لا يختلف كثيرون على فرادة الأزمة الأخيرة بين تركيا والولايات المتحدة واختلافها الجذري عن الأزمات أو فترات التصعيد السابقة، مما دفع إلى تفسيرات كثيرة تتعلق بالمسار المستقبلي للعلاقات وخيارات تركيا إزاءها بما في ذلك تحويل بوصلة سياستها الخارجية تماماً نحو الشرق، تحديداً روسيا.

كثير من هذه التفسيرات تغيب عنها النظرة العميقة في خلفية هذه العلاقات وأسسها وجذورها وصيرورتها على مدى عقود من السنين فضلاً عن ظروفها الحالية، بما ينعكس خللاً في التصورات المستقبلية والخيارات الحقيقية.


العامل الروسي

قد يكون من المفيد البدء بالإشارة إلى أن العلاقة مع الولايات المتحدة وعضوية حلف الناتو حقيقتان مكملتان لبعضهما البعض وتعبران عن سياق واحد بالنسبة للسياسة الخارجية التركية. ورغم أن تركيا اختارت «الغرب» هوية واتجاهاً وانتماءً لها مع تأسيس الجمهورية عام 1923، إلا أن عضويتها في الناتو مثلاً لم تكن محسومة لا من طرفها ولا من الطرف الآخر.

فمن جهة، لم تكن رغبة تركيا في دخول الحلف ذاتية صرفة بل أتت أكثر بسبب الخوف من الاتحاد السوفياتي السابق وأطماعه في أراضيها وموانئها ومضايقها، الأمر الذي ألجأها للحماية الأمريكية ثم شجعها على دخول حلف الناتو لضمان أمنها وحماية نفسها من «الدب».

ومن جهة أخرى، فلم يقبل الحلف الطلب الذي قدمته أنقرة عام 1950 ولم ير فيها عضواً أصيلاً من «الكتلة الغربية» حينها، لكن مشاركتها في الحرب الكورية واستشعار الولايات المتحدة لأهميتها في مواجهة التمدد الشيوعي/السوفياتي جعلها ركناً رئيساً في خطة مارشال أولاً ثم أهلاً لعضوية الحلف عام 1952 لاحقاً.

على مدى عشرات السنين، بقيت العلاقة بين الطرفين على حالها: وظيفية ومصلحية ولم تتحول يوماً إلى علاقة ندية أو خاصة أو استراتيجية أو حتى مستقرة. ولذلك، فحتى خلال فترة الحرب الباردة تعاملت الولايات المتحدة مع تركيا بفوقية شديدة لدرجة قاربت حدود الإهانة أحياناً، من أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 التي أوصلت العالم لشفير الحرب النووية قبل أن تنهيها واشنطن دون حتى إخطار أنقرة (التي نشرت الصواريخ على أراضيها) بذلك، إلى رسالة الرئيس جونسون الشهيرة عام 1964 بكل ما تضمنته من معاني التهديد والتوجيه، إلى حظر تصدير الأسلحة لها عام 1975 بسبب تدخلها العسكري في قبرص.

فقط بعد انقلاب 1980، الذي كان انقلاباً أمريكياً بكل المقاييس، تحسنت العلاقات نسبياً بين الطرفين بالتوازي مع تحسن العلاقات التركية – «الإسرائيلية» حينها. فعلى هامش العلاقات الاستراتيجية والاتفاقات العسكرية والأمنية التي جمعت بين أنقرة وتل أبيب، أعلنت واشنطن مع الأولى شراكة استراتيجية عام 1995 بقيت عنوان العلاقة بين الطرفين حتى يومنا هذا رغم كل المتغيرات اللاحقة.


مع العدالة والتنمية

أهم المتغيرات كانت وصول العدالة والتنمية للحكم في تركيا. الحزب، وعلى عكس ما يُظن، لم يسع إلى قطيعة تامة أو انقلاب جذري على الماضي، وإنما عمل على إعادة تفسير وصياغة العديد من الأمور وفي مقدمتها السياسة الخارجية.

مع العدالة والتنمية، حافظت تركيا على علاقاتها الغربية كمحور رئيس للسياسة الخارجية ولكنها سعت مع ذلك إلى تعديد وتنويع العلاقات وعدم اقتصارها على الغرب أو احتكاره لها. هكذا، بقيت الولايات المتحدة محور العلاقات السياسية، والناتو محور العلاقات الأمنية – العسكرية، والاتحاد الأوروبي محور العلاقات الاقتصادية، لكن مع انفتاح على روسيا والصين وآسيا الوسطى والبلقان والقوقاز والشرق الأوسط وأفريقيا وصولاً لأمريكا اللاتينية.

كان ذلك التغيير كافياً لإحداث هزة بل هزات عنيفة في مسار العلاقات بين واشنطن وأنقرة، حتى حين لم ترغب الأخيرة بذلك. كان غزو العراق عام 2003 أول الصدمات، إذ رفض البرلمان التركي السماح للقوات الأمريكية باستخدام الأراضي التركية في الحرب، رغم سعي الحزب والحكومة لذلك.

كان ثمة متغير مهم اسمه «القرار التركي» الساعي أكثر فأكثر نحو الاستقلالية، وقد بدأ يؤثر في العلاقات الثنائية خصوصاً منذ عام 2009 مع موقف أردوغان في قمة دافوس ثم الاعتداء على سفينة مافي مرمرة والقطيعة الدبلوماسية بين أنقرة وتل أبيب في 2010، إلى أن وصل الأمر ذروته مع السياسة التركية النشطة والمبادرة مع الثورات العربية في 2011.


أزمات عميقة

يمكن القول إن العلاقات المتوترة بين تركيا والولايات المتحدة هي إحدى النتائج غير المباشرة لعدم استقرار النظام الدولي منذ انتهاء الحرب الباردة. ما زالت واشنطن تفضل التعامل مع أنقرة وفق منطق الإملاءات والتبعية ورفض أي تمايز في المواقف، بينما تغيرت نظرة تركيا لنفسها ومكانتها ودورها والعلاقات مع الآخرين تغيراً جذرياً.

ولذا، يمكن الحديث اليوم عن أزمات متعددة وعميقة بين الطرفين وليس أزمة واحدة. فهناك الدعم الأمريكي المباشر والعلني والمتصاعد للفصائل الكردية المسلحة في سوريا والمصنفة على قوائم الإرهاب التركية، وهناك الحماية الكاملة التي تمنحها واشنطن لفتح الله كولن وأتباعه ومؤسساته ورفضها التعاون مع أنقرة في ملفه، وهما ملفان مرتبطان مباشرة بالأمن القومي التركي، إضافة لملفات أخرى هامشية.

وهناك في المقابل القلق الأمريكي من تقارب تركيا المتزايد مع موسكو الذي تبلور اقتصادياً على شكل مشاريع ضخمة مثل محطة «أك كويو» للطاقة النووية ومشروع «السيل التركي» للغاز الطبيعي وعسكرياً بصفقة منظومة إس 400 الصاروخية، ومن رفضها التعاون في مسار العقوبات على طهران بدعوى أنها تضر بالاقتصاد التركي أيضاً، إضافة لملفات أخرى فرعية.


الأزمة الأخيرة

في بعدها السياسي، فالأزمة الأخيرة بين الطرفين هي الأكبر والأخطر بين الجانبين منذ عقود وربما على الإطلاق. فلأول مرة تطال عقوبات أمريكية بشكل مباشر وزيرين تركيين، ويتفق على التصعيد مع أنقرة الكونغرس والإدارة الأمريكية على صعيد واحد.

ليس ثمة شك أن قضية القس أندرو برونسون ذريعة أكثر منها سبباً حقيقياً ومباشراً للأزمة الأخيرة، فالرجل موقوف منذ سنتين والعقوبات الأمريكية أتت بعد إخراجه من سجنه إلى الإقامة الجبرية في منزله في خطوة اعتبرت تمهيدية لإعادته إلى بلاده في إطار صفقة بين الجانبين كان يفترض أن تشمل – وفق تسريبات – محمد أتيللا النائب السابق لرئيس مصرف «خلق» التركي الذي حوكم في الولايات المتحدة بسبب خرقه للعقوبات الاقتصادية على إيران.

ولذا، فأسباب الأزمة تعود إلى سياق عام متعلق بمنحى التوتر المستمر تصاعداً بين البلدين في السنوات القليلة الأخيرة، وسياق أعم مرتبط بنهج ترمب التصعيدي والتوتيري و«العقابي» مع عدد كبير من البلدان الخصمة والصديقة على حد سواء، وسياق خاص متعلق بوضع ترمب الصعب داخلياً ورهانه على أصوات الإنجيليين – الذين ينتمي القس لهم – في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.


خيارات تركيا

عدو عدوي صديقي!

مثل يراه الكثيرون منهجاً في العلاقات الدولية، ولذلك يرى البعض أنه على تركيا التوجه شرقاً بشكل كامل – تحديداً روسيا – للرد على التصعيد الأمريكي. هذا التقييم، وإضافة إلى كونه معتمداً على ظروف الحرب الباردة التي لم تعد قائمة، يتجاهل الكثير من الحقائق التاريخية والحالية.

فلئن كانت الولايات المتحدة تدعم حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وأذرعه العسكرية في سوريا رغم تصنيفها المنظمة الأم أي حزب العمال الكردستاني على أنه منظمة إرهابية، فإن روسيا لا تصنف الأخير أصلاً كمنظمة إرهابية فضلاً عن فتحها لمكتب لحزب الاتحاد في موسكو. صحيح أن أنقرة لا تثير هذا الملف حالياً مع موسكو في ظل التقارب والتفاهمات والصفقات التجارية والتوتر مع واشنطن، إلا أنها تدرك ولا شك خطورة موضوع كهذا وإمكانية تفعيله مستقبلاً من قبل موسكو.

أكثر من ذلك، فالخصومة والتوجس وتضارب المصالح هو ما يحكم العلاقات التركية – الروسية أكثر من التحالف والتنسيق. وليس ذلك محصوراً في التاريخ كما سلف تفصيله، ولكن أيضاً في الواقع الحالي. إذ تتعارض مصالح البلدين – ويتنافسان – بشكل واضح في البحر الأسود وشبه جزيرة القرم والبلقان والقوقاز وآسيا الوسطى، فضلاً عن الملف السوري الذي تتعارض فيه رؤيتاهما بشكل ملحوظ رغم التفاهمات الحالية.

يعني ذلك أن مسار التنسيق والتعاون بين تركيا وروسيا، لا سيما في سوريا، تكتيكي مؤقت وليس استراتيجياً دائماً، ويشير كذلك لمدى حاجة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لتركيا وبالتالي عدم الرغبة ولا القدرة على خسارتها ودفعها تماماً ونهائياً لحضن روسيا. تركيا أيضاً تدرك، للأسباب السابقة وغيرها، مدى خطورة استبدال حصرية العلاقات الروسية أو الشرقية بحصرية العلاقات الأمريكية أو الغربية، أو بمعنى آخر مجرد نقل التبعية واستبدال القوة العظمى المهيمنة.

ولذلك فقد كان مسار تركيا منذ سنوات، تحديداً منذ 2015 وهو عام مراجعات وترجعات وتغيرات السياسة الخارجية التركية، يعتمد على مسارات متوازية ومتكاملة. أولها، تعظيم القوة الذاتية من خلال تصنيع السلاح المحلي واستخدامه وتصديره، والحرب الاستباقية ضد المنظمات الإرهابية في سوريا والعراق، والقواعد العسكرية خارج الحدود في العراق وقطر والصومال. وثانيها، اعتماد سياسة متعددة الأبعاد والمحاور بما يمنح سياستها الخارجية المزيد من التوازن والمرونة والمناورة وبالتالي الاستقلالية قدر الإمكان.

في هذا الإطار، تقاربت تركيا أكثر مع روسيا والصين والهند، وانفتحت على أفريقيا، وانخرطت في قضايا العالمين العربي والإسلامي، لكن كل ذلك ليس كافياً على المدى المنظور ليكون بديلاً كاملاً ونهائياً لعلاقات تركيا الغربية، هذا في حال رغبة أنقرة في الانفكاك التام عنها.

بيد أن ما سبق تفصيله من مصالح مشتركة بين تركيا والغرب وخصوصاً الولايات المتحدة إضافة للعلاقات الاقتصادية والاتفاقيات التجارية والتعاون الاستخباري وملف اللاجئين وغيرها، كلها عوامل تقول بأن أنقرة لا يمكن لها وبالتالي لا تسعى للانفكاك التام عن واشنطن والناتو، وإنما تريد توازناً أكثر وندية أكبر في العلاقة.

ولعل أوروبا – وليس الاتحاد الأوروبي بالضرورة – تمثل خياراً استراتيجياً مهماً لتركيا في ظل التصعيد الأمريكي وعدم الثقة بروسيا وصعوبة الاعتماد على العلاقات الناشئة مع الصين والهند وضعف العالم العربي وتشتته. إن بلورة علاقة استراتيجية خاصة بين أنقرة وبروكسل بعيداً عن ثنائية العضوية الكاملة والقطيعة التامة كفيلة بفتح فرص وآفاق جديدة لتركيا وتحريرها من الوصائية الأوروبية المنبثقة من ملف العضوية ومسار التفاوض، وهو خيار جدي وواقعي ينبغي على أنقرة إعادة التفكير فيه وتفعيله وتسريعه.

ولذا، ختاماً، يبدو أن موقع تركيا الوسطي بين الشرق والغرب وبين قارات العالم الثلاث قد رسم قدرها أيضاً في السياسة الخارجية بنفس ذلك التوازن وضرورة صياغة العلاقات مع الجميع. وعلى الأقل لحين تتجاوز عناصر القوة الذاتية التركية حداً معيناً و/أو يتغير النظام الإقليمي بشكل يمنح تركيا الريادة فيه ويزيد من أوراق قوتها في مواجهة الآخر الغربي، فإن حرص تركيا على العلاقات مع الولايات المتحدة والناتو سيستمر، وهو ما يرجح سيناريو التسوية أو الصفقة المؤقتة، لكن ليس على قاعدة التوافق التام وإنما التهدئة على أرضية التوتر المستمرة مؤخراً.