إن الحديث عن ضرورة التوقف عن مقاربة زلزال تركيا وسوريا بشكل نظري أو تحليلي يأتي امتدادًا لتعليقات عربية بدأت منذ فترة تستبعد أو تحاول أن تستبعد السؤال السياسي عن كثير من النقاشات التي تبرز بين الحين والآخر في قطاعات مختلفة، وذلك في محاولة واعية أو غير واعية لقتل السياسة لصالح بدائل نقاش أكثر مسالمة. لكن كيف يغيب سؤال السياسة عن كارثة طبيعية بحجم الزلزال، وجورج أورويل علَّمنا ذات مرة أنه في عصرنا لا يوجد شيء اسـمه «بعيدًا عن السياسة»؛ إذ إن كل القضايا هي قضايا سياسية.

للكوارث الطبيعية بُعد سياسي لا يُمكن تجنبه في التحليل العام للكارثة. فبالإضافة إلى البعد الطبيعي للزلزال المسمى «قوة الزلزال»، والمَقيس بمقياس ريختر. يوجد بعد آخر لا يقل أهمية، وهو الجانب السياسي المتعلق بـ «شدة الزلزال»، ونعني بالشدة هنا مدى تأثير الزلزال ومقدار ما يُخلِّفه من خسائر في الأرواح والممتلكات. فمثلًا قد يضرب زلزال بقوة 7 درجات دولتين في نفس الوقت، لكن شدة الزلزال -أي نتائجه- لن تكون بالمثل في كلا الدولتين لعوامل كثيرة تقع في القلب من تعريف الفعل السياسي، كما يلي:

  • قوة البنية التحتية واستعدادها لمواجهة الزلازل.
  • جاهزية مؤسسات الدولة المختلفة لمواجهة الكارثة.
  • انتشار ثقافة التعامل الصحيح مع الزلازل بين المواطنين.
  • التنسيق الناجح في مواجهة الزلزال بعد حدوثه.

الدليل الآخر والقاطع على أهمية سؤال السياسة في مواجهة الكوارث الطبيعية مثل الزلازل، أنه بات لدينا الآن تصنيفات للدول في مدى قدرتها على مواجهة هذا النوع من الكوارث، وهو التصنيف الذي تتربع عليه دولة اليابان، والتي اتخذت في العقود الأخيرة خطوات هائلة لرفع جاهزيتها في مواجهة الزلازل، فباتت تمتلك بنية تحتية متطورة ومُصممة جيدًا لمقاومة الزلازل، كما تمتلك نظام استجابة للكوارث عالي التنظيم وجيد التنسيق، إضافة لأنظمة إنذار مبكر مُتقدمة وخطط إخلاء مُسبقة وفرق إنقاذ، يدعمها تاريخ طويل في التعامل مع الزلازل، وموقف شعبي عام على درجة عالية من الوعي ببروتوكول التعامل مع الزلزلال.

جاهزية الدول العربية لمواجهة الزلازل

الحاجة للتركيز على الجانب السياسي في مناقشة كارثة الزلزال عربيًّا تنبع بالأساس من التأخر الكبير في مستوى تأهب وجاهزية معظم الدول العربية لمواجهة الزلازل، حيث يُصنَّف مستوى التأهب للزلازل فيها على أنه ضعيف، وذلك لأسباب مختلفة:

  1. الافتقار إلى قوانين محددة للبناء والتنفيذ: حيث يفتقر العديد من البلدان العربية إلى قوانين بناء صارمة، وحتى في حالة وجود مثل هذه القوانين، فإنه لا يتم فرضها بشكل دائم، مما يؤدي إلى إنشاء مبانٍ سيئة الإنشاء وضعيفة أمام الزلازل.
  2. الاستثمار غير الكافي في البنية التحتية: لا تستثمر بعض الدول العربية بشكل كافٍ في تحسين بنيتها التحتية، بما في ذلك تعديل المباني القائمة وإنشاء مبانٍ جديدة لتكون أكثر مقاومة للزلازل.
  3. قلة الوعي والتثقيف: ثمة نقص كبير في الوعي العام والتثقيف بشأن الزلازل وكيفية الاستعداد لها في غالب الدول العربية، مما قد يؤدي إلى عدم اتخاذ الأشخاص الاحتياطات اللازمة أو عدم معرفة ما يجب القيام به في حالة حدوث زلزال.
  4. الاستجابة غير الكافية لحالات الطوارئ: أنظمة الاستجابة للطوارئ في العديد من البلدان العربية ليست متطورة، كما أن هناك نقصًا في الموارد والموظفين المدربين للاستجابة بفعالية للزلازل.

تساهم هذه العوامل في ضعف مستوى التأهب للزلازل في العديد من الدول العربية، وبالتالي تزيد احتمالية حدوث الدمار في حالة التعرض لزلازل ذات قوة عالية. وهذه العوامل سياسية بالأساس كما يظهر لنا، أي لا تتم إلا بإرادة سياسية، وتقوم السلطة السياسية بتنفيذها، وتحتاج للمُساءلة المستمرة والجادة للمؤسسات لتضعها على أجندتها وتلتزم بتطبيقها. وهو ما يجعلنا نجزم بأهمية استعادة سؤال السياسة عربيًّا حين نقوم بمقاربة الزلزال الأخير في تركيا وسوريا.

حول السؤال الديني

في النقاشات العربية التي تلت زلزال تركيا وسوريا يبدو السؤال الديني الأكثر سطوة والأعلى صوتًا، وهو السؤال المكرر مع كل كارثة طبيعية تحدث هنا أو هناك، بين من يرى في الكارثة غضبًا إلهيًّا، وبين من يرفض هذا الطرح ويرى فيه جبرية لا تليق بعصر العلم والمعرفة الذي نعيشه.

السؤال الوجودي يأتي في المرتبة الثانية، وأقصد به التعليقات الأدبية حول الكارثة، والتي تنحى بالنقاش صوب المجاز والأدب، فترى في الكارثة فرصة للتذكير بهشاشة الإنسان في هذا الكون الهائل وعبثية الموت العمياء، والقدر الذي يتلاعب بشعوب بأكملها ولا يُلقي بالًا لمعاناتها.

سوريا ومعاناتها تستحث هذا السؤال الوجودي، بل باتت التغريبة السورية منبعًا رئيسيًّا لا ينضب للأدب والمجاز، جريًا على المثل القائل بأن الإبداع يُولد من رحم المعاناة. سوريا التي يمُر شمالها بكارثة إنسانية غير مسبوقة نتيجة الزلزال، يرى فيها معلقون وكُتاب كُثر مُجرد فرصة سانحة للأدب والمجاز والحديث عن الشعب الذي لفظه الجميع حتى الطبيعة.

يعتري السؤال الديني نزعة جبرية تُغيِّب الإرادة الإنسانية، وتنزع عن الإنسان مسئولياته في الاستعداد لمثل هذه الكوارث. كما يعتري السؤال الوجودي سذاجة مُفرطة أحيانًا، ولعبًا بمعاناة الضحايا، ومحاولة لإضفاء نوع من الرومانسية على هذه المعاناة.

رغم كل ذلك فإن الأزمة لا تتعلق بدخول السؤال الديني والوجودي في النقاش، فهم لا محالة موجودون وسيظلون، فالدين والأدب هما خلاص كثيرين من السؤال الصعب: لماذا يحدث كل هذا الدمار من الأساس؟ ولهؤلاء قد يكون الدين أو الأدب عزاءً أخيرًا أمام عجز إنساني هائل، وإحساس بالضآلة أمام كوارث طبيعية تُظهر حجم الإنسان الحقيقي في هذا العالم.

المشكلة الحقيقية إذن ليست بوجود هذين السؤالين، بل في غياب السؤال الأهم والأكثر عملية وهو السؤال السياسي، المعني بالأساس بمساءلة جاهزية دولنا لمثل هذا الكوارث وقدرتها على مواجهتها في الداخل أو حتى في تقديم الدعم لدول خارجية مجاورة، كما هو الحال اليوم مع سوريا.

أهمية السؤال السياسي

يهتم السؤال السياسي بفحص محاور عديدة، وعلى رأسها مساءلة جاهزية دولنا العربية لمثل هذه الأزمات. والحقيقة أن هذا السؤال لم يُطرَح إلى الآن في التعليقات على الزلزال، بل انبرت جماعات من المثقفين تُعلِّق فرحة ببلدانها الواقعة في مناطق بعيدة عن الزلزال، وأنها في أمان من مثل هذه الكوارث.

هكذا استُبدل سؤال المساءلة السياسي لجاهزيتنا حال حدوث مثل هذا النوع من الكوارث، إلى خطاب قومي يفتخر بحظوة الجغرافيا، والقدر الذي اختار بلداننا لتقع على صفائح تكتونية أكثر استقرارًا وبعيدة نسبيًّا عن الزلازل المدمرة.

محور آخر يهتم به السؤال السياسي هو مساءلة الحكومات العربية حول دورها الذي تلعبه لمساعدة دولة عربية تواجه كارثة غير مسبوقة كما هو الحال في سوريا. تلك المُساءلة التي يجب لها أن تتحرك من مربع اللوم إلى مربع المحاسبة الحقيقية للأنظمة التي تغض الطرف عن المأساة الأشد قسوة في تاريخنا العربي الحديث، وهي مأساة سوريا التي لا يمثلُ الزلزال سوى أحد حلقات مسلسلها الطويل.

هذا الموقف الضعيف من الدول العربية في الاستجابة لكارثة الزلزال في سوريا يراه البعض فشلًا سياسيًّا، وامتدادًا لتخاذل عربي ممتد على مدى 12 عامًا، هو عُمر الثورة السورية. ويظهر ضعف هذا الموقف جليًّا حين يُقارن بمواقف دول إقليمية أخرى تدخلت في توجيه أحداث الثورة السورية مثل إيران وتركيا أو قوى عالمية كروسيا وأمريكا.

من المستفيد من تغييب السؤال السياسي؟

إذا قطعنا بأنه ثمة تيار مُنظم يستبعد أو يحاول أن يستبعد السؤال السياسي عن النقاش الدائر حول كارثة الزلزال، وقبلها حول نقاشات أخرى عديدة، إذا قطعنا بذلك فإن سؤال المستفيد من هذا التغييب حتمًا سيظهر للسطح؟

بدايةً نحتاج هنا للتشكيك في من يقف وراء دعم السؤال الديني بهذا الحجم، فالحضور الكبير للسؤال الديني يساهم بشكل مباشر في التشويش على السؤال السياسي، بل تغييبه، وبالتالي وأد أي محاولة لمساءلة السلطة السياسية عن مسئولياتها في التجهيز لمواجهة الزلزال، بما هو كارثة طبيعة مدمرة.

فإذا انتصر السؤال الديني وسيطر على النقاش، وانتصرت معه الفكرة القائلة بأن الغضب الإلهي يقف وراء الزلازل، فماذا يُمكن للسلطة أن تفعل أمام غضب إلهي لا يُرَد؟!

ليس ثمة ما هو خارج السياسة، بات لهذا القول حُجية شبه دامغة مع نشأة الدولة الحديثة، والتي لم تترك ولا كان لها أن تترك شيئًا خارج سيطرتها، كونها جعلت الشمولية عمودها الرئيس للحكم والتدجين والسيطرة، حتى لا ينازعها في سلطانها منازع.

أما في بلداننا العربية فيظهر أن جزءًا كبيرًا من تصورات مثقفينا تنزع نحو الفصل بين الفضاء السياسي وفضاءات كثيرة، هي في الأصل جزء من الفضاء السياسي ومكون من مكوناته. هذا التصور البدائي للسياسة يُفترض أن فوكو دقَّ المسمار الأخير في نعشه، بأطروحاته حول علاقات السلطة، والتي نستطيع رؤية تمثلها في أدنى بنية للمجتمع حيث الأسرة الصغيرة، فما بالنا والحديث هنا عن كارثة طبيعية تُهدد كيان الدولة نفسه، وتضرب، ليس فقط في وجود السلطة السياسية، بل في الفضاء المادي والاجتماعي الذي تحكمه وتسيطر عليه.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.