كانت البداية من الولايات المُتحدة، إذ أعلنت عن تدريب قوة حدودية قوامها 30 ألف جنديّ، أغلبهم من الأكراد. تلا ذلك تصريحات تركيّة على مدى أيام تتهم الولايات المُتحدة بإنشاء جيش من الإرهابيين على الحدود التركية. كان تصريح الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» أبرز تلك التصريحات، إذ شفع اتهامَه للولايات المُتحدة بالحديث عن عملية عسكرية في «عفرين».

ثم جاء يوم الجمعة 19 يناير/كانون الثاني 2018 بالحسم. وزير الدفاع التركي «نور الدين جانكلي» ينهي الجدل حول صدق التهديدات التركية قائلًا إن العملية ستُنفذ، وإن المنطقة سوف تُطهر من الإرهابيين سواء كان ذلك اليوم أو غدًا. وأتى هذا «الغد» أقرب مما تصور الجميع. السبت 20 يناير/كانون الثاني، يعلن «أردوغان» أن العملية قد بدأت على الأرض، وأنّها لن تتوقف إلا بعد طرد قوات «حماية الشعب الكردية».


اختلاف الأسماء يشعل الحروب أحيانًا

قوات «حماية الشعب الكردية» هى ميلشيا كردية سورية، تُعرف شعبيًا باسم «الأبوجية» أو «البككة». تأسست عام 2004، وظلت رهينة الظل حتى حررتها الفوضى الناتجة عن الثورة السورية، فأعلنت نفسها وشعارها رسميًا في 2012. تدين بالولاء لحزب العمال الكردستاني، وتُقر له بالفضل في إنشائها. أرسل الحزب ألفا مقاتلٍ من مقاتليه لتدريب وحدات حماية الشعب، التي تكونت من 45 ألف مقاتل آنذاك، يتركزون في القامشلي، وعين العرب، وعفرين.

تُعرّف تلك القوات نفسها بأنّها قوة وطنية غير مرتبطة بأي قوة أخرى، وأن هدفها الدفاع عن جميع القوميات السورية. إلا أن تركيا لا تعترف بهذا الوصف. وصرّح «أردوغان» بأنّ تركيا لن تتعرض للخداع لمجرد تغيير الأسماء. وأنّ تلك القوات التي تسمي نفسها قوات «حماية الشعب»، أو تسميها الولايات المُتحدة قوات «حماية حدود» ليست سوى «حزب العمال الكردستاني».

اقرأ أيضًا:الفرصة لا تأتي مرتين: السلطان في عفرين بدعم روسي

تنقسم تلك القوات إلى ثلاثة فروع رئيسيّة: قوات مُحترفة، وقوات مُقاومة، وقوات محلية. تتبع تلك القوات قيادات فرعية في مناطق الجزيرة، وعين العرب، وعفرين. ثم تتبع القيادات الفرعية قيادةً عامة. تدفع تلك القيادة 150 دولارًا شهريًا لما يتجاوز الـ 30 ألف مقاتل. ثم تجاوز عددهم حاجز الـ 50 ألف مقاتل بإضافة المتطوعين. ولم يتم الإعلان الرسمي عن مصادر تمويل تلك القوات، إلا أن المعروف شعبيًا أن تلك الأموال تأتي من الضرائب التي يفرضها حزب العمال الكردستاني، ومن الجماعات الكردية على مستوى العالم.

وفي يونيو/حزيران 2014، بعد سيطرة «داعش» على الموصل، صدر قرار بالخدمة الإلزامية على الذكور والطوعية على الفتيات؛ فقفز العدد إلى 65 ألف مقاتل، ثم إلى عدده الحالي 105 آلاف مقاتل. جميع هؤلاء المقاتلين تلقوا تدريبًا يبلغ 3 أشهر في واحدة من تسع أكاديميات عسكرية كردية في المناطق الثلاث المذكورة.

مقاتل من قوات «حماية الشعب»

الفقرة الصباحية طوال هذه الشهور الثلاثة تكون عبارة عن دراسة لأيدلوجية «عبدالله أوجلان». الرجل هو مُؤسس وأول قائد لحزب العمال الكردستاني، والمحبوس حتى الآن في تركيا. ما يدعم وجهة النظر التركية أمام المزاعم الأمريكية ومزاعم الحركة ذاتها.

في 30 مايو/أيار 2017 أصدر الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب » قراره بتقديم أسلحة ومركبات عسكرية لقوات حماية الشعب. لم تُسم المصادر الرسمية نوع الأسلحة المُقدمة، لكن تواترت الأنباء عن اشتمالها على قذائف هاون، وصواريخ حرارية، ومدرعات، ودبابات، وسيارات دفع رباعي. كما أعلن المسئولون الأمريكيون أن الولايات المُتحدة ستقدم المشورة في استخدام تلك الأسلحة.

كذلك حصل الأكراد من الولايات المتحدة على نظارات رؤية ليلية، وبنادق «إم-4»، وخوذات قتالية، ودروع واقية، وأجهزة ليزر تعمل بالأشعة تحت الحمراء مُعدة للهجوم الليلي. تلك المُعدات هي نفسها التي تستخدمها القوات الخاصة الأمريكية «الكوماندوز». وفي وقت سابق كان الأكراد قد حصلوا على 8000 بندقية ألمانية من طراز «جي-3»، مزودة بمليوني طلقة، ومثلهم من بنادق طراز «جي-36» مزودة بـ4 ملايين طلقة. وحصلوا على 240 قذيفة مخترقة للدروع. لكن جميع الأسلحة الألمانية تشترك في أنّها قديمة الصنع، وبإمكانات متوسطة.

ثم في 25 نوفمير/تشرين الثاني أعلنت الولايات المُتحدة أن توافقًا حدث بين «ترامب» و«أردوغان» ستقوم بموجبه بإيقاف إمداد القوات الكردية بالسلاح. لكن عاد البنتاجون ليؤكد بعد هذا الاتصال بأيام أنّه سيستمر في عملية إمداد السلاح.


الجيش التركي يتقدم

بدأت تركيا تحركها بقصف مدفعي لمواقع قوات «حماية الشعب». ولا يبدو أن تركيا تنوي الانتقال من المدفعية إلى الهجوم البري قريبًا. فقد صرّح وزير الدفاع التركي أنّ بلاده تهدف إلى خلق ظروف لا تضطر فيها الجنود التركية للمشاركة المباشرة. وستعتمد تركيا في هذا الجانب على المعارضة السورية، والجيش الحر الذي بدأ بالفعل الدخول إلى عفرين تحت غطاء من القصف المدفعي التركي الكثيف، وتحت ظلال مقاتلات الـ«إف-16» التركية.

ربما تكون رغبة تركيا في عدم اشتراك جنودها من باب الحفاظ على حياتهم، لكنّها بالتأكيد ليست لعجزٍ في عدد الجنود، أو لضعف في عتادهم. إذ إن الجيش التركي يُصنف الثامن عالميًا. ميزانيته 8 بلايين و208 ملايين دولار. ويبلغ عدد جنوده 382 ألف جندي في الخدمة، و360 ألفًا قيد الاحتياط.

إضافةً إلى امتلاك تركيا قوات جوية ومدفعية تمكنها من خوض المعركة دون إنزال بري. أما عن سلاح الجو، فيتألف السلاح من 1018 آلية. منهم 207 مقاتلات متطورة، ومثلهم طائرات هجومية. وتمتلك أيضًا 439 طائرة نقل يمكن استخدامها لنقل الجنود والعتاد إن لزم الأمر. وتستطيع مهاجمة مواقع قوات الحماية بأكثر من 70 مروحية عمودية تمتلكها تركيا.

أما عن قدرتها المدفعية، فتركيا تمتلك 2445 دبابة جاهزة للقتال، و7550 عربة مدرعة. وأكثر من 2000 نوع من الصواريخ، كما تمتلك 811 قاذفة صواريخ. على الرغم من هذه الأعداد، وتطور الصواريخ من حيث دقتها، فإن عددًا منها يتميز بقصر مداه بصورة لا تجعل الدقة أو القدرة التفجيرية شفيعًا لهذا النقص.

فمثلًا صاروخ «جيريت» الذي يعمل بالديناميكيا الهوائية والوقود الصلب، والذي يُعتبر من بين أطول الصواريخ مدى في الجيش التركي يبلغ مداه 8 كيلومترات فقط. كذلك نظام «يوتماس» المضاد للدبابات، والقادر على اختراق جميع أنواع الدروع، ويُطلق من الأرض أو الجو، يمكنه إصابة أهداف إذا كانت على بعد 500 متر كحد أدنى، و8 كيلومترات في أشد التقديرات تفاؤلًا.

لعل إدراك تركيا لهذه النقطة هو ما دفعها إلى إنشاء نقاط متتابعة داخل عفرين. ففي 10 ديسمبر/كانون الأول 2017، كانت القوات التركية قد أنهت إنشاء 3 نقاط مراقبة من أصل 12 نقطة داخل عفرين. تقع هذه النقاط على بعد 4 كيلومترات من مناطق تمركز القوات الكردية.


«عفرين» تستحق

مقاتلات من قوات «حماية الشعب»
مقاتلات من قوات «حماية الشعب»

بهذه الخطوة الجريئة تجازف تركيا بعلاقتها مع روسيا التي زادت قوتها في الأيام الأخيرة؛ نظرًا لوجودها العسكري في سوريا وعلاقتها الجيدة مع الأكراد. كما لن تصمت الولايات المُتحدة أمام قصف من أثبتوا كفاءتهم في مواجهة «داعش».

هذه المقامرة التركية لا تأتي من فراغ؛ فـ«عفرين» هي الفاصلة بين مناطق سيطرة قوات «درع الفرات» المدعومة تركيًا في جرابلس، والباب، وإعزاز شرقًا، وإدلب غربًا. إذن تُحقق السيطرة على «عفرين» اتصالًا جغرافيًا على كامل المناطق الحدودية الواقعة بين مدينة «جرابلس» غربي الفرات والبحر المتوسط، ما يعني تبديد الحلم الكردي بوصل جميع مناطق سيطرتهم ببعضها.

كذلك تبقى «عفرين» أحد المناطق الثلاث التي يحكمها الأكراد، وفقدها بالنسبة لهم ليس اختيارًا مطروحًا. فالمعركة إذن معركة «بقاء»، تخوضها تركيا مدفوعةً بهاجس حماية حدودها، وتخوضها قوات «حماية الشعب» لتدفع الفناء عن نفسها، ما ينذر بحرب شرسة بين المُصنف الثامن عالميًا، وبين مقاتلين أشداء ذوي بأس شديد مدعومين أمريكيًا بالسلاح، وتعصمهم روسيا من بعض أسلحة تركيا حتى الآن.