في الثامن عشر من مارس/آذار من كل عام، تمرّ علينا ذكرى النصر الأخير في إحدى المعارك الإسلامية الحقيقية التي وقعت بين قوة الإسلام وتلك القوى التي تبغي الشر وتمكر به ليل نهار. في هذا التاريخ المجيد عام 1915 الذي يعبر عن آخر انتصار على ثغر من ثغور الإسلام، انتصر الجيش العثماني على الإنجليز والفرنسيين في معركة جناق قلعة. في نفس اليوم من هذا العام، يتحقق أحد أهم الأهداف العسكرية للدولة التركية في الشمال السوري، وهو تحرير مركز عفرين من سيطرة القوات الكردية على يد الجيش التركي بالاشتراك مع الجيش السوري الحر.

مع تحقق هذا الهدف، يأتي الحديث عن مدى المحافظة على هذه المنطقة بمنع وجود الفوضى فيها، بحسن إدارتها واختيار الكفاءات من أبناء المنطقة بالدرجة الأولى، إن وجدوا. وبالرغم من وجود الخبرة في التعامل مع المناطق المحررة من عملية درع الفرات، فإنه يشكل تحديًّا مهمًا أمام تركيا، ومقابل ذلك؛ تأتي الأفواه المبيعة التي تحومُ متحدثةً بالترهات التي تؤمن بضم تركيا لهذه الأقاليم لأراضيها، والتي تصوره على أنه احتلال!

إن لجأنا إلى تعريف كلمة احتلال، فلسوف نفهم موقع تركيا من هذه الكلمة التي تحركها الكثير من الأقلام المأجورة، والتي هي بذاتها من صنيعة الاحتلال والاستعمار بنفس الوقت! والتي ليست لديها أدنى محاولة لتنمية دولها والقيام بذاتها، فهذا تناقض صارخ عندها.

إن المستنتج من تعريف الاحتلال؛ أنه فعل يفرضه القوي على الضعيف، وبعد ذلك يقوم القوي باستغلال مصادر البعث في الضعيف، ومن ثم يمنعه من النهوض بعدها، ويبذل الجهد في عدم محاولته النهوض. وتركيا بعيدة عن كل تلك الأوهام الاستعمارية، فإن نظرنا إلى خارطة القوى في سوريا، فإننا نجد نمطين إقليميين فيها، الإيراني الذي بنى سياسته على ركيزتين، حماية النظام المستبد واستجلاب ميليشيات، والتركي الذي عاكس تلك السياسة بالضرورة.

إن ضرورة الواقع الذي فرض على السياسة التركية حماية حدودها الجنوبية، من بعد حصول الكثير من الهجمات الإرهابية هناك، هذا غير المحاربة الحثيثة لهذه التنظيمات التابعة لحزب العمال الكردستاني على مدى عقود طويلة في الداخل، يقابل ذلك التفرق المزعج الموجود في الجيش السوري الحر، وإن صح القول، الجيوش السورية الحرة، والتي كانت في جبهة داخلية لوحدها أمام جند النظام وأعوانه، كانت في جبهة أمام كل هذه الجيوش مع تفرقها في هذه المواجهة، مما سبب أزمة جعلت ميزان الجبهة المضادة للنظام، المتمثلة بالدرجة الأولى بالجار الإقليمي، تركيا، تحقق أهدافها بشكل يتغول على أهداف ذات الجيوش السورية الحرة.

هذا الظرف الحساس، جعل الصديق المتردد والعدو لتركيا، يتحدثان عن دورها في سوريا، وخصوصًا مع تحقيق جزء مهم من أهدافها في عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون، وما إذا كانت هذه الأهداف حققت فعلًا النصر بشكل أكبر للطرف التركي، دون الطرف الخاص بالثورة السورية.

من الطبيعي أن يأتي الحديث عن هذا الدور بعد وجود منطقة الفراغ التي تكونت نتيجة التخلص من طغيان تنظيمات العمال الكردستاني، فكل نجاح يأتي، يُنسِي ما قبله من صعوبات ومشقات، إلى حين بروز مشقات جديدة تُنسى، حتى خروج نجاح جديد، فمن كان يتوقع إخلاء مناطق درع الفرات وغصن الزيتون من هذه التنظيمات الكردستانية اللاتي تعبث بهنَّ أصابع أمريكا وروسيا وإيران، ومن أصابته النشوة منها من بعض دويلات الإقليم.

يبدو أن النظر في تفكيك الجيش السوري الحر، وأسباب التفرق الموجود في جبهاته المختلفة سواء كان الجهات الداعمة، أم الأفكار الاعتقادية الحاوية فيه الدينية وغير الدينية، تجعلنا نفهم أسّ المشكلة التي تحقق إطفاء النار من جذرها، وليس إطفاءها من ألسنتها بشكل غير مجدٍ، يعني بلغة أوضح، هل ميل الأهداف الاستراتيجية على الساحة السورية، للطرف المضاد للنظام السوري، إلى الجانب التركي دون الجيش الحر، هو بذنب تركيا، أم أنه بتقصير ونقص من الذات؟

هذا ما يجب البحث فيه حتى نكون واعين بالتطورات العسكرية والسياسية في هذه الثورة المجيدة، التي تحققت بعد عقود طويلة من الاستبداد، فهل ننتقل من استبداد النظام السوري الطاغي، إلى استبداد الفوضى يا ترى؟

إن الموازين المختلفة في الساحة السورية يضغط كل منها على الآخر، والطرف الأقوى هو الذي يحقق الضغط الأكبر، وبالتالي تحقيق الأهداف الأكبر له، وكما كانت تركيا تقوم بالضغط على الطرف الأمريكي في الساحة السورية، بأن تحقق نجاحها في درع الفرات وغصن الزيتون، كان يجب على الجيوش السورية الحرة، التي تريد مواجهة جبهات النظام، أن تضغط بدورها لتحقيق أهدافها المرادة، وهذا هو الواجب الذي نتحدث عنه، عند الحديث عن المنافسة بين الأطراف المضادة للنظام، تركيا والجيوش السورية الحرة، هذا إن كانت المسامير الكثيرة تستطيع خرق الجسد المجتمعة عليه!

فلوم تركيا أو الحديث عن عبث إيران أو روسيا هو أمر هروبي، وتحقيق التنافس بين تركيا والجيوش السورية الحرة، في التخلص من طغيان النظام، لجعل مجموع الأهداف تميل إلى ناحية الثورة، وبالخصوص لطرفها الممثل بالجيوش السورية الحرة، هو واجب على هذه الجيوش بالدرجة الأولى، وليس على تركيا، والتي من غير المنطق تحميلها المسؤولية التامّة على هذه الثورة، بحيث إنها تمثل موقعًا استراتيجيًّا، لها تحالفات ومجموعة مهمة من المصالح مع دول مختلفة، تجعل من النظرة الواقعية بمكان النظر فعلًا، إلى أنه من الصعب أن تخدم الثورة السورية أكثر من أهلها!

إن الفوضى الموجودة في سوريا تشبه إلى حد ما الذي يحصل في ليبيا، والتي تعتبر بلد المليون حافظ، أي أن سدس السكان حافظين! الحافظين لماذا؟ طبعًا للقرآن الكريم، انظروا إلى حالها الآن! فوضى مشتتة، يا ترى لو نريد تقديم النقد الذاتي في هذه المسألة، من بعد الحديث عن المؤامرات والتحالفات الكثيرة، سنقول هل فُهم معنى حفظ القرآن؟ هل معنى الحفظ هو البصم عن ظهر قلب، أم هو الفهم والعمل؟

من المؤكد أن الإجابة عن هذا السؤال تعطينا فهمًا جيدًا عن حال النقد الذاتي في ليبيا، ومثل ذلك في سوريا، فهل المجتمع الذي تربّى على يد «حسن حبنكة الميداني» و«عبد الكريم الرفاعي» و«محمد صالح الفرفور» وغيرهم – رحمهم الله – كانت مصدر إلهام جيد وجدّي للثورة السورية بتربية جيل واعٍ للحياة السياسية؟ وغيرها الكثير من الأسئلة المهمة، فهذه الأسماء الكبيرة كانت مؤثرة منذ الاحتلال الفرنسي لسوريا، وحتى نظام الأسد الحالي، توجب علينا إعادة النظر في آثارهم في سوريا بشكل عميق.

من هنا نتحدث عن دور العلماء في سوريا وفق هذه الفترة، فهل كان سلبيًّا مدمرًا للشعب من أصله؟ أم أن الساسة نجحوا في تحطيم دور العلماء الأصيل في تقديم الوعي الكافي والحقيقي للحياة السياسة؛ من أجل رسم مسار علماني في فصل الدين عن الحياة السياسية، بدعم واضح جدًا من قبل هؤلاء العلماء، الذين – من الغريب – إن سمعوا كلمة العلمانية، ترتجف أجسادهم منها، وهم لا يدرون أنهم متوحلون فيها، بعدم تقديمهم الوعي السياسي الحقيقي للمجتمع، وعدم تقديمهم النقد الواعي للحاكم العلوي، ومن ثم يأتون ويقولون كيف تتفرق المعارضة وتدمر الثورة من الداخل! هذا إن اعتمدنا على نظرية أن العلماء يجب أن يكون لهم دور مهم في تنمية المجتمع، على الأقل في النظرية الإسلامية، التي تنادي بأن يكون للعلماء دور مهم كأحد أطراف أولي الأمر، الذين تجب طاعتهم، وأن الساسة قاموا بتقزيم دورهم!

لو قدمنا طرحًا علمانيًّا من الأصل، بالقول إن المؤسسة الدينية لدى المسلمين فاسدة، فإننا سنقول أنه لا فائدة من الأصل من الحديث عن وجود دور لهؤلاء العلماء، وأن السبب في فساد المعارضة الداخلية، العسكرية والسياسية، هو الطمع والفساد النفسي والاجتماعي، وكل ما يتبع ذلك من نظر مادي.

من خلال هاتين النظريتين؛ نفهم وجود سبب عميق قد أدى إلى الضعف في الثورة السورية، وهذا بالفعل ما حصل، إذ بدلًا من تقديم ذرائع سياسية سطحية، يجب النظر في الأصل المجتمعي للقضية السورية، ومعالجته، وعدم تكراره، وهذه المعضلة العميقة، تحتاج إلى خطط سنوات على الأقل، جيل واحد، من أجل البدء في إرجاع الأمور إلى النصاب الأصلي.

مجرد حصول هذه الثورة المباركة، هو ضربة عصا على الرأس واستيقاظ من السكر الذي يعاني منه مجتمعنا السوري، ننتظر في المستقبل أن يؤتي أكله لعدم تكرار مثل هذه الدراما المجتمعية المؤسفة. في سوريا وفي غير سوريا فبلادنا كلها واحدة!

بالحديث عن الدور التركي في الثورة السورية، وعند تحقيق هدفيها العسكريين، درع الفرات، وغصن الزيتون، يأتي الحديث عنه بالنسبة لبعض الدول التي لا يعجبها هذا الدور على أنه مشبوه، وأنه مشروع لاحتلال، وغيرها من الترهات، وهم الذين لا ينظرون إلى دورهم اليوتيوبي الوردي في القضية السورية! فإما هم مخربون عابثون في سوريا، كأحلاف النظام، أو أنهم خاملون يزيدون من حالة تكريس وترسيخ الدور السلبي في هذه الساحة الاستراتيجية متعددة الأبعاد.

لذلك فإن ترك الانتباه إلى السبب الحقيقي الذي جعل الثورة تتفرق، كما هو الواقع، من الداخل، والذي نتمنى التخلص منه بأسرع وقت، أو عدم النظر إلى واقعية الدور التركي في سوريا، بمثابة أنها جار، يحاول التسديد بين سياسته الداخلية، وكذا الدولية، بالنظر إلى القضية السورية، فإن في مجرد رمي التهم على تركيا، أو عدم مواجهة سياسات أحلاف النظام السوري بالشكل الفعّال، أو معالجة الداخل النفسي السوري وفق المسار السليم، فإن ذلك لا يؤدي إلا إلى المزيد من السخط في المسألة السورية ورميها بالوحل.

طبعًا ستأتي الأبواق السياسية الإقليمية بعدها لتتحدث عن دور مشبوه لتركيا لا يعجبهم، من أجل تغطية أعمالهم الكاسدة الفاسدة في بلادهم لتخدير الشعوب بالمال وعلماء السلطة المزورين؛ ذلك لأنهم لا يريدون تسليط الضوء على أس المعضلة، ورأس المشكلة، وهم يرتجفون حينما يقال لهم، إن سوريا ستحكم بالشورى والديموقراطية. ولأن دولهم بالعمق تعاني من نفس المشكلة الداخلية التي تحاول إحباط هذه الثورة المبجلة.