بشكل متزايد ومتتابع يستخدم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كافة الصلاحيات الرئاسية التي سيفقدها بعد أيام قليلة، على رأس تلك الصلاحيات كثيرة الاستخدام صلاحية العفو الرئاسي. ففي الآونة الأخيرة أصدر ترامب العديد من قرارات العفو عن غالبية الأفراد الذي شاركوا بصورة أو بأخرى في حملته الرئاسية.

فقد أصدر 26 عفوًا عن أسماء مختلفة أبرزهم مدير حملته السابق بول مانافورت، ومستشاره السابق روجر ستون، ووالد صهره جاريد كوشنر، تشارلز كوشنر. هذه القرارات صدرت الأربعاء 23 ديسمبر/ كانون الأول 2020، وفي اليوم السابق لها مباشرة أصدر 15 عفوًا، أبرز اسم ورد في قائمة الخمسة عشر تلك هو جورج بابادوبولوس، مساعد سابق في حملة ترامب الانتخابية، أقر بالذنب في تحقيق التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية الرئاسية عام 2016.

وفي سياق متصل بتهمة التدخل في الانتخابات الرئاسية فقد أصدر ترامب عفوًا رئاسيًا عن أليكس زوان، 36 عامًا،الذي حُكم عليه بالسجن لمدة 30 يومًا وغرامة قدرها 20 ألف دولار بتهمة الكذب على روبرت مولر، المحقق الخاص في قضية التدخل الروسي، بشأن اتصالاته مع أحد مسؤولي حملة ترامب عام 2016.

إضافة لما سبق فقد أصدر ترامب 15 عفوًا آخر عن شخصيات متفرقة، وخفف الأحكام القضائية الصادرة ضد 5 آخرين، من بينهم 3 نواب جمهوريين سابقين. كما أصدر عفوًا عن مستشار الأمن القومي السابق، مايكل فلين، الذي اعترف مرتين متتابعتين أنه كذب على مكتب التحقيقات الفيدرالية أثناء تحقيقات التدخل الروسي. وفي نفس القضية أصدر ترامب عفوًا عن مستشاره روجر ستون ما أبعده عن السجن بتهمة الكذب على محققي التدخل الروسي.

منفذ مذبحة النسور طليقًا

قرارات ترامب للعفو الرئاسي شملت حتى كتابة التقرير 80 شخصًا، لكن يُتوقع أن تستمر القائمة في الزيادة حتى اللحظات الأخيرة لتسليم السلطة لجو بايدن، الرئيس الأمريكي الجديد. من أبرز الثمانين شخصًا مجموعة أفراد يجمعهم الانتماء لشركة بلاك ووتر، وأدينوا جميعًا بتهم قتل مدنيين في العراق.

شركة بلاك ووتر هي شركة أمنية متعاقدة مع الحكومة الأمريكية، يحارب رجالها جنبًا إلى جنب مع الجنود الأمريكيين في المناطق الساخنة، وهدفها المُعلن هو ضمان مستوى عالٍ من التدريب والحماية، لكن الواقع يقول إن الشركة موجودة لتقوم بالمهام التي لا يُحب الجندي الأمريكي القيام بها، أو للقيام بالمهام التي لا يجب أن يقوم بها الجيش بصورة رسمية، مثل قتل المدنيين.

أحد المُتهمين الصارد بحقهم عفو شارك في مذبحة بغداد عام 2007، في تلك المذبحة كانت الطائرات التابعة لشركة بلاك ووتر تُحلق في سماء بغداد من أجل تأمين موكب أحد المسئولين الأمريكيين. لكن فجأة، ومن دون مقدمات أو دافع، قامت الطائرة بفتح النار عشوائيًا على المدنيين الموجودين في ميدان النسور. المدفع الرشاش المُستخدم في المذبحة مدفع حربي وليس سلاحًا يشتهر استخدامه في تأمين المواكب الرسمية، كما رافقت طلقات المدفع قنابل يدوية عشوائية وكثيفة ألقيت من الطائرة.

الحُجة كانت أن الطائرة رصدت مجموعة إرهابية تحاول نصب كمين للمسئول الأمريكي، لكن برؤية بسيطة لميدان المذبحة يتضح أنه لا يتقاطع بأي شكل مع الطريق الذي سلكه الموكب. في صبيحة اليوم التالي للمذبحة أنهت الحكومة الأمريكية تعاقدها مع بلاك ووتر، واستطاع العراق بعد عامين أن يُقدم القضية أمام محكمة فيدرالية أمريكية، وبعد 6 سنوات أخرى قضت المحكمة، أخيرًا، بالسجن 30 عامًا لبول سلو، وإيفان ليبرتي، وداستن هيرد، أما من أطلق الرصاص، نيكولاس سلاتن، فحكمت عليه بالسجن مدى الحياة.

العفو عن قاتلي مدنيي أفغانستان

عفو ترامب الكامل عن رجال بلاك ووتر، لا مجرد تخفيف الأحكام، يمكن فهمه بمعرفة أن إريك برينس، مؤسس بلاك ووتر، هو صديق مُقرب لترامب، وأحد أبرز الأسماء المتهمة في تسهيل تواصل ترامب مع الروس. كما تبرع برينس لحملة ترامب الانتخابية، وتبرع كذلك لحملة نائب الرئيس مايك بنس، وتشغل بيستي أخت إريك، منصب وزيرة التعليم في حكومة ترامب منذ اللحظات الأولى وحتى الآن.

لكن بتوسيع دائرة البحث قليلًا نكتشف أن ترامب قد أصدر عفوًا سابقًا في نهايات عام 2019 عن متهم بنفس التهمة، مايكل بيهنا. قضية مايكل بدأت عام 2008 حين قبض الأمريكيون على مدني عراقي واتهموه بالمشاركة في تفجير دورية أمريكية، لكن المُحقق قرر إطلاق سراح العراقي، علي منصور محمد، لعدم كفاية الأدلة ضده.

قائد الدورية، مايكل بيهنا، التي فُجرت وقُتل بعض أفرادها لم يرض عن القرار فاعتقل منصور لاحقًا وحقق معه منفردًا، بعد لحظات أنهى مايكل التحقيق بتفجير رأس منصور، الذي سقط على الأرض عاريًا من الملابس ومقيدًا. مايكل قال إنه فعلها دفاعًا عن النفس، وإن منصور حاول نزع سلاحه، لكن كان كذب مايكل واضحًا، فحكمت عليه المحكمة الأمريكية بـ25 عامًا.

قاد الجمهوريون حملة واسعة أسفرت عن منح ترامب عفوًا رئاسيًا شاملًا لمايكل عام 2019، بعد أن سبق وحصل على إطلاق سراح مشروط عام 2014.

القضية السابقة يشابهها قضية في أفغانستان، إذ قام ماثيو جلستين بإطلاق الرصاص على مواطن أفغاني لاشتباهه أنه يسهم في صنع القنابل، رغم أن المواطن قد أُطلق سراحه منذ بضعة أيام لعدم كفاية الأدلة ضده. كاد جلستين يُقدم للمحاكمة لكن ترامب حال دون ذلك بإصداره عفوًا رئاسيًا مباشرًا.

وفي أفغانستان أيضًا أصدر الضابط كلينت لورانس أمرًا لجنوده بقتل مجموعة من الأفغان لاشتباهه في انتمائهم لتنظيم القاعدة، فحُكم عليه بالسجن 19 عامًا، لكن أصدر ترامب في نوفمبر/ تشرين الثاني قرارًا بالعفو الرئاسي عنه. والمثل حدث مع إدوارد جالاجر، لكن جالاجر كان مُدانًا بعشر تهم كاملة، قتل عمد وتصوير المعتقلين عرايا. لكن تدخل ترامب لتبرئة جالاجر من قضايا القتل، وأثبت عليه تهمة تصوير المعتقلين عرايا، فحُكم عليه بالسجن 3 أشهر وخفض رتبته العسكرية، ثم تدخل ترامب مرة أخرى بعفو رئاسي ليُلغي حتى الأشهر الثلاثة وخفض الرتبة.

ترامب سوف يعفو عن نفسه

في الأحداث السابقة نجد أن ترامب قد تدخل في قضايا قد حُكم فيها بالفعل، وقضايا لم تُقدم للمحاكمة أبدًا، وفي الحالتين كان عفوه الرئاسي نافذًا، الأمر الذي جعل ترامب نفسه يقول في أحد تصريحاته إن بإمكانه إصدار عفو استباقي على من يرغب، مما أثار جدلًا قضائيًا لكنه لم يخلص إلى شيء، فقد قالت المحكمة إنه يمكن العفو عن الفعل الذي صدر بحقه حكم قضائي، وعن الفعل الذي لم تحدث تجاه أي إجراءات قانونية، لكن بالتأكيد لا يمكن العفو عن الفعل الذي لم يحدث أصلًا.

وهو ما يُقرر الحقيقة التي يؤكدها الدستور الأمريكي أن سلطة العفو الرئاسي هي من أوسع السلطات الممنوحة للرئيس الأمريكي، وقد قال الآباء المؤسسون للولايات المتحدة إن الهدف منها هو إظهار الرحمة، ولا يمكن لأي جهة أخرى أن تراجع العفو الرئاسي، ولا يجب على الرئيس إبداء أسباب العفو لأي فرد.

حتى أن الرئيس الأسبق بيل كلينتون أصدر عفوًا عن شقيقه روجر، الذي أدين بحيازة الكوكايين في أركنسو. وبجانبه أصدر عفوًا عن 450 شخصًا فروا من البلاد بسبب تهم التهرب الضريبي. كما أصدر جيرالد فورد عفوًا شامًلا عن سلفه ريتشارد نيكسون من كل الجرائم الجنائية التي ارتكبها أو شارك فيها أثناء فترة رئاسته.

أما ترامب وأبناؤه وزوجته فلم تطالهم أي اتهامات جنائية أو سياسية تستدعي المحاكمة ما يعني أنه لا يحتاج للعفو عن أبنائه أو عن نفسه، لكن نظريًا إذا افترضنا أن ترامب غير المنطقي في معظم تصرفاته يمكنه القيام بتلك الخطوة التي لم يسبق أن قام به أحد من قبل.

 القضاء الأمريكي لا يملك إجابة لهذا السيناريو، لكن يمكن الاستناد لمبدأ دستوري آخر يقول إنه لا يمكن لأحد أن يكون القاضي في قضيته، لذا قد يكون العفو الذاتي أمرًا غير دستوري، لكن المؤكد أنه لا أمر قاطع في تلك النقطة.