59 صارخًا من نوعية توماهوك كروزأطلقها دونالد ترامب على الأراضي السورية في السابع من أبريل/ نيسان 2017 ردًا على استخدام النظام السوري لغاز السارين ضد المدنيين في إحدى قرى محافظة إدلب، الخاضعة لسيطرة المعارضة المسلحة. استهدف القصف قاعدة الشعيرات الجوية حيث انطلقت الطائرات الأسدية المحملة بالغاز.

شكلت الضربة الأمريكية أزمة في العلاقات الأمريكية الروسية المتوترة أصلًا، لكن حديثًا أمريكيًا رسميًا تحدث عن أن العسكريين الأمريكيين قدروا المواقع الروسية جيدًا قبل الضرب، وتفادوها، ولم يُصب أيُ جنديٍ أو معدة عسكرية روسية بضرر. المستهدف الوحيد من هذه الضربة كان النظام السوري. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يستخدم النظام السوري فيها الأسلحة الكيميائية، سبق وأن استخدمها في الغوطة قبل 5 سنوات، وقبل 3 سنوات استخدم غاز الكلور، لكنها المرة الأولى في ظل الرئيس ترامب، وكان العقاب الأمريكي حاضرًا، إذن هو الرئيس ترامب مفتاح اللعبة!


«فورزا أمريكا»

يتحدث ترامب عن مجزرة دوما، فيصفها بالهجوم الفظيع، ويصف اقتحام الإف بي آي لمنزل محاميه بالهجوم على الوطن. «الهجوم» إذن هو المشترك بين كلا الفعلين المتزامنين. لا يجد ترامب في جعبته سوى المضي بالولايات المتحدة الأمريكية قدُمًا لحربٍ ما، يشغل بها الرأي العام ويتخلص من صداع الداخل. آتت الضربة الأولى ثمارها نسبيًا، وكان ترامب يرغب في أن يمحو الصورة المتخيلة عنه كدُمية لبوتين. اليوم يواجه ترامب تحديات كثيرة، إدارته الأضعف من بين الإدارات الأمريكية المتعاقبة ولا يزال يتعرض لشبح التلاعب الانتخابي.

تواجه الولايات المتحدة عداوات خارجية متعددة، روسيا والصين وإيران. ولابد لها أن تفعل شيئًا تنفي عنها صفة الضعف، إنه الأسد الهزيل من جراء الحرب الداخلية وحده يمكن أن يعيد لأمريكا هيبتها ولو بشكل صوري. كذلك فإن لقاءً مرتقبًا بين الغريمين ترامب وكيم جونج أون مايو/ آيار المقبل، يُفضل أن تظهر قبله الولايات المتحدة عينًا حمراء.

المؤكد أن ترامب لا يمتعض لمشاهد الأطفال السوريين، ولا يأبه بالمدنيين المحاصرين، لاسيما وأن جُل أتباعه من المستبدين، سافكي الدماء. وصفه للأسد بـ «الحيوان» لا يتعدى كونه دعائيًا أكثر منه حقيقيًا. الحقيقي في كلام ترامب أن سلفه أوباما لو كان تدخل في مرحلة مبكرة من الأزمة السورية لكان هناك حديثٌ آخر. الفراغ الذي خلقته الولايات المتحدة في سوريا حفّز الروس للتدخل وملء الفراغ، وترجيح كفة النظام المتداعي قبل التدخل الروسي المباشر.


واقع سوريا

تغاضيًا عن مآرب الرئيس ترامب من وراء تصعيده، ورفع سقف الرد الأمريكي حد تحميل كل من الرئيس الروسي والإيراني مسؤولية تجاوزات النظام، و توعده المسؤولين الروس بأن يستعدوا فالصواريخ في طريقها إلى سوريا، هل يؤدي التدخل الأمريكي المحتمل إلى تغيير حقيقي في خارطة الصراع السوري؟

سيناريوهات ثلاثة وضعها ماكس فيشر في مقالةٍ له أول أمس. أولها أن يكرر ترامب فعلته السابقة، بضربة انتقائية تأديبية لنظام الأسد تكون الكُلفة فيها ضئيلة على الجميع، بما فيهم نظام الأسد. السيناريو الثاني، أن يتورط الرئيس الأمريكي بشن هجمات متتابعة، تقوّض القدرة العسكرية لنظام الأسد. وهذا سيُقحمه بالطبع في صدام مع الحلفاء، روسيا وإيران. السيناريو الثالث، أن تعمد أمريكا إلى تسليح المعارضة ورفع كفاءتها للتصدي لهجمات الأسد.

لا تبدو دوافع ترامب سالفة البيان كافية لإشعال حربٍ كبيرة، لن يكون الأسد ونظامه ضحيتها الوحيدة. صحيح أن النبرة الأمريكية عالية، أو بالأحرى نبرة ترامب، وهذا متفهم، والنبرة الروسية المعاكسة عالية هي الأخرى،توعدت بالرد على مصدر إطلاق الصورايخ متى أُطلقت، لكن سيناريو مشابه لما حدث العام الماضي يمكن أن يجعل الأمور تمر بسلام. ضربة انتقائية وسريعة لأجناد من حزب الله والحرس الثوري مع ضباطٍ من جيش الأسد، وهو ما يتماشى مع تصريح ترامب الشهر الماضي، من ولاية أوهايو، بأنه قريبًا سيسحب الجنود الأمريكيين من سوريا -يقدر عددهم بحوالي 2000 مقاتل-. لا يفوتنا التذكير بأن الوجود الأمريكي في سوريا متركز في أربع نقاط رئيسية تدعم الأهداف الاستراتيجية الأمريكية؛ في محافظة دير الزور التي تحتوي على أكبر الحقول النفطية في سوريا، وشرقي حلب لدعم قوات سوريا الديمقراطية، شرقي الفرات لقطع أحبال التواصل الإيراني عبر الحدود العراقية السورية، وفي الجنوب للقضاء على تنظيم الدولة.

ستكون مغامرة أن يرسل ترامب مقاتلات جوية هجومية، سيكون إسقاطها ممكنًا وتكلفتها باهظة، ماديًا ومعنويًا، يمكنه فقط أن يزيد من أعداد الصواريخ المعدة لهذه المهمة.

الاختلاف الآخر الذي متوقع أن يصبغ العملية المنتظرة، المشاركة الدولية، وتحديدًا الفرنسية والبريطانية. تيريزا ماي من برمنجهام تؤكد للصحفيين أن الفعلة الأسدية لا يمكنها أن تمر دون رادع، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هو الآخر يهدد بتحرك فرنسي يراعي الوجود الروسي. وأيًا ما ستسفر عنه الساعات القليلة القادمة، بينما يحبس العالم أنفاسه على وقع تهديدات ترامب، لا يبدو الظرف السوري الحالي رهن التغيير، حمم بركان السياسة الأمريكية فقط تفور على سوريا، وليس على الأسد وحلفائه إلا ضبط النفس والاحتفاظ بحق الرد لإشعارٍ آخر.