في عام 1976 ومع الخروج باتفاقية جامايكا الاقتصادية، فقد أُوجد نظام مالي جديد نعيش في ظله إلى يومنا هذا. من أهم مخرجات هذا الاتفاق إيقاف ربط العملة بالذهب وربط البترول بالدولار وتعويم كل شيء، بدءًا من الدولار نفسه إلى عملات الدول الغربية ودول العالم المتطورة بشكل عام. أحد أهم مخرجات هذا الاتفاق هو نظام اقتصادي عالمي يعتمد بالأساس على «السوق المفتوحة».من أهم ميزات هذا الاتفاق أنه أوجد أواصر اقتصادية بين عديد من الدول بعضها تجمعها بدول أخرى عداوات. وقد كان التطبيق الفعلي أن المنتج أيًا كان مهما صغر أو كبر فهو يمثل نتاج تعاون اقتصادي عالمي مرتبط بعدد من الدول؛ أي أن قلم الرصاص قد تشترك في صنعه بشكل غير مباشر أكثر من 5 دول. فالخشب يأتي من البرازيل والرصاص من روسيا والطلاء من رومانيا والألمونيوم من تركيا وأخيرًا المطاط (الممحاة) من الولايات المتحدة الأمريكية. لذا فالإضرار بأي من مراحل الصنع قد يعني إيقاف صنع القلم. صحيح أنه قد يكتب على القلم أنه صنع في أمريكا، إلا أنه نتاج لمصادر ومصانع لدول عدة. ولذلك فتضرر إحدى هذه الدول بالضرورة سينعكس سلبًا على كل السلسلة الإنتاجية. فإذا تدهورت عملة البرازيل وارتفع سعر الخشب فإن السعر النهائي للقلم سيرتفع تلقائيًا، وكذلك هو المثال في حال حظر التصدير مثلًا على الطلاء الروسي.لذا فقد أضحت الدول كقطع الدومينو في صف النظام المالي العالمي، فإن وقعت إحدى القطع ستقع معها باقي القطع. وكلما كان حجم القطعة التي ستقع كبيرًا كلما كان التأثير أسرع وأكبر.الآن وقد قدمتُ نبذة عن النظام المالي العالمي، ندخل في صلب الموضوع. الحقيقة أن سياسات «ترامب» تعبث بشكل كبير في هذا النظام المالي الموجود والمعتمد، فهو يضرب بعرض الحائط بكل الاتفاقيات الموقعة ابتداءً من اتفاقية «نافتا» (الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، المكسيك) و «الشراكة التجارية والاستثمارية العابرة للأطلسي» (الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة) وغيرها الكثير. وذلك يدل على جهل حقيقي بالنظام العالمي لأنه وكما أسلفت كل البضائع والصناعات ترتبط بكافة الاقتصادات وليست محلية. مثال على ذلك: رفع ترامب لواردات الصلب من أوروبا بنسبة 25% (روسيا اليوم، 2018)، لكن ذلك سيعني أن البضائع التي ستدخل فيها هذه المادة سيرتفع ثمنها (كالسيارات). وقد ردت أوروبا بإجراءات خجولة أهمها رفع سعر بعض المحركات الأمريكية مثل «هارلي ديفيدسون». وقد طالت سياسات ترامب الصين، حيث كان الإجراء المبدئي ضرائب بقيمة 50 مليار دولار عليها. لكن الصين بعظمتها ردت على تهديدات ترامب برفع كبير في الضرائب أنها مستعدة لزيادةوارداتها الأمريكيةبمقدار 100 ملياردولار!لكن ماذا عن تركيا؟ الحرب الاقتصادية مع تركيا سبقتها توترات سياسية عميقة. فقد ضغطت أمريكا بقوة على تركيا لكي تثنيها عن شراء منظومة إس-400 الجوية من روسيا، وقد لجأت تركيا لهذا لرفض الولايات المتحدة بيعها منظومة الباتريوت مع التكنولوجيا الخاصة بها، على عكس روسيا التي ستبيع تكنولوجيا صناعة المنظومة لتركيا مع المعدات. وقد كان هذا بعد توتر حول تدخل الولايات المتحدة في الملف السوري عن طريق دعمها لفصائل متطرفة كجماعة «نور الدين زنكي» التي قطعت رأس طفل بعمر 12 عامًا (Reuters, 2016)، بجانب تسليحها بل وتدريبها لقوات كردية تعتبرها أنقرة إرهابية. ناهيك عن موقف تركيا العدائي من إسرائيل التي دعمت لوبياتها (أيباك) الرئيس الأمريكي إبان الانتخابات الرئاسية. أما القشة التي قصمت ظهر البعير فهي ملف الانقلاب الذي تتهم تركيا الولايات المتحدة بإيواء مخططها (فتح الله غولن)، وبالتالي موضوع القس الذي تحتجزه تركيا بداعي العمل لصالح غولن.كل هذه المؤشرات السياسية مهدت لتصادم من نوع ثقيل بين الدولتين العضوتين في حلف الناتو. وكان قد أُعلن عن التصادم من خلال العقوبات الأمريكية الأخيرة على تركيا ورفعها لضرائب بعض وارداتها. فما الذي حدث؟


الاقتصاد التركي: هزيل أم قوي؟

مع حلول يوم الرابع من أغسطس/ آب بدأت العملة التركية تهوي أمام نظيرتها الأمريكية بشكل رهيب، لتقفز تباعًا أسعار صرفها من حدود الخمس ليرات أمام الدولار لتلامس السبع ليرات بحلول يوم 13 من نفس الشهر (قرابة 5 أيام). ليستشيط الرئيس التركي غضبًا وتبدأ حرب التصريحات. اتهم البعض «أردوغان» أنه يجني ثمار عداءات دولية قد صنعها فلم يُبقِ له من الحلفاء شيئًا، واتهم آخرون الاقتصاد التركي بأنه هش وضعيف، ولذلك فقد هوت عملته لأبسط هزة. هنالك محللون ذهبوا لأسباب تتعلق بالمضاربة بعملة تركيا بقصد ضربها، فأين الحقيقة من كل ذلك؟بالنظر للوضع الاقتصادي لتركيا نرى أنه حقق مع دخول الربع الأخير من عام 2017 أفضل معدل نمو في آخر 6 سنوات بمعدل 11.6%، مع نمو سنوي للناتج القومي يصل لـ7.4%. وبهذا يكون الاقتصاد التركي الأسرع نموًا بين دول مجموعة العشرين التي تشكل 85 في المئة من الاقتصاد العالمي، حيث يبلغ متوسط معدل النمو في هذه الدول 3.8 في المئة (Trading Economics، 2018). أيضًا و وفقًا للبنك الدولي فالاقتصاد التركي هو رقم 13 على مستوى العالم من حيث الحجم، بناتج دخل قومي يصل 2.25 تريليون دولار وهو رقم قريب من أكثر دول العالم تقدمًا مثل فرنسا (2.8 تريليون) وبريطانيا (2.89 تريليون) (World Bank، 2018). وتعتبر تركيا من ضمن 11 دولة في العالم فقط ليس عليها أي دين لصندوق النقد الدولي.ما يهم أيضًا هو أن الاقتصاد التركي يعتبر اقتصادًا متطورًا لأن الصناعة تعتبر ركيزة مهمة فيه، ويقاس على أساس حجم الصناعة في الناتج الاقتصادي مدى تطور الدولة واقتصادها. فصادرات المواصلات (سيارات، قطارات، سفن) تمثل 15% من صادرات تركيا الكلية بقيمة 24 مليار دولار لعام 2017، وتتبعها صادرات المحركات بـ14% بقيمة 23 مليار دولار، ويتصدر قطاع المنسوجات بقيمة 29 مليار دولار وقطاع الصناعات المعدنية من صلب وفولاذ بقيمة 16 مليار دولار (OEC, 2018). كل هذه الأرقام تؤكد أن الاقتصاد التركي متطور ويعتمد على قواعد متينة للغاية، على عكس ما يشيعه البعض. فتركيا تصنع كل شيء من القلم للصاروخ، ويكفي أن نعرف أن 10 شركات تركية تشارك في صناعة أكثر طائرة حربية تطورًا في العالم إف-35.إن قيمة التبادل التجاري بين تركيا والدول العظمى كبير للغاية، بل إن صادراتها وحدها لهذه الدول كبيرة للغاية (ألمانيا 16.2 مليار دولار، بريطانيا 15.2 مليار دولار، أمريكا 8 مليار دولار، إيطاليا 8 مليار دولار). وهذا يعني أن اقتصادها مربوط باقتصادات كبيرة مما يعزز من مكانة الاقتصاد التركي. لذا فيمكن استنتاج أننا نتحدث عن اقتصاد متطور ومربوط باقتصاد العالم مما يعزز استقراره.


العملة ومصدر قيمتها

إذن لماذا حدث الهبوط الحاد في العملة؟ أولًا يجب أن نقول إن السياسة لها تأثير كبير على العملة. ثانيًا أن العملة لا تعبر دائمًا عن الاقتصاد وقوته، فالدينار الأردني أعلى قيمة من الدولار الأمريكي واليورو على سبيل المثال. قيمة العملة تتوقف على عدة عوامل منها عامل العرض والطلب، فمثلًا إذا كانت الدولة تبيع منتجًا ما بعملتها المحلية فالآخرون سيشترون عملتها ليدفعوا بها ثمن المنتج، وبالتالي يزيد الطلب على العملة ويرتفع ثمنها. طبعًا العرض يعتمد على مدى العملة المتوفرة، فالدولة التي تطبع كثيرًا من النقود يصبح عندها وفرة في عملتها وبالتالي تقل قيمتها.نسبة الفائدة أيضًا تلعب دورًا في تحديد قيمة العملة، فالفائدة المنخفضة تعني سهولة الاقتراض وبذلك يصبح السوق مليئًا بالعملة المقترضة. هذه الأمور طبعًا تعتمد بالأساس على حجم الاقتصاد ونموه والتضخم وفارق الصادرات والواردات. أخيرًا هنالك عامل مهم بما أن الاقتصاد العالمي مبني على هيمنة الدولار، وهو حجم احتياطي العملات الصعبة وتحديدًا الدولار بشكل خاص واليورو بشكل ثانٍ. في تركيا هنالك انفتاح شديد على السوق العالمي، مما أعطى اقتصادها زخمًا واسعًا وأدى بالضرورة لجذب الكثير من المستثمرين الذين يريدون الاستفادة من هذا الاقتصاد النامي بشكل متسارع خصوصًا في ظل ظروف صعبة لاقتصادات المنطقة (سوريا، الأردن، العراق، اليونان). لكن مشكلة الاستثمار الأجنبي أنه كثيرًا ما يكون قصير الأمد؛ بمعنى أنه حساس جدًا لأي عامل سواء اقتصادي أو جيو-سياسي.فمثلًا يهرب المستثمرون قصيرو الأمد مع بزوغ أي زعزعة سياسية مثل حدوث انقلاب أو دخول حرب أو حتى تصريحات ترامب بفرض عقوبات ما. وبذلك يتم تفريغ الاقتصاد المحلي من رأس مال كبير في فترة قصيرة، مما يؤثر بشكل سريع على الاقتصاد والعملة على حد سواء. وهذه إحدى مشاكل تركيا، أن كثيرًا من مستثمريها قصيرو الأمد. هذا بجانب أنك لا تعلم مصدر المستثمر الأجنبي، فقد يكون الكثير منه مملوكًا لدولة أخرى تسحبه في لحظة لضرب مشاريعك. وقد كان لهذا العامل دور بارز في الأزمة الأخير، ومن هنا خرجت ادعاءات أردوغان أن الأزمة مدبرة.طبعًا العامل الثاني هو المضاربة في العمل من الأساس، والمضاربة تعني شراء وبيع العملات لتحقيق ربح سريع، وهذه طريقة أخرى لضرب العملة. مثلًا لو اعتبرنا أن هنالك فقط 100 ليرة تركية في السوق واشترى أحد المضاربين 30 منها، فإن سعر الليرة سيرتفع لأن السوق أصبح فيه 70 ليرة فقط مما يعني ندرتها. ماذا لو باع هذا الرجل الـ30 ليرة دفعة واحدة؟ تحدث وفرة في الليرة وبالتالي تهبط قيمتها. وهذا السبب الثاني لاتهام أردوغان لأمريكا بضرب عملته عن طريق مضاربتها بالعملة المحلية بشكل مقصود. هذان العاملان مهمان جدًا بجانب سوق البورصة الذي يعتمد بشكل غير مباشر على هذين العاملين. وقد أدى هذان العاملان مع غياب الاحتياط من العملة الصعبة إلى الأزمة المالية الآسيوية لعام 1997، وقد انهارت الدول ذات الاقتصاد الهزيل (تايلند مثلًا) ونجت الدول القوية اقتصاديًا التي استطاعت امتصاص الأزمة (اليابان، ماليزيا).


كيف نجت الليرة؟

ولأن الاقتصاد التركي قوي ويملك بنكًا مركزيًا قويًا مدعومًا باحتياطي عملة جيد، فقد استطاع تجاوز محنته في أقل من ثلاثة أيام. فقد اقتربت الليرة من العودة إلى ما كانت عليه قبل الرابع من أغسطس/ آب. لكن على تركيا أن تعي أن عليها تخفيف الاعتماد على الدين الخارجي في شكل الاستثمارات الساخنة، وعليها تدعيم احتياطيها من العملة الصعبة -وإن كان أردوغان قد بدأ بتكديس الذهب بدلًا عن الدولار-. لكن الحقيقة أن هنالك أمورًا أخرى بجانب الشق الاقتصادي للأزمة، فقد كانت خطابات أردوغان لتحفيز شعبه على دعم عملتهم تلقى ردود فعل إيجابية وسريعة.وقد استثمر أردوغان أيضًا الهالة الإعلامية للأزمة بوضع ضرائب مضاعفة على الولايات المتحدة مما أعطى صورة لتركيا قوية بدلًا من بعض الدول التي انصاعت للضغط الأمريكي. فأردوغان استثمر غضب كل من أوروبا والصين وروسيا من سياسات ترامب الاقتصادية لحشد دعم دولي له ولعملته. وفعلًا فقد توالى الدعم من الصين وروسيا التي أعلنت أن عصر الدولار كعملة تجارية عالمية قد ولى، وحتى أن ألد أعداء «أردوغان» «أنجيلا ميركل» -رئيسة وزراء ألمانيا- سارعت لتقول إنها لن تسمح باضطراب الاقتصاد التركي، بل واتصل الرئيس الفرنسي «ماكرون» بـ«أردوغان» ليؤكد على دعمه له في هذه الحرب الاقتصادية.استثمر أردوغان أن تركيا هي بوابة لاجئي الشرق لأوروبا بل ومحطة الدفاع الأولى عن الإرهاب في نظر أوروبا، واستثمر حنق الكل على سياسات ترامب التي لم تجد من يردعها جديًا. بل إن الصين بعظمتها ردت على تهديدات ترامب برفع كبير في الضرائب أنها مستعدة لزيادة وارداتها الأمريكية بمقدار 100 مليار دولار (Wallace, 2018)!بالطبع ارتكز أردوغان على اتفاقيات مسبقة باستخدام العملة المحلية في التبادل التجاري بين عدة دول منها تركيا وإيران وروسيا والصين وقطر وغيرهم الكثير. وقد كانت خطوته بالوقوف بحزم شديد أمام ابتزازات ترامب الاقتصادية ذات مخاطرة محمومة، إلا أنه خرج منتصرًا وفي دور المنقذ الذي يقود العالم في حربهم ضد سياسات ترامب. لقد استطاع أردوغان أن يجعل أوروبا الحليف التاريخي الحميم للولايات المتحدة تقف في صفه في نادرة تاريخية ربما لم تحدث من قبل، مستغلًا بالطبع عوامل ليست من صنعه.يجب التأكيد على أن النظام المالي العالمي بدوره سيوفر حماية لقطعة الدينامو الكبيرة (تركيا) بشكل أو بآخر؛ لأن أي تأثير على اقتصاد تركيا الدولة الإستراتيجية سيعني توابع خطيرة على عدة دول مهمة. لكن في السابق تآمر هذا النظام الدولي على تايلند وماليزيا وإندونيسيا، لذا فالنظام المالي وحده ليس بضامن إلا لمن هو قوي. بالطبع استثمر أردوغان هذا النصر -الذي لم يكن ليتحقق بدون الدعم العالمي له أمام أقوى اقتصاد في العالم- محليًا ودوليًا لزيادة شعبيته. لكن مع ذلك وفي رأيي أن موقف تركيا في التصدي لأقوى دولة في العالم يعتبر شجاعًا جدًا، في ضوء تهرب أوروبا والصين من هذا الدور المضاد. أخيرًا خرج تصريح البيت الأبيض بالاستياء من العقوبات التركية التي أعلنتها أنقرة ردًا على العقوبات الأمريكية، واعتبر البيت الأبيض أن الرسوم الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة على تركيا نابعة من مصالح الأمن القومي، في حين أن الرسوم التركية انتقامية. هذه التصريحات تدل على خسارة أمريكا -الآن على الأقل- هذه الحرب المفتوحة مع تركيا، خصوصًا وأن كل حلفائها انفضوا من حولها. بل وتنصلت أمريكا عن تصريحات ترامب التي تحدث فيها عن دوره في انهيار الليرة، لتقول إن فرضها عقوبات على شخصيتين (وزيري العدل والداخلية) لا يمكن أن يؤثر على قيمة العملة التركية وأن سبب هبوط العملة لا علاقة له بالولايات المتحدة.من المبكر الحديث عن المنتصر النهائي خصوصًا أن أردوغان قال إن لتركيا خيارات تحالفية غير الولايات المتحدة وقد صدق مع دعم الظروف الدولية له، لكن هل يبقى حلفاء اليوم حلفاءً في الغد؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.