ما إن أُقيمت الانتخابات الرئاسية التونسية وفاز قيس سعيد المرشح المستقل بأغلبية الأصوات وبنسبة 76.9% من تعداد المصوتين، حتى ظن التونسيون أنها لحظة مفصلية في تجربتهم الديمقراطية، مواتية لاستقرار النظام السياسي والتفرغ للملف الاقتصادي المُتأزم منذ سنوات، خاصة في مناطق الجنوب التي تُعاني الفقر المُدقع، وهو ما جعل منها حاضنة رئيسية للثورة التونسية.

لكن حملت النُخبة السياسية التونسية للجماهير همومًا لم تكن في الحُسبان، أوصلت البلاد لأزمة دستورية حادة، تعيشها تونس اليوم.

بداية الأزمة

رغم أن الرئيس قيس سعيد هو من اختار هشام المشيشي لتشكيل الحكومة التونسية، لكن يرى بعض المحللين أن خلافات لم يُعلن عنها كانت السبب في تخلي الرئيس عن دعم حكومة المشيشي، بل وتراجعه الكامل عن دعمها، ما وصل إلى طلبه من بعض القوى في البرلمان بالتصويت ضد الحكومة التي شكلها المشيشي.

تلقفت الكتلة الأكبر في البرلمان التونسي المكونة من حركة النهضة وحزب قلب تونس خلاف سعيد مع المشيشي، وأقامت تحالفًا مع المشيشي، ودعمته في سحب الثقة من عدد من الوزراء المفروضين عليه سابقًا من الرئيس سعيد، ومنهم وزير الثقافة وليد الزيدي. وأكمل رئيس الوزراء تخليص حكومته من كل الموالين للرئيس سعيد فقام مع بداية 2021 بإقالة وزير الداخلية توفيق شرف الدين المحسوب على الرئيس، والمقرّب منه.

بينما جاءت الشرارة الأكبر في هذه الأزمة في يناير/كانون الثاني من العام نفسه حين أعلن المشيشي إجراء تعديل وزاري جاء بناءً على طلب الأحزاب الداعمة للحكومة مُمثلة في تحالف النهضة وقلب تونس. وهي الخطوة التي اعتبرها سعيد إخلالًا بالدستور الذي يقضي بأن تُعقد مشاورات بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة عند إجراء تعديل كهذا، ورفض سعيد قيام الوزراء بأداء اليمين أمامه في قصر قرطاج، ولم يُصدر مرسومًا بتعيينهم في مناصبهم.

ورغم اعتراضات سعيد وتأكيده أن الوزارء المقترحين في التعديل تحوم حولهم شُبهات فساد وتضارب مصالح، فإن البرلمان تجاهل اعتراضات سعيد وصادق بالأغلبية على التعديل الوزاري. وطلب المشيشي من الرئيس ذكر أسماء الوزراء الذين تحوم حولهم شُبهات الفساد، لكن لم يُقدم الرئيس هذه الأسماء. وفي فبراير أقدم المشيشي على خطوة تصعيدية أخرى بقيامه بإقالة خمسة من الوزراء المحسوبين على الرئيس.

ومن جانبه أصر سعيد على قراره برفض أداء الوزراء لليمين أمامه، وفي خطوة تصعيدية، أعلن سعيد في الاحتفال بتأسيس الجيش الوطني عن أنه هو القائد لجميع القوات العسكرية والمدنية الحاملة للسلاح. فكانت هذه التصريحات القشة التي قصمت ظهر البعير، بعير النهضة التي أظهرت خلافها مع الرئيس إلى العلن، رغم محاولتها لإخفائه منذ فترة، ورأت في التصريحات رغبة تسلطية من الرئيس وخطرًا على الديمقراطية.

أزمة دستورية حادة

نتج عن المكابرة السياسية بين أطراف النزاع في تونس أزمة دستورية حادة، حول تأويل الدستور. وتتمثل الأزمة في ثلاث قضايا أساسية، الأولى تتعلق بصلاحيات الرئيس والبرلمان ورئيس الحكومة في تشكيل الوزارة والإشراف عليها.

والثانية حول تأسيس المحكمة الدستورية، حيث لم تتفق الأطراف المختلفة على تشكيل المحكمة منذ العام 2014. يعتبر بعض المحللين غياب المحكمة الدستورية السبب الرئيسي في الأزمة الحالية، فالخلافات حول تأويل الدستور كان للمحكمة الدستورية أن تبت فيها حال وجودها، لكن مع غيابها لا يوجد من يفصل في النزاعات الدستورية الحالية بين الأطراف المتصارعة.

وتتعلق القضية الثالثة بتصريحات سعيد حول كونه القائد الأعلى للقوات المدنية والعسكرية الحاملة للسلاح، حيث يؤول سعيد الدستور على هذا الشكل، بينما يرى رئيس الوزراء وكذلك حركة النهضة والغنوشي أن الرئيس يتعدى على الدستور بهذا التأويل وبأن الدستور إنما نص على أن رئيس الحكومة هو قائد القوات المدنية الحاملة للسلاح، بينما الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية. يُضاف على ذلك رغبة سعيد التي أعلنها مؤخرًا في تغيير النظام السياسي التونسي، وتغيير النظام الانتخابي، حيث يأمل سعيد بالنجاح في تعديل الدستور لتحويل النظام السياسي من نظام مختلط، إلى نظام رئاسي يكون لرئيس الجمهورية فيه صلاحيات أكبر في تشكيل الحكومة وإدارتها.

صراع على تأويل الدستور أم على السلطة؟

يرى بعض المُحللين أن الصراع الحالي في تونس وإن بدا للوهلة الأولى دستوريًا يتعلق بتأويلات مُختلفة للدستور بين الأطراف المتنازعة، إلا أنه يُخفي وراءه صراعًا أعمق يتعلق بالأساس بالصراع على حصة كل طرف من السلطة، فبينما يرغب الرئيس سعيد في زيادة صلاحياته في تشكيل الحكومة واختيار وزرائها فإن النهضة في المُقابل ترغب بالحفاظ على مكتسباتها الانتخابية، والتمسك بحقها في تشكيل الحكومة كونها مع حزب قلب تونس يُمثلان الكتلة الأكبر في البرلمان.

ويُنظر إلى تحركات عبير موسى، رئيسة كتلة الحزب الدستوري الحر، وبعض النواب الآخرين الطامحين في إسقاط البرلمان أو حله عن طريق الاعتصام وتعطيل أعماله، كمحاولة لتحقيق ما لم يُمكن تحقيقه في صناديق الاقتراع. فكثير من الأحزاب السياسية غير راضية عن نتائج الانتخابات، حيث فشل البعض من خلالها في دخول البرلمان، أو تمكن البعض الآخر من الدخول لكن حصوله على عدد قليل من المقاعد جعله غير فاعل في البرلمان والمشهد السياسي.

معركة صفرية

تبدو المعركة السياسية في تونس مع تطوراتها المتلاحقة كمعركة صفرية لتكسير العظام بين الرئاسات الثلاثة، حيث لا تنازلات تُطرح في أفق الأزمة لتُحرك المياه الراكدة، فالأطراف المتنازعة لم تتفق إلى الآن على صيغة توافقية لإقامة حوار وطني، حيث وضع الرئيس سعيد شروطًا مُسبقة لهذا الحوار، واشترط موافقة الأحزاب عليها قبل الدخول في الحوار، وهي الشروط التي رفضتها النهضة، مع أنها ثمنت دعوات الحوار واعتبرت أن أي خطوة نحو الحوار وحل الخلاف هي خطوة إيجابية.

فيما يُعول البعض على الاتحاد التونسي العام للشغل للقيام بدور فعال في حل النزاع بين الأطراف المتصارعة، كما كان الحال أعقاب الثورة التونسية، حيث يرى محللون أن الاتحاد ورغم ما يعتريه من مشاكل، لكنه يظل ذا قبول كبير بين التونسيين، لذا هو قادر بهذا القبول على الضغط على الأطراف المتنازعة للقبول بالحوار والوصول لصيغة توافقية لحل الأزمة الحالية.

مخاوف على التجربة الديمقراطية

أعادت الأزمة الدستورية الحادة في تونس الخوف من جديد على مسار التحول الديمقراطي، خاصة الخوف من الخطر الأكبر الذي واجه الثورات العربية والكامن في تيارات السلطوية الراغبة في إعادة الأنظمة الاستبدادية التي ثارت عليها الشعوب، مستثمرة في الأزمات الاقتصادية والانفلاتات الأمنية التي أعقبت الثورات. حدث هذا في تونس على مدار العشر سنوات الأخيرة، ونشطت هذه التيارات بشكل فعال لتحقيق مآربها، مُعولًة على أمل تدخل داعم يأتي من الجيش التونسي، وهو ما لم يحدث نظرًا للموقف الأولي الذي اتخذه الجيش بعدم التدخل في الخلافات السياسية بين الأطراف المتصارعة.

في الأزمة الدستورية الحالية تزداد المخاوف على الانتقال الديمقراطي، حيث يرى البعض أن التحركات الهادفة إلى إسقاط البرلماني التونسي عبر الاعتصام والتظاهر، هي ردة على المسار الديمقراطي واختيار الجماهير التي أفرزت هذه المؤسسات الدستورية.

المخاوف ازدادت أيضًا مع إعلان سعيد أنه القائد الأعلى للقوات المدنية والعسكرية، ما عدته النهضة وبعض الأحزاب الموالية لها ديكتاتورية تنمو ببطء في الظلام داخل قصر قرطاج. في حين رأى مؤيدو الرئيس سعيد أن الأمر أبعد ما يكون عن السلطوية وأن ما تقوم به النهضة ومشتقاتها ما هو إلا حملة شعواء على الرئيس لفتحه لحزمة من ملفات الفساد وقضايا تمويل الإرهاب، وهو ما من شأنه أن يُهدد النهضة وحلفاءها.

بينما لا تتوقف بعض الحركات الثورية عن اتهام النهضة والغنوشي بالسيطرة على مفاصل الدولة، والاستئثار بالحكم، وترى في سياسات النهضة في الحكم مجرد استبدال لسياسات الحكم السابقة مع تغيير فقط في الأشخاص. وتدعو هذه الحركات لتغيير النُخبة السياسية الحالية بالكامل.

التداعيات الاقتصادية للأزمة الدستورية

في تونس تزداد الحاجة لإحداث عدالة اقتصادية خاصة في الجنوب التونسي الذي يعاني من الفقر المدقع والأزمات الاقتصادية.

إلا أن الأزمة الأخيرة أظهرت وكأن النُخبة السياسية التونسية نست أن الثورات العربية إنما بدأت كاحتجاج اجتماعي وليس كثورات سياسية. حيث لم تقم أحزاب سياسية للتحضير لقلب نظام الحكم في البلاد العربية، بل كان ما حدث في جانب واسع منه هو احتجاجات اجتماعية أغلبها لأهداف اقتصادية كالبطالة وتدني الوضع الاقتصادي وغياب العدالة الاجتماعية.

فالجماهير التونسية غير المؤدلجة سياسيًا لصالح أحد الأطراف المتصارعة لا تعنيها في النهاية المصالح السياسية وصراع الأحزاب على السلطة، بقدر ما يعنيها بالأساس النجاح في الملف الاقتصادي المتأزم. والذي زاد تأزمه مع فيروس كورونا، والأزمة الدستورية الأخيرة، التي عطلت عمل الوزارات ومؤسسات الدولة.

للحظة كتابة هذه السطور، يبدو أن لا أفق منظور لحل الأزمة التونسية الحادة في البلاد، فلا الأطراف المتصارعة تقبل بالجلوس للحوار، ولا يظهر أنها توافق في المدى القريب على تقديم تنازلات لتسهيل التوافق. رغم أن الأزمة تُلقي بظلالها على الأحوال الاقتصادية للتونسيين وتزيد من معاناتهم بشكل هائل. لكن يُعلق البعض الآمال على لقاء سعيد والغنوشي الذي تم في الشهر الماضي، والذي جاء بعد 6 أشهر من الانقطاع، ليُمثل بادرة لانفراجة في الأزمة بين الأطراف المتنازعة.