فعلها الرئيس الأميركي «دونالد ترامب» ووقع على القرار الذي لم يجرؤ رئيس أميركي آخر على توقيعه طوال 22 عامًا، واعترف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال؛ إسرائيل. رغم أن القرار لم يكن مفاجئًا، فإنه جزءٌ من وعود «ترامب» حين كان مرشحًا للانتخابات الرئاسية الأميركية، إلا أنه أثار جدلًا وسخطًا ورفضًا عالميًا واسعًا.

يؤسس هذا القرار لمرحلة جديدة تمامًا، إذ يعتبر شهادة وفاة رسمية لـ«اتفاقية أوسلو» الموقعة بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال في العام 1993، وانهيار كامل لخيار حل الدولتين، وانحياز واضح من الإدارة الأميركية للاحتلال الإسرائيلي بشكل يجعل رعاية واشنطن لأي عملية سلام محتملة مستقبلًا أمرًا محل تساؤل.


القدس بين العرب والاحتلال الإسرائيلي

يعود الوجود العربي في مدينة القدس لآلاف السنين، فسكانها الأصليون هم قبيلة اليبوسيين، أحد البطون الكنعانية العربية. وخضعت المدينة للحكم الإسلامي بشكل شبه متواصل لفترة تصل إلى 1300 عام، وكان العرب هم أغلب سكانها طوال هذه القرون.

سقطت القدس بيد الجيش البريطاني بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى أواخر عام 1917. ومنحت عصبة الأمم بريطانيا حق الانتداب على فلسطين، وأصبحت القدس عاصمة فلسطين تحت الانتداب البريطاني (1920 – 1948). ومنذ ذلك الحين دخلت المدينة في عهد جديد كان من أبرز سماته زيادة أعداد المهاجرين اليهود إليها خاصة بعد وعد بلفور عام 1917.

أعلنت بريطانيا عام 1948 إنهاء الانتداب في فلسطين وسحبت قواتها، فاستغلت العصابات الصهيونية حالة الفراغ السياسي والعسكري وأعلنت قيام الدولة الإسرائيلية. وفي 3 ديسمبر/ كانون الأول 1948 أعلن «ديفيد بن غوريون» رئيس وزراء إسرائيل أن القدس الغربية عاصمة للدولة الإسرائيلية الوليدة، في حين خضعت القدس الشرقية للسيادة الأردنية.

استمرت القدس الشرقية تحت السيادة الأردنية حتى هزيمة يونيو/حزيران 1967، التي كانت إحدى نتائجها خضوع القدس بأكملها لسلطة الاحتلال الإسرائيلي. ورفضت إسرائيل قرارات الأمم المتحدة التي نددت بالإجراءات الإسرائيلية في القدس، ووقف المجتمع الدولي إلى جانب العرب والفلسطينيين وتم اعتبار القدس الشرقية أراضيّ محتلة.

أصدر الكنيست الإسرائيلي عام 1980 قرارًا أكد على بقاء القدس الموحدة عاصمة لدولة إسرائيل، وأنها مكان إقامة رؤساء الدولة والكنيست والحكومة والمحكمة العليا. ومنذ ذلك الحين تتعامل سلطات الاحتلال مع القدس على أنها عاصمتها ضاربة بالقرارات الدولية عرض الحائط.

اتخذت سلطات الاحتلال الإسرائيلي عشرات القرارات من أجل تغيير معالم مدينة القدس بهدف تهويدها وإنهاء الوجود العربي فيها، فقامت بالاستيلاء على 72 كم مربعًا من أراضي الفلسطينيين المحيطة بالمدينة – بقرارات مختلفة – وبناء عشرات المستوطنات عليها، ثم وسعت حدود «القدس» شرقًا وشمالًا، بضم المستوطنات إليها، من أجل مضاعفة عدد المستوطنين وجعل العرب أقلية في المدينة.

تعتبر كذلك سياسة تهجير الفلسطينيين من مدينة القدس، وسحب الهويات الإسرائيلية من سكان المدينة العرب، إحدى الوسائل المعتمدة لدى دولة الاحتلال الإسرائيلي من أجل خلق واقع جديد يكون فيه اليهود النسبة الغالبة في مدينة القدس، وهو ما نجحت فيه إلى حد بعيد، إذ وصلت نسبة اليهود في المدينة إلى 63%، بينما نسبة العرب 37% فقط، وفق الاحصائيات الإسرائيلية الرسمية.


«ترامب» يهرب من أزماته الداخلية

أجرى «ترامب» قبل يوم واحد من إعلانه اعتبار مدينة القدس عاصمة لإسرائيل، اتصالات عديدة بعدد من قادة دول المنطقة بينهم الرئيس المصري وملك الأردن وأمير قطر، وكان الرد الرسمي للجميع واحد «احذر مما أنت مقدم عليه. المنطقة بأكملها قد تنفجر».

لم تختلف تصريحات قادة الدول الغربية عن تصريحات نظرائهم في الشرق الأوسط، فكندا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا رفضوا القرار وحذروا الرئيس «دونالد ترامب» من مغبة اتخاذه. بل وحتى دولة الاحتلال الإسرائيلي لم تضغط بقوة من أجل صدور القرار في هذا التوقيت خوفًا من اندلاع انتفاضة جديدة.

كان «ترامب» وإدارته فقط هم من يريدون اتخاذ هذا القرار في هذا التوقيت، فلماذا؟ وفق عدد من التفسيرات فإن «ترامب»، ونتيجة اشتداد الخناق من حوله بعد اعتراف مستشاره السابق «مايكل فلين» بالكذب على المحققين الذين يفحصون اتصالاته مع روسيا أثناء الحملة الانتخابية لترامب، يريد تحقيق هدفين رئيسين. الأول، هو تشتيت الانتباه بقرار يثير شهية الإعلام للابتعاد عن قضية الاتصالات مع روسيا إبان الحملة الانتخابية. الثاني، هو الدفع باللوبي اليهودي، صاحب النفوذ القوي في الكونجرس، للوقوف خلفه في مواجهة خصومه الذين يسعون للإطاحة به عبر عزله عن طريق الكونجرس.

اقرأ أيضًا:مشروع ترامب للسلام: رشوة سعودية وعناد فلسطيني

يمكن أيضًا أن يكون القرار قد اتخذ في إطار «صفقة القرن» التي يجري الحديث عنها في الصحف والدوائر السياسية العربية والغربية، والتي من المفترض أن تنهي الصراع العربي – الإسرائيلي وتحل الأزمة الفلسطينية. ووفق هذا فإن القرار جاء مدعومًا من دول عربية أظهرت رفضها له علانية ودعمته سرًا. ويرى الكاتب اليساري الدكتور «عمرو عبد الرحمن» أنه «يمكن قراءة قرار نقل السفارة للقدس من زاوية أخرى كمؤشر إضافي على تراجع النفوذ الأميركي في المنطقة وليس العكس. وأن ترامب لم يعد يتعامل مع المنطقة كقائد لكتلة إمبريالية غربية قادر على فرض تفاهمات وتعيين خطوط حمراء، بقدر ما يتعامل معها كسمسار قابل بالأمر الواقع، وهو خروج المنطقة من تحت سيطرته. وكل ما يسعى إليه حاليًا هو الاستفادة من هذا الوضع سواء ببيع السلاح أو باستغلال أي أرصدة باقية لإسرائيل لدعم موقفه الداخلي المهتز».


تبعات القرار الأميركي

يضفي قرار «ترامب» باعتبار القدس عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، مشروعية دولية على المشروع الإسرائيلي لتهويد القدس، وعمليات الاستيطان التي تتم في محيط المدينة والتي تعتبر غير شرعية دوليًا. كما قد يشجع القرار دول أخرى على اتخاذ خطوة مماثلة وتجاهل القرارات الدولية الخاصة بمدينة القدس.

ينهي «ترامب» بقراره حقبة كان يتم فيها الحديث عن خيار حل الدولتين كأمر ممكن وكأساس لعملية السلام بين الفلسطينيين ودولة الاحتلال الإسرائيل، ويقضي على أوهام العرب الذين كانوا يعتقدون أن أميركا من الممكن أن تدير مفاوضات السلام بحيادية وموضوعية. كما يكرس نظرة الشعب الفلسطيني والعربي إلى الولايات المتحدة كخصم وليس كصديق.

من المستبعد أن تعاقب الدول العربية إدارة الرئيس الأميركي «دونالد تررامب» على قرارها باعتبار القدس عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وهو أمر واضح من ردة الفعل الرسمية التي لم تتجاوز – إلى الآن- الشجب والإدانة والاستنكار والتحذير. وليس من السهل التنبؤ بردة الفعل الشعبية العربية، لكن من المؤكد أن هناك غضبًا حقيقيًا في الشارع العربي، والتعبير عنه بشكل جدي مرتبط بسماح الأنظمة الحاكمة بذلك، وهو أمر مستبعد.

وفلسطينيًا، دعت حركات مقاومة، على رأسها حركة حماس، الشعب الفلسطيني إلى التظاهر للتنديد بالقرار، بينما اتسم موقف السلطة الفلسطينية بالبرود والاكتفاء بالمشاورات والمناقشات مع الدول الشقيقة والصديقة. أما هل ينتفض الشعب الفلسطيني رفضًا للقرار؟ فهذا ما ستكشف عنه الأيام المقبلة.