أنهم عاشوا وولدوا داخل الأراضي الأمريكية.

وكان اليهود من الفئات المكروهة والمنبوذة في المجتمع الأوروبي، ونقل الوافدون الجدد للأراضي الأمريكية تلك الكراهية وامتدت حتى الستينيات، قبل أن تنقلب الكفة لصالح اليهود ويصبحوا أكثر العناصر تأثيرًا في السياسة الأمريكية، ويمتلكوا زمام المال والإعلام في المجتمع الأمريكي، ثم يأخذوا دورهم هم أيضًا في اضطهاد من خالفهم وحاول التغريد خارج سربهم.

طال الاضطهاد الفكري والسياسي أيضًا أصحاب الفكر اليساري والشيوعي بشدة خاصة في فترة الأربعينيات، رغم تحالف الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية، واستمر اضطهادهم حتى سقوط الدولة السوفييتية وانتهاء الحرب الباردة. وكان التمييز ضدهم يشمل اتهامهم بالخيانة والعمالة والتضييق عليهم في العمل والحياة، وحتى وصل الأمر إلى السجن بتهمة حمل فكر معادٍ للقيم الأمريكية، وتشكيل تهديد للمجتمع الأمريكي بهذه الأفكار.

ومن أجمل الأفلام التي عالجت قصصًا واقعية من ذلك العهد؛ فيلم ترامبو (Trumbo) الذي صدر عام 2015 من إخراج جاي روتش، ومن بطولة براين كرانستون، ودايان لاين، وهيلين ميرين ولويس سي.كي. وإيل فانينغ.

ويكشف الفيلم حقيقة اضطهاد دالتون ترامبو المبدع الموهوب، الذي كان المؤلف الحقيقي لسيناريوهات أفلام روائية شهيرة في هوليود ونالت جوائز مختلفة على رأسها الأوسكار، ولم يستطع أن ينشرها باسمه نظرًا للمقاطعة والتمييز ضده لكونه عضوًا في الحزب الشيوعي وكان على القائمة السوداء وحاربه إعلاميون وسياسيون وفنانون.

يضطر الكاتب الذي حظروه وضيقوا عليه أن يعرض أعماله أولًا باسم أصدقائه مقابل نسبة من عائد العمل، وتفوز القصة بالأوسكار ويتلقى صديقه الإشادة والاستحسان ويتسلم الجائزة بدلاً منه. ولا تتوقف متاعب الرجل بل يتعرض هو وتسعة من زملائه في الحزب الشيوعي من العاملين في هوليوود إلى المحاكمة والسجن بتهمة التعاطف مع الشيوعية.

ويعامل باحتقار وتعمد الإهانة من أول يوم في السجن، يعرونه تمامًا بدعوى التفتيش الذاتي ويكلفونه بالشاق من الأعمال وهو في الخامسة والأربعين، وفي السجن يرى أحد كبار متهميه ومضطهديه مسجونًا في نفس السجن يمسك بالممسحة وينظف الأرضية. كان الرجل الذي اضطهده وادعى مبادئ الشرف والوطنية مسجونًا بتهمة التهرب والتزوير الضريبي وخيانة الأمانة، كان المشهد عبقريًا بحق ويصور حقيقة أصحاب النفاق وادعاء المواقف الوطنية على حساب الأبرياء.

يخرج من السجن ويرى أسرته تعاني من ضيق العيش ويضطرون إلى ترك منزلهم الواسع الفخم – كان الرجل هو أعلى المؤلفين أجرًا في هوليود قبل أن تحل عليه لعنة الاضطهاد – ويبحث عمن يقبل منه أعماله ولا يجد سوى شركة إنتاج متواضعة تعمل في أفلام الدرجة الثانية ويقبل العمل معهم بأجر أقل مئة مرة عن أجره الحقيقي، لمجرد أن يوفر المال لإعالة أسرته المنكوبة.

موهبة الرجل تكتسح كل شيء وتبدأ الشركة المغمورة التي تشجع صاحبها وتتعاقد مع دالتون ترامبو في الظهور والنجاح بكل السيناريوهات والقصص التي يقدمها لهم، وتكون المفاجأة بفوز إحدى القصص بجائزة أوسكار ثانية. ويجلس الرجل وأسرته في المنزل يشاهدون حفل إعلان وتوزيع الجوائز وهم يعرفون أن صاحب القصة الحقيقية هو الأب وليس ذلك المجهول الذي يستلم الجائزة في الحفل المهيب وينال التصفيق الشديد، كانوا فرحين والغصة تملأ القلب وتمرر الحلق.

لا تتوقف الإعلامية الشهيرة المتولية كبر محاربته ولا تتراجع المنظمات المدعية للوطنية عن التضييق ومحاولة الضغط على شركات الإنتاج والمخرجين لوقف أعمال دالتون ترامبو حتى بأسماء مستعارة، لكن الموهبة الحقيقية تكتسح كل شيء وبعد عشر سنوات من الاضطهاد والحرمان والحظر يوضع اسم الرجل على فيلمين كبيرين هما فيلم سبارتكوس وفيلم الخروج. ويشارك الرئيس كنيدي في مشاهدة فيلم سبارتكوس ويشيد بالقصة وتسقط القائمة السوداء ويعرف العالم من هو المبدع الحقيقي خلف الستار المسئول عن كثير من الأعمال الناجحة.

وعند تكريمه في النهاية بعد أكثر من عشرين عامًا من بداية مأساته يتحدث الرجل عن معاناته وأسرته وأصدقائه الذين فقدوا كل شيء وفارق بعضهم الحياة مرضًا وفقرًا وكمدًا بسبب الاضطهاد غير المبرر، فلم يفعلوا جرمًا ضد أحد أو ضد دولتهم، ولم تثبت عليه العمالة أو الإضرار بشيء، فقط لم يستطيعوا إظهار غير ما يعتنقونه من أفكار. باختصار، لم يكونوا منافقين.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.