زيارة ناجحة قام بها الرئيس السوداني عمر البشير إلى بكين لحضور المنتدى الصيني الأفريقي، استطاع من خلالها إعادة وضع العلاقات السودانية الصينية على الطريق الصحيح بعد طول فتور بين البلدين بسبب خلافات سابقة بين الدولتين حول قضية عجز حكومة الخرطوم عن سداد الديون الصينية المستحقة عليها، وهي التي يقدرها خبراء بستة مليارات دولار، ما تسبب في انسحاب جماعي للشركات الصينية من البلاد خلال الأعوام الثلاث الماضية. تحدثت تقارير صحفية أيضًا عن تمويل الصين لمشروع لنقل نفط جنوب السودان عبر ميناء لامو الكيني بعيدًا عن السودان، الدولة الأم التي تستفيد بشكل كبير من رسوم عبور نفط الجنوب عبر أراضيها في دعم خزينتها بالنقد الأجنبي.

استطاع البشير خلال هذه الزيارة انتزاع مبلغ 600 مليون يوان صيني (90 مليون دولار) كمنح وقروض لدعم مشارع التنمية بالبلاد من الحكومة الصينية المعروفة بأنها لا تقوم بمنح قروض كبيرة للدول النامية على خلاف الدول الغربية. كما نجح البشير في إحداث اختراق في الحوار مع الحكومة الصينية حول الديون، والحصول على استثمارات صينية جديدة في استخراج نفط البلاد، بالإضافة إلى توقيع عقد إنشاء خط سكة حديد بورتسودان إنجمينا، وهو الذي سوف يصل شرق البلاد بغربها، ويعطي الخرطوم مكانًا مميزًا على طريق الحرير (الصيني).

فما سر هذا التغير في المواقف الصينية؟ وهل يمكن القول إن الجفوة انتهت بين بكين والخرطوم؟


التقلبات السياسية في السودان والعلاقات مع الصين

العلاقات السودانية الصينية ممتدة عبر التاريخ منذ العصور القديمة، حيث كانت موانئ السودان إحدى الموانئ التي مر عليها البحار الصيني الشهير تشينغ خي، في إطار رحلاته المكوكية عبر المحيط الهندي. وفي العصر الحديث، بدأت العلاقة بين الدولتين بشكل رسمي عام 1959، في زمن الرئيس الراحل إبراهيم عبود، عندما اعترف السودان بالحكومة في بكين، وفتحت أول سفارة صينية في الخرطوم، حيث جمعت بين البلدين حداثة العهد بالاستقلال والرغبة في عدم الاصطفاف خلف القطبين العالميين آنذاك. وفي إطار تجمعات عدم الانحياز، بدأت تتوطد العلاقة بين الدولتين، لكنها كانت علاقة تبادل دبلوماسي وتطبيع، ولم تكن علاقة صداقة بسبب توجس الخرطوم وقتها من الدول الشيوعية، فلم يكن للسودان سفير مقيم في الصين إلا في عهد الرئيس جعفر نميري عام 1970.

تعاون الرئيس نميري كثيرًا مع الصين الشعبية في مجال البنية التحتية، حيث استفاد الرئيس من الخبرات الصينية في هذا المجال، ولكن لم يصل التعاون بين البلدين إلى مستوى التحالف السياسي أو الاقتصادي أو العسكري، حيث كانت الصين في ذلك الوقت مجرد دولة نامية ودولة إقليمية في آسيا. وعلى درب النميري، سارت حكومة المشير سوار الدهب وحكومة الأحزاب من بعده، ليكون التطور الأكبر في الفترة التي أعقبت انقلاب ما عرف بـ «ثورة الإنقاذ الوطني» التي قادها العميد عمر حسن البشير في 30 يونيو/حزيران 1989.

لم يكن انقلاب البشير انقلابًا عسكريًا كلاسيكيًا، بل كان انقلابًا مدبرًا من تنظيم سياسي، هو «الجبهة الإسلامية القومية» وعرابها الدكتور حسن الترابي، وكانت الجبهة قد خططت الانقلاب، وكانت مسألة العلاقة مع الصين جزءًا من خطة التنظيم للاستيلاء على السلطة، فقد توقعت أن يحاصرها العالم ويجهض تجربتها على غرار تجارب إسلامية أخرى مثل التجربة الجزائرية. وفي عالم الثمانينات، كان القطب الشرقي يترنح، والقطب الغربي يستأسد. قرر الترابي اتخاذ قرار التعويل على الكتلة الآسيوية، الصين تحديدًا، للتحالف معها إذا ما نجحت الخطة في استلام الحكم، فسافر إلى الصين وسافرت قيادات تنظيم إلى هناك في محاولة لبناء علاقة خاصة مع النظام هناك، حيث كانت تقديرات الترابي أن الصينيين برجماتيون وليسوا أيديولوجيين، وأن التحالف مع الصين صاحبة الوزن الكبير في مجلس الأمن سيكون أمرًا كافيًا لصد أي محاولات لضرب نظامه من قبل الدول الغربية.

رغم أن هذه الفكرة كانت ثورية تمامًا في ذلك الوقت، حيث لم يكن العالم يعير كبير اهتمام للكتلة الآسيوية في حقبة ما بعد الحرب الباردة، فإنها نجحت، وإن لم يكن بالشكل الذي أراده الترابي وخطط له. فقد تثاقلت الصين في دعم نظام الخرطوم في البداية لأنها كانت تعتقد أن هذا النظام لن يدوم طويلاً، حتى استطاع النظام تثيبت أقدامه ذاتيًا معتمدًا على الدعم الإيراني والعراقي. وبعد أن أثبت النظام قوته واستطاع سحق المعارضة المسلحة المدعومة من دول الجوار في أكثر من جبهة عسكريًا، وجرها إلى مفاوضات السلام، دخلت الصين خط التعاون الاقتصادي مع السودان.


النفط السوداني مفتاح العلاقة مع الصين

في البداية، حاولت الصين قصر التعاون مع الخرطوم على جعل الخرطوم سوقًا لبضائعها، والاستفادة ببعض المواد الخام وشحنها إلى الصين بأسعار رخيصة، لكن حكومة البشير ألحت في اتفاقاتها مع الصين على ضرورة قيام بكين بالاستثمار في استخراج النفط السوداني. كانت الصين مترددة في البداية، كونها لم تكن تملك الأدلة على وجود كميات كبيرة من النفط في البلاد، ولأن شركة شيفرون الأمريكية هي التي كانت تمتلك امتياز النفط السوداني، ولكن شجعها اتفاق الحكومة السودانية مع الشركة الأمريكية على الخروج من البلاد، وتحولت الصين في ذلك الوقت من دولة مصدرة للنفط لدولة مستوردة له بسبب ازدهار الصناعة الصينية. وفي عام 1995، كان الحدث الكبير، حيث تدفقت أول كمية من النفط من آبار هجليج السودانية، وتحولت الشركة الوطنية الصينية للنفط، بفضل النفط السوداني، إلى شركة عالمية.

في البداية، لم يصدق العالم هذا التحول، ولم يدرك ما معنى هذا النفوذ الصيني في السودان، وهو الذي كان نجاحه بداية للمشروع الصيني العظيم للتمدد في أفريقيا ومنافسة القوى الاستعمارية التقليدية. وخلال خمسة أعوام، كانت أغلب دول الجوار السوداني قد وقّعت عقودًا مع الشركة الوطنية للنفط الصيني لتبدأ إمبراطورية الصين الأفريقية.

لم يستمر النفط السوداني طويلًا، حيث وُقّع اتفاق سلام بين حكومة الخرطوم ومتمردي الحركة الشعبية في جنوب البلاد، وافقت فيه الخرطوم على منح الإقليم النفطي حق تقرير المصير، وهو الذي انتهى إلى انفصال، ثم حرب بين الدولة الوليدة والدولة الأم. ولم تقف الصين مع حليفتها القديمة الخرطوم كما كانت تنتظر الخرطوم، بل إنها وقفت مع مصالحها في جنوب السودان، وضغطت على الخرطوم لتوقيع اتفاق لعبور نفط دولة الجنوب عبر أنابيب النفط التي يملكها شمال البلاد، وهو ما تم فعلاً، ولكن حدث ما لم تحسب الصين له حسابًا، وهو انفجار الدولة الأحدث في العالم في حرب عرقية بعد عامين فقط من إعلان استقلالها.

تذكّرت الصين أن على السودان قروضًا عليه أن يسددها ومستحقات مالية لشركاتها. وعندما عجزت الحكومة السودانية عن الوفاء والسداد، توقفت الاستثمارات الصينية في قطاع النفط، وانخفض إنتاج النفط بوتيرة متسارعة. توقفت كثير من المشاريع الصينية، ولم تفلح كل المحاولات السودانية في زحزحة الموقف الصيني المتشدد الذي قام ربما على اعتقاد بأن الصين لم تعد بحاجة إلى السودان ما دامت علاقاتها متوطدة مع جارته إثيوبيا صاحبة الاقتصاد الصاعد، وهي التي ظهرت فيها كشوف نفطية كبيرة أسالت لعاب الصين. كما لم تكن أسعار النفط (المنخفضة)، والتي كانت تهوي باستمرار، مشجعة للصين على البقاء في السودان والتنقيب.


ترامب وتغير قواعد اللعبة

لكن الأوضاع من ناحية الصين تغيرت، فقد جاء إلى البيت الأبيض رئيس جديد بأجندة معادية للصين، أعلن حربًا تجارية ضدها. كما صعدت في إثيوبيا حكومة غير حليفة للصين. وفرضت واشنطن عقوبات قاسية على المتعاملين مع إيران وفنزويلا، ما أسهم في ارتفاع سعر النفط إلى ما يزيد عن السبعين دولارًا. فكانت كل هذه الأسباب دافعة للصين إلى العودة لدفاترها القديمة بحثًا عن النفط وعن منتجات زراعية بديلة للتي كانت تستوردها من واشنطن التي أعلنت عليها الحرب، ووجدت الصين غايتها في السودان حليفها القديم الجديد.

وأما السودان، فقد أنهكته الأزمة الإقتصادية، وأصبح حلها هو أولى أولويات الحكومة. ولم ينفع النظام السوداني رفع العقوبات الأمريكية الذي طبقه ترامب جزئيًا، ولا انخراط الخرطوم في مغامرة الخليجيين في اليمن لدعم خزائنها الخاوية. فبحثت السودان في دفاترها القديمة هي أيضًا، وتذكرت أنها تملك ديونًا مستحقة على حكومة الجنوب بسبب رسوم نقل النفط، تبلغ مليار دولار، فضلاً عن أن إيقاف الحرب الأهلية في هذا البلد الجار، مع ارتفاع سعر النفط الخام، يمكن أن يجلب الحل لاقتصادها المتعثر، فهندست اتفاقية لوقف الحرب بين فرقاء الجنوب، وقد كللت مساعيها بالنجاح، وهو ما أسعد الصين المتلهفة إلى 500 ألف برميل من السودان وجنوبه، ستغنيها عن شراء نفط إيران وفنزويلا والتعرض لعقوبات ترامب الجنونية. وربما تنتوي الصين رفع الإنتاج إلى أرقام أكبر.

إذن، فإن المصالح جمعت مرة أخرى بين الخرطوم وبكين، وهي التي دفعت المصالحة بين البلدين. واليوم، باتت الصين في حاجة للعودة إلى السودان بحثًا عن مصالحها. لكن الصين تعود هذه المرة والخرطوم لم تعد نفس الخرطوم التي تركتها. لقد استغل الغيابَ الصيني عن السودان منافسون لبكين، كلهم يطمح أن تربح صفقتهم ويكوّنوا ثروة من السودان. وهؤلاء المنافسون هم بالأساس الأتراك الذين جاء رئيسهم أردوغان إلى الخرطوم في زيارة تاريخية، ووقّع اتفاقات هامة، وأنشأ مجلسًا إستراتيجيًا مع السودان؛ والروس الذين يُتوقع زيارة رئيسهم إلى السودان، والذين وقعت شركاتهم اتفاقات زراعية وتعدينية ونفطية مع السودان.

هذا بالطبع فضلاً عن الولايات المتحدة الأمريكية التي تريد العودة إلى أفريقيا، وضغطت شركاتها من أجل رفع العقوبات عن الخرطوم، كونها ترى السودان سوقًا محتملًا كبيرًا لمنتجاتها.