تتهيأ تركيا نهاية الشهر الحالي لأول انتخابات بلدية/ محلية بعد إقرار النظام الرئاسي، وفي ظل متغيرات عدة، أهمها الأزمة المالية التي ما زالت أنقرة تواجه ارتداداتها على الشارع، ما يجعل المنافسة القادمة أكثر من مجرد انتخابات محلية عادية.وهو أمر يفسر لماذا يخطب القادة السياسيون – لا سيما أردوغان – يوميًّا في أكثر من محافظة، ويعملون على الاستفادة من كل وأي تفصيل يمكن أن يخدم الحملة الانتخابية، ولماذا تبدو المنافسة ساخنة ومحتدمة رغم أنها على البلديات، ولماذا تحمل المعركة الحالية طابع الاستفتاء على النظام الرئاسي والتحالفات القائمة وقيادات الأحزاب وغير ذلك.


الثقافة السياسية

تتمتع تركيا بموقع جغرافي وسطي بين الشرق والغرب، أو بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، وهي كما قال أحمد داود أوغلو دولة شرق أوسطية بمقدار ما هي دولة أوروبية. لكن يبدو أن هذه «الوسطية» أو الوضع الوسط هو قدر تركيا فيما هو أكثر وأعمق من موقعها الجغرافي، حيث ينسحب ذلك على اقتصادها وقدراتها وتجربتها الديمقراطية، ليبدو كل ذلك وسطًا بين غرب متقدم وشرق أوسط متأخر.يبدو المشهد السياسي التركي شرقيًّا بامتياز، بحيث يُنظر لرئيس الحزب على أنه «القائد» و«الزعيم»، وبحيث تدين له بالولاء النخبُ الحزبية والكوادر والأنصار، ويغيب النقد – العلني على الأقل – ويبدو الحزب كله موحدًا خلف هذا «القائد»، ولا تكاد الصورة تختلف كثيرًا في كل الأحزاب بمختلف مرجعياتها وأفكارها وبرامجها.يتضح جزء من هذه الصورة بمدة مكوث الرؤساء على كرسي قيادة الأحزاب، والتي تطول كثيرًا في معظم الأحيان ولا تنتهي غالبًا إلا بالموت أو الانتقال لرئاسة الدولة، كما حصل سابقًا مع سليمان دميريل وتورغوت أوزال. فأرودغان ما زال على رأس حزبه العدالة والتنمية منذ التأسيس عام 2001 باستثناء ما بين 2014 (تاريخ انتخابه رئيسًا) و 2017 (تاريخ الاستفتاء على النظام الرئاسي)؛ لأن الدستور كان يحظر ذلك، وهي فترة كان الحزب يعلن صراحة خلالها أن أردوغان هو «القائد الطبيعي للحزب»، وإن لم يكن رئيسه دستوريًّا.أما رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو فيتربع على كرسي الرئاسة منذ 2010، حين انتخب بديلًا عن دنيز بايكال المستقيل بعد فضيحة جنسية سربت له، والذي – أي كليتشدار أوغلو – ما زال متمسكًا بالكرسي رغم هزيمته في كل الاستحقاقات الانتخابية التي خاضها ضد أردوغان والعدالة والتنمية، ورغم المطالبات بالتغيير داخل حزبه، والتي تبلورت في أكثر من مؤتمر عام استثنائي.كذلك يستمر دولت بهجلي في قيادة حزب الحركة القومية منذ 1997 بعد وفاة رئيسه المؤسس ألب أرسلان توركيش رغم الاحتجاجات والاعتراضات الواسعة التي واجهها، والتي أدت في النهاية لانشقاق عدد من القيادات وتأسيسهم الحزب الجيد بعد أن فصلهم هو نفسه من الحزب. ولا يتغير رئيس حزب السعادة (ومن قبله كل أحزاب التيار الوطني) إلا بالموت أو الحظر السياسي، ويبدو حزب الشعوب الديمقراطي استثناءً لهذه القاعدة، وإن كان من أهم أسباب ذلك الأوضاع القانونية لرؤسائه وكوادره.


قانون الأحزاب السياسية

ليست الثقافة السياسية السبب الوحيد لقوة رؤساء الأحزاب وبقائهم في مناصبهم لفترة طويلة، بل ثمة ما يمدهم بالقوة وأسباب البقاء ضمن الدستور ومختلف القوانين.تتفق الأحزاب السياسية الرئيسة في تركيا على حاجة البلاد لدستور مدني يحل مكان الدستور العسكري ساري المفعول – رغم عديد التعديلات – منذ 1983، ولكنها لم تستطع حتى اليوم التوافق على صياغة ذلك الدستور المنشود. ويأتي قانون الأحزاب السياسية – مع قانون الانتخاب – في مقدمة القوانين التي تتفق هذه الأحزاب على ضرورة تغييرها وتطويرها.النقد الرئيس الموجه لقانون الأحزاب أنه لا يفرض أو يشترط ديمقراطية داخلية في أطر الأحزاب السياسية، ويعطي صلاحيات واسعة رؤساء الأحزاب في مختلف المساقات، ومن ضمنها اختيار مرشحي الحزب للانتخابات البرلمانية ومثلها البلدية.فالمادة 37 من قانون الأحزاب السياسية رقم 2820 لا تشترط على الأحزاب إجراء انتخابات داخلية أو أولية لاختيار مرشحيها للانتخابات البرلمانية – وإن كانت تتيح ذلك قانونًا – وإنما تفرض فقط اختيار المرشحين ضمن «أسس حرة ومتساوية وفق مبدأ الاقتراع/الاختيار السري والإعلان العلني»، بينما تترك للوائح الأحزاب الخاصة وأنظمتها الداخلية ترتيب تلك التفاصيل والأدوات. ولذلك، مثلًا، تجري بعض الأحزاب انتخابات داخلية أو استشارات أو استطلاعات رأي أو مقابلات … إلخ، لكن باعتبارها أدوات مساعدة ومساندة للاستئناس، وليست ملزمة بالقطع لصاحب القرار الأخير: قيادة الحزب أو بالأحرى الرئيس. ويخضع اختيار مرشحي الأحزاب للانتخابات البلدية لنفس المادة 37 من قانون الأحزاب السياسية رقم 2820، فكيف ينعكس ذلك على مختلف الأحزاب؟


الارتدادات

قد لا يستقيم أكاديميًّا إطلاق اسم «الحزب الحاكم» على العدالة والتنمية بعد الانتقال للنظام الرئاسي، لكنه مصطلح شائع لوصف الحزب بعد كل هذه السنوات من الحكم المستمر وهيمنته على الحياة السياسية التركية وفوزه بالمركز الأول في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وفي ظل انتخاب رئيسه لرئاسة الدولة. وبالتالي يمكن رصد ارتدادات قانون الأحزاب السياسية وقانون الانتخاب على حزب العدالة والتنمية باعتباره «الحزب الحاكم» من جهة، وعلى حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة ممثلًا عن الأخيرة من جهة أخرى.يشترك الحزبان في هذه المعادلة في أمرين، النصوص القانونية التي تحكم عملية اختيار المرشحين، وقوة الرئيس في الحزبين (وباقي الأحزاب) على مختلف الصعد وبصلاحيات واسعة وأدوات عديدة للتحكم في كثير من القرارات، بدءًا من اختيار رؤساء فروع الحزب في المحافظات ومرورًا بـ «مناديب» الحزب في المؤتمر العام، وليس انتهاء بمرشحيه للانتخابات البرلمانية والبلدية.لكن تأثير كل ذلك وارتداداته على كلا الحزبين مختلفة جدًّا، لأنها تتفاعل مع ديناميات داخلية في كل منهما لها علاقة بكاريزما القائد ومدى قوته والإجماع عليه من جهة، وقوة الحزب ونتائجه في الانتخابات السابقة وتوقعاته في المقبلة من جهة أخرى.وعليه، فقد أضيفت الصلاحيات التي يعطيها القانون رئيس الحزب إلى قوة أردوغان وحضوره والتفاف حزبه خلفه، فقدمت مشهدًا لحزب متماسك في العلن، وإن كان هناك انتقادات ضمنية وداخل الأطر الحزبية، ورغم المناخات التي ترافق العملية الانتخابية مثل الأزمة المالية وعملية اختيار المرشحين والتي بالتأكيد ترضي البعض وتغضب آخرين.ولذلك، فقد اقتصرت الاستقالات من الحزب احتجاجًا على عدم الترشيح أو اختيار المرشح حتى اللحظة على رئيس بلدية محافظة يوزقاط، ورؤساء ثلاث بلديات فرعية (أحياء) في محافظة توقاط، ورئيس فرع الحزب في أحد أحياء محافظة ملاطيا، وربما مناصب أخرى أقل أهمية.في المقابل، فقد تفاعلت الصلاحيات الممنوحة كمال كليتشدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض مع تدهور شعبيته وتصاعد المعارضة الداخلية ضده مؤخرًا وإصراره على أسماء معينة لخوض الانتخابات البلدية وتراجع حضور الحزب في المنافسات الانتخابية الأخيرة. ولذلك فقد واجه مشكلات أكبر وأعمق وموجة استقالات احتجاجية أوسع من العدالة والتنمية.فقد استقال السكرتير العام للحزب، ورؤساء فروعه في محافظات إسطنبول وغازي عنتاب وأضنة، وأحد النواب عن إزمير، ورئيس بلدية محافظة كيركلار ألي، والرئيس السابق لبلدية حي بشكتاش في إسطنبول أحد أهم معاقل الحزب، ورئيسا بلديتي بودروم ومرماريس السياحيتين مع قيادة فرع الحزب في الثانية.يضاف لذلك استقالة الرجل القوي رئيس بلدية حي شيشلي (في إسطنبول) السابق مصطفى صاريغول، وغضب رئيس بلدية إزمير كبرى قلاع الحزب عزيز كوجا أوغلو وإعلانه عن ترشيح نفسه على غير رغبة الحزب قبل أن تستطيع القيادة استرضاءه، فضلًا عن عدد كبير من الاستقالات في أماكن أقل أهمية مثل بلديات وفروع الحزب في أحياء مدن كبرى أو مدن صغيرة.والسبب الرئيس في كل ما سبق أن هناك قناعة لدى الكثيرين داخل الحزب بعدم مؤسسية اختيار المرشحين، وأن رئيس الحزب كليتشدار أوغلو وضع نصب عينيه التحوط من مرحلة بعد نتائج الانتخابات أكثر من تعظيم فرص الفوز فيها، ولذلك فقد استبعد تيار منافسه محرم إينجة وعددًا آخر من المعارضين له، ما جعل الصراع في الحزب داخليًّا أكثر منه موجهًا للحزب الحاكم المنافس.


ما بعد الانتخابات

وإذا كان كل ذلك قد حصل في مرحلة اختيار المرشحين، فإن ارتدادات كل ذلك بعد الانتخابات يمكن أن تكون أوسع مدى وأكبر أثرًا، فالصلاحيات الواسعة تستوجب وتستجلب المسئولية والمساءلة، ونتائج الانتخابات في العادة هي المحطة التي يُقيَّم عندها الساسة والقادة في تركيا.لقد قاد مرشح حزب الشعب الجمهوري حملة ضد رئيسه كليتشدار أوغلو في أعقاب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في يونيو/حزيران الفائت، لكنه أجلها لاحقًا لما بعد الانتخابات البلدية في انتظار أي تراجع أو فشل لحزبه، وهو أمر أعلنه بوضوح على أي حال، وأعلنه معه عدد من المعارضين. ما يعني أن كرسي كليتشدار أوغلو سيكون معرضًا لهزات شديدة بعد الانتخابات إذا ما قدم أداءً ونتائج دون المستوى، على الأقل وفق تقييم معارضيه، وإن كانت هذه الهزات المتوقعة قد لا تعني أنه سيخسر الكرسي ورئاسة حزبه بالضرورة.في المقابل، ولأول مرة منذ تأسيسه عام 2001 يبدو العدالة والتنمية أمام اختبار نتيجة الانتخابات حتى يكون أو لا يكون أمام مفترق طرق مثل الشعب الجمهوري، وإن بدرجة مختلفة.فمع السنوات الطويلة في الحكم، وما أسماه أردوغان «التعب» أو «الصدأ» في كوادره، ومع عملية التجديد داخل الحزب التي لم تسعد الكثيرين، ومع ابتعاد/إبعاد عدد لا بأس به من القيادات ورفاق الطريق الذين يصفهم الرئيس بمن «غادروا القطار ولن يركبوه ثانية»، ومع شريحة من المتحفظين داخل الحزب على الإدارة المركزية للحزب والدولة، ومع عوامل أخرى كثيرة، يبدو أن فكرة تأسيس حزب جديد بقيادة أو رعاية الرئيس السابق عبدالله غل قد وضعت على مسار التسخين والتفعيل في انتظار نتائج الانتخابات البلدية المقبلة. حيث انتشرت الأخبار والتوقعات حوله مؤخرًا، واستوجبت تعقيبًا مباشرًا من أردوغان حول الأمر.يعني ذلك أن تراجع العدالة والتنمية في الانتخابات المقبلة إن حصل سيعني إطلاق شارة تأسيس وإعلان حزب مشابه له في الفكر والخلفية والقاعدة الجماهيرية والتصويتية، وبقيادة عدد لا بأس من قيادات العدالة والتنمية السابقين أصحاب السمعة الجيدة والسير الذاتية الثرية والخبرات الواسعة، ما يعني تحديًا من نوع جديد أمام أردوغان والعدالة والتنمية.لا يعني ذلك بالتأكيد أن مرحلة العدالة والتنمية قد انتهت أو شارفت على ذلك، فليس ذلك متوقعًا في ظل وجود أردوغان وقوته وحضوره، وفي ظل استقرار المشهد السياسي في البلاد حتى انتخابات عام 2023 الرئاسية والبرلمانية. لكنه متغير مهم سيكون له أثره في الحياة السياسية التركية خصوصًا إذا ما كان هناك تراجع ملحوظ للعدالة والتنمية في الانتخابات المقبلة كتعبير عن تزايد حالة عدم الرضا عنه، وإذا – وهذا الأهم – ما استطاع الحزب الوليد (في حال تأسس فعلًا) استمالة عدد من نواب الحزب الحاكم لتشكيل كتلة برلمانية، وهو أمر ما زال في علم الغيب حتى اللحظة بانتظار صباح الأول من أبريل/نيسان المقبل.