سيرون أقسى رد فعل إذا اقتربوا من أعزاز.
رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو عن القوات الكردية

تدفع تركيا حاليًا ضريبة تقاعسها عن المشاركة في الصراع الدائر على الأراضي السورية في الجنوب منذ اشتعال فتيله الأول، ورغم أنه لم يكن منتظرًا من تركيا أن تلزم الصمت وتحجز مكانها في مقاعد المشاهدين إلا أن ذلك بات أمرًا واقعًا لسنوات خمس اكتفت تركيا خلالها بدعم بعض الفصائل السورية المعارضة. ومع اشتداد رحى الحرب وتغير الخريطة الجيوسياسية للمعارك بشكل يومي وجدت تركيا نفسها شيئًا فشيئًا مضطرة للتدخل في الأزمة وحماية أمنها القومي من جهة الجنوب بغض النظر عن إمكانية ذلك من عدمه في ظل الأوضاع الجديدة بالمنطقة.

سنحاول إذًا خلال الأسطر القادمة تناول جوانب الصراع الدائر على الحدود التركية-السورية ومتابعة ما آل إليه مؤخرًا.


القشة التي قسمت ظهر تركيا: أعزاز

تشكل مدينة أعزاز موقعا استراتيجيا بالغ الأهمية في ريف حلب الشمالي، فهي تقع في وسط الريف الشمالي على الحدود التركية، فاصلة بين شرقه وغربه، كما أنها تقع على الطريق الدولي من غازي عنتاب في تركيا إلى مدينة حلب. هذا الطريق الذي هو بمثابة شريان الحياة لفصائل المعارضة.

خريطة الصراع في شمال سوريا حول مدينة أعزاز (الأناضول)
خريطة الصراع في شمال سوريا حول مدينة أعزاز (الأناضول)

وتعتبر المدينة معقلا هاما لعدد من الفصائل الإسلامية مثلما تعتبر مدينة الباب في الريف الشرقي معقلا مهما لـتنظيم الدولة، حيث استطاعت الفصائل إبقاء سيطرتها عليها خلال فترة طويلة، منذ فتحها في منتصف يوليو 2012 وإعلان النفير العام منها لتحرير حلب من يد القوات النظامية.

لكن الأمور جرت بعد ذلك في غير صالح الفصائل، إذ أصبحت مدينة أعزاز ومحيطها قاب قوسين أو أدنى من الوقوع تحت حصار الجيش السوري في الريفين الجنوبي والشمالي، وقوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب الكردي -المدعومتين من قبل روسيا والولايات المتحدة في الريف الغربي-، وداعش في الريفين الشمالي والشرقي.

(إعلان المعارضة السورية المسلحة النفير العام في يوليو 2012 لتحرير مدينة حلب)

الطريق للقضاء على المعارضة المسلحة ينتهي باحتلال أعزاز وقطع طريق المساعدات بين ريف حلب الشمالي وغازي عنتاب التركية

ونجحت مجموعات من وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية من طرق أبواب مدينة أعزاز ومحيطها من جهة الغرب والشمال، في تقسيم واضح للمعارك «قوات الحماية الكردية اقتربت من غرب المدينة في محيط مشفى أعزاز الوطني وحاجز الشط، وقوات سوريا الديمقراطية تطوق الطريق الدولي بين حلب وأعزاز وتهاجم المدينة أيضا».

المقاربة العسكرية الروسية تستند إلى قيام الجيش السوري بشن هجوم من بلدتي نبل والزهراء نحو الشمال الشرقي إلى كفر نايا وتل رفعت ومارع اللواتي تشكلن مع مدينة أعزاز جغرافيا الفصائل المسلحة، في وقت تشن فيه القوى الكردية هجوما من عفرين في الغرب نحو أعزاز والطريق الدولي.

http://gty.im/456982118

ما فات كان إجمالاً لديناميكية الصراع. أما تفصيلاً، فكانت ساعة الصفر في الأول من فبراير حين تحركت قوات النظام السوري -مدعومةً بحلفائها الإيرانيين والشيعة من غير الإيرانيين كحركة النجباء العراقية وميليشيا حزب الله اللبناني- لمهاجمة قوات المعارضة السورية في ريف حلب الشمالي. ويعتبر ريف حلب الشمالي معقلاً للجيش السوري الحر، ومنه أعلن النفير لدخول حلب المدينة في يوليو 2012. إلا أنّ خارطة السيطرة فيه تغيرت وباتت بالغة التعقيد، وتقاسمتها أربعة قوى رئيسية وهي: المعارضة المؤلفة بشكل رئيسي من الجيش الحر، والنظام وحلفاؤه، وقوات سوريا الديمقراطية، وتنظيم الدولة الإسلامية.

المقاربة الروسية تستند إلى قيام الجيش السوري بشن هجوم من نبل والزهراء نحو الشمال الشرقي، في وقت تشن فيه القوى الكردية هجوما من عفرين في الشرق، لتطويق أعزاز والطريق الدولي.

وفي الثالث من فبراير كذلك تمكنت قوات النظام السوري -مدعومةً بطلعات جوية روسية- من قطع الطريق البري الرئيسي بين تركيا وحلب، والذي كان بمثابة شريان الحياة والضامن الأوحد لبقاء حركات المعارضة المسلحة. ما يجعل سيناريو عزل قوات سوريا الديموقراطية ووحدات الحماية الشعبية الكردية في الشمال الغربي السوري بالتحديد في مدينة عفرين غرب الفرات أمراً واقعاً. قبل ذلك كانت وحدات الدفاع الشعبي الكردية قد مهدت الطريق للسيطرة على عدة مدن في الشمال السوري تحت غطاء سلاح الجو الروسي. و بدعم أمريكي كذلك تمكن حزب الإتحاد الديموقراطي الكردي -المنبثقة منه ميليشيا وحدات الدفاع الشعبي- لقترات طويلة منذ بداية الصراع من فرض سيطرته على مئات الأميال من الحدود التركية-السورية بعد مواجهات مباشرة مع مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية كان قد انتصر فيها بدعم الولايات المتحدة.

حوصرت إذًا المجموعات المسلحة المدعومة من تركيا والمتمركز في مدينة أعزاز على الحدود بين تركيا وسوريا لاسيما وأن قوات سورية الديموقراطية باتت قريبة من إحكام السيطة على «منبج» وسط أنباء تفيد بتقدم قوات النظام السوري من حلب إلى «الباب» في الشمال السوري والواقعة تحت إمرة مقاتلي تنظيم الدولة، قاطعةً آخر طرق الأمداد التركي لقوى المعارضة المتمركز في ريف حلب الشمالي.

وبهذا التطور الديناميكي، ليس فقط سوى أن تعقد القوات الكردية اتفاقًا مع القوات النظامية القادمة من حلب المدينة متجاهلة العداء التاريخي بين الأكراد ورجال الأسد، لتكون بذلك كل السبل قد أغلقت في وجه الدعم التركي للمعارضين الموالين لها في المدن السورية المختلفة.


تركيا بين مطرقة الأكراد وسندان النظام!

يعتبر حزب الإتحاد الديموقراطي الكردي الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني -المصنف كمنظمة إرهابية لدى الولايات المتحدة وتركيا والإتحاد الأوربي لخوضه حملات تمرد مسلح للإنفصال عن الحكومة المركزية في أنقرة والحصول على أحقية الحكم الذاتي-، حتى أن الكثير من قيادات الحزب قضوا وقتاً كأعضاء لدى حزب العمال في معقله في العراق في جبال قنديل، قبل أن يتم إرسالهم إلى سوريا لمباشرة أمور الإدارة في كردستان سوريا.

لذلك لا تميّز تركيا بين حزب الإتحاد الديموقراطي وحزب العمال، فكلاهما يحمل مشروعاً إنفصالياً كردياً سيمتد بطول الشريط الحدودي الجنوبي لتركيا وسيفصل تركيا تماماً عن إمتدادها العربي. وستقع بذلك تركيا في شرَك الحصار شرقاً بين أرمينيا الموالية لروسيا وإيران المنافس الإقليمي الأبرز لتركيا، وجنوباً العراق الموالية لإيران حالياً والدولة الكردية المنتظرة على الحدود الثنائية بين سوريا وتركيا، أما على حدودها الشمالية فتجد البحر الأسود ومن بعده روسيا!

http://gty.im/185352694

لإحكام هذا الحصار يتعين تحقيق السيطرة على كامل الحدود التركية-السورية غرب نهر الفرات والتي يبلغ طولها نحو 160 كيلو متر، وهي منطقة منقسمة بين ثلاثة قوى:

1. داعش وتسيطر على نحو 100 كيلومتر بين جرابلس في الشرق وأعزاز في الغرب.

2- وحدات الحماية الكردية وقوات سوريا الديمقراطية وتسيطران على نحو 45 كلم في منطقة عفرين.

3- فصائل إسلامية أخرى تسيطر على شريط ضيق بطول نحو 15 كلم شمال أعزاز.

فهل تنجح تركيا في قادم الأيام في تقويض المشروع الكردي عل حدودها الجنوبية؟


ما الذي يعيق تركيا عن حل مشكلة الأكراد؟

تقدمت تركيا العام الماضي بطلب للأمم المتحدة وللحليف الأمريكي لإنشاء منطقة عازلة في الشمال السوري تكون لإيواء اللاجئين ومن وراء ذلك تجنب تركيا خطر التورط في آتون حربٍ تطول. إلا أن اجتماع الأمم المتحدة بهذا الشأن انفض دون جدوى واعتبرته بعض الدول الكبرى بالأمر صعب التنفيذ.

كذلك حاولت تركيا مرارًا وتكرارًا عزل حزب الاتحاد الديموقراطي سياسيًا لأنه يندرج على قوائم الإرهاب لديها وهددت كذلك بمقاطعة محادثات جينيف لبحث القضية السورية بعد أن دفعت روسيا بالحزب ليشارك في المحادثات كأحد أطراف الصراع. هذه المساعي التركية كانت بالأساس إجراءات وقائية حاولت تركيا من خلالها تجنب الخوض في غمار الحرب الدائرة على حدودها الجنوبية واكتفت بدعم بعض فصائل المعارضة وتقديم بعض التجهيزات اللوجستية لهم ليخوضوا عنها حرباً بالوكالة، هي في الأساس حرب بالغة الخطورة على أمن تركيا القومي.

سيكون سلاح المدفعية التركي هو حجر الزاوية في أي تدخل تركي نظرا لسيطرة روسيا على الأجواء السورية.

الآن باتت أغلب مدن الشمال السوري في قبضة قوات الدفاع الشعبي الكردية وقوات سوريا الديموقراطية وسيكون خط الإمداد التركي الأهم للمعارضة في قبضة الأكراد قريباً جداً وسيتصل شرق كردستان سوريا بغربها. ربما يساعد ذلك بالمرة على انفصال أكراد تركيا جنوبي شرق البلاد!

في محاولة منا لبحثفرضية التدخل التركي العسكري نجد أن تركيا لن تتمكن من الإغارة الجوية على سوريا لدعم أي تحرك عسكري على الأرض وستكون طائراتها صيدًا للروس المسيطرين على الأجواء هناك، لاسيما وأن تركيا أسقطت مقاتلة روسية في نوفمبر الماضي لاختراقها الأجواء التركية. لذلك سيكون سلاح المدفعية التركي هو حجر الزاوية في هذا التدخل -إن حدث- وتجدر الإشارة هنا أيضًا إلى أن الطرق الواصلة بين المقاطعات الكردية الثلاثة في شمال سوريا خارج غطاء هذه المدفعية ما يجعل استخدامها منفردة -دون تدخل بري- في الصراع بلا قيمة.

أحد أبرز التحديات بهذا الشأن أيضا اختلاف مساعي الحليف الأمريكي مع مساعي تركيا المتورطة، حيث تقدم الولايات المتحدة دعمها الكامل لقوات الدفاع الشعبي. ويبدو ذلك جليًا في الضربات الجوية التي تغطي بها الولايات المتحدة معارك القوات الكردية مع مقاتلي تنظيم الدولة حول مدينة منبج.

هذه التطورات جعلت من واشنطن وأنقرة طرفي نزاع رغم اتفاقهما على إزاحة الأسد والقضاء على تنظيم الدولة

تقول الولايات المتحدة أنها تناصر قوات الدفاع الشعبي لرغبتها في القضاء على تنظيم الدولة لكن هذه الرغبة لا تخلو من رغبة أخرى، وهي مد حبل الوصل بين شرق وغرب إقليم كردستان حتى وإن استلزم ذلك من الأكراد مواصلة الحرب بعد القضاء على داعش.

علاوةً على ذلك فقد زار مبعوث الرئيس الامريكي باراك أوباما كوباني الكردية -والمحررة في يوليو الماضي من قبضة داعش- في إطار توليه مسئولية تنظيم العمليات العسكرية للتحالف الأمريكي، والتقى خلال الزيارة مسئولين بالحزب ما يعني موافقة أمريكا الضمنية على مساعي الأكراد وإن تتابعت التصريحات الرسمية بالنفي!

http://gty.im/455309608

هذه التطورات جعلت من واشنطن وأنقرة طرفي نزاع وإن كان بالوكالة رغم اتفاقهما على إزاحة الأسد والقضاء على تنظيم الدولة. ويبقى مستقبل سوريا ما بعد رحيل الأسد وتقويض داعش محل خلاف بينهما.

خلاصة القول أن طرق الإمداد التركية للمعارضة المسلحة في حلب قريبا ستكون جميعها بيد النظام السوري وهو ما سيضعف جهود المعارضة القتالية أو بالأحرى سيقضي عليها، كما حدث قبل ذلك في إدلب. في هذه الأيام أيضاً استهدف الطيران الروسي قوافل المساعدات التركية لأهل حلب رغبة في حصار المدينة والتخلص من مقاتلي المعارضة المتحصنين بداخلها. وباتصال شرق وغرب كردستان ستُعزل تركيا نهائياً عن حلفائها العرب. فأي موقف أسوأ مما فيه تركيا الآن؟!


هل من فرصة أخيرة؟

صرح رئيس الوزراء التركي بأن تركيا لن تسمح بسقوط أعزاز إلا أن الخيارات لم تعد كثيرة أمام صناع القرار في تركيا، وبينما تتوارد الأنباء عن تدخل بري وشيك تقوده السعودية وتركيا في مواجهة أضلاع المثلث الفاعل في الصراع الداخلي (النظام السوري وروسيا وإيران)، تأتي الأخبار من روسيا تفيد بأن التدخل المحتمل هذا ينذر بحرب عالمية ثالثة. لا تراجع إذًا ولا تنازل من أيٍ من الأطراف والنتائج دموية بالتأكيد.

"لن نسمح بسقوط اعزاز يجب أن يعرف كل العالم هذا."

Gepostet von ‎أحمد داوود أوغلو‎ am Mittwoch, 17. Februar 2016

الخيار الثاني ربما يكمن في سباق تركيا مع الوقت لتسليح المعارضة السورية بأسلحة مضادة للطائرات تعينهم على البقاء في المواجهة لأبعد نقطة ممكنة، فالمحنة هذه المرة منذرة بالقضاء على المعارضة وهو مالم يحدث من قبل!

وربما يأتي الحل هذه المرة من الأشقاء في أوروبا إذ تعيد ألمانيا -حسب ما نشره أسوشييتد برس الأربعاء الماضي- المطالبات التركية السابقة -بمنطقة آمنة شمالي سوريا- للمشهد في مؤازة أوروبية للأتراك وسنرى في قادم الأيام هل تكلل مساعيها بالنجاح أو لا.

تبقى تركيا في مقاربة صعبة، إما أن تتدخل عسكرياً أو تسابق الزمن في تسليح حلفائها بما يعينهم على رحى الحرب الدائرة أو تنتظر دعمًا من حلفائها الأوروبيين أو تسعى في هذه المحاور بالتوازي! وأيًا كانت الخيارات المتاحة أمام الأتراك، فهم في موقف هو الأسوأ بالنسبة لهم منذ سنوات، جرّاء تقاعسهم مع بداية الصراع المسلح.

المراجع
  1. Turkey’s Problems in Aleppo – Atlantic council
  2. حلب، المعركة الحاسمة – المونيتور
  3. ريف حلب الشمالي، متغيرات عسكرية يسمع صداها سياسيا – روسيا اليوم