محتوى مترجم
المصدر
Newlines Magazine
التاريخ
2021/2/24
الكاتب
كمران بخاري

في السادس عشر من فبراير أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان توسيع بلاده لعملياتها الحدودية ضد الميليشيات الكردية في شمال العراق بعد ما اختطفت وقتلت 13 مواطنًا تركيًا. وقال أردوغان مُتحدثًا إلى حشد من مؤيديه في حزب العدالة والتنمية:

سوف نبقى في المناطق التي نؤمّنها… طالما كان ذلك ضروريًا… لمنع تكرار هجمات مماثلة.

هذا الإعلان أتى بعد يومين فقط من تهديد ميليشيا عراقية- مدعومة من إيران- بشن هجمات على القوات التركية المتمركزة شمالي العراق. «حركة النجباء»، ميليشيا شيعية نافذة تتعاون مع جهاز الأمن العراقي، حذّرت: «إذا استمرت الحكومة العراقية في صمتها فإن الشعب العراقي والمقاومين سيواجهون المحتل ويتبنون موقفًا حازمًا لصده». أدى هذا الصدام التركي- الإيراني في شمال العراق إلى نشوب حرب باردة متصاعدة بين قوتين إقليميتين.

جولة جديدة من الصراع السنّي- الشيعي

رغم أن إيران وتركيا يبدوان متعاونين أكثر من متنافسين فإن المواجهة بينهما محتومة، بخاصة وأن إيران استطاعت الانتصار في صراعها الممتد لـ40 عامًا مع السعودية التي لم تنجح في مقاومتها، إذ قسّمت إيران مجال نفوذها في المنطقة منذ عام 1979، وطهران ستواجه وقتًا عصيبًا للدفاع عن ذلك أمام تركيا المعتدة بنفسها بشكل متزايد. في اللحظة الحالية، يغلق الإيرانيون الباب أمام مسار تركيا في العالم العربي لكن أنقرة لديها قوة بقاء أكثر من نظيرتها. وهذا الصراع سيُحدِّد ملامح المنطقة لفترة طويلة مقبلة، لا سيما أن مصالح الولايات المتحدة وتركيا تتماشى عندما يتعلق الأمر بدحر نفوذ إيران في المنطقة.

معظم المراقبين يستمرون في تعريف الصراع الرئيس في الشرق الأوسط على أنه صراع بين إيران والسعودية- اللذين يُنظر إليهما على أنهما يقودان المعسكرين الشيعي والسني على الترتيب- قلةٌ فقط تدرك أن هذا الصراع المستمر منذ عقود انتهى قبل نحو أربع سنوات، حينما استولت القوات السورية المدعومة من إيران على مدينة حلب واستعادتها من أيدي الثوار، مُحطمين بذلك الآمال السعودية في أن انهيار نظام الأسد سيُضعف موقف إيران بالمنطقة. بعدها بوقت قصير فشلت المملكة والإمارات في هزيمة قوات المعارضة المدعومة من طهران والحوثيين في اليمن، لذا ليس مُفاجِئًا أن ينتهي الصراع السعودي- الإيراني لصالح الأخيرة.

الطائفية الجيوسياسية

لطالما عانت الدول العربية من ضعف مزمن جوهري- وهو الظرف الذي تفاقمت فيه انتفاضات الربيع العربي في عام 2011- أدى إلى خلق فراغات إستراتيجية في المنطقة. وبعد أن استفاد النظام الإيراني بشكل كبير بالفعل من تحرك الولايات المتحدة عام 2003 لتغيير النظام في العراق، تمكّن من تعزيز موقعه الإقليمي من خلال استغلال عملية الانهيار الاستبدادي، مما أدى إلى تفاقم الأزمة القائمة مسبقًا للقيادة العربية السنية. ومع ذلك، قبل فترة طويلة من إضعاف الدول العربية الأوتوقراطية، كان الإيرانيون يستفيدون من عاملين أقدم:

  • الأول هي ظاهرة الجهاد، التي حظيت بقدر هائل من الاهتمام منذ هجمات 11 سبتمبر.
  • الديناميكية الثانية والأكثر أهمية، هي ما أسميه بـالطائفية الجيوسياسية. إنه الصراع السنّي- الشيعي من الناحية الجيوسياسية (على عكس الديني)، حيث تتصرف هاتان الطائفتان كمعسكرات هوية عبر وطنية، والمثير للدهشة أن النزعة الجغرافية الطائفية قد حظيت باهتمام أقل بكثير على الرغم من تاريخها الطويل.

بدأ ذلك في القرن العاشر الميلادي عندما ضعفت السلطة السنّية المركزية، التي كانت حتى ذلك الحين تحتكر الكثير من الجغرافيا الإسلامية. أدى تراجع سيطرة الدولة العباسية إلى تمكين الموجة الأولى من صعود الشيعة الجيوسياسي. ظهرت العديد من الأنظمة السياسية الشيعية المختلفة، مثل الخلافة الفاطمية في شمال أفريقيا التي امتدت إلى بلاد الشام ومنطقة الحجاز الساحلية على البحر الأحمر، والإمارة البويهية المتمركزة في بلاد ما بين النهرين وبلاد فارس، وولاية القرامطة على الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية، والإمامة الزيدية في اليمن.

في أواخر القرن الحادي عشر وحتى أوائل القرن الثالث عشر استعاد السنّة وضعهم في شكل صعود الإمبراطورية السلجوقية والسلالة الأيوبية وسلطنة المماليك مما أدى إلى تقلص القوة الشيعية. هذا التحول في ميزان القوى الجغرافي الطائفي، مع الضعف الإستراتيجي للأغلبية السنية في المنطقة، مهّد الطريق للقوى الشيعية لملء الفراغ.

فقد كان التأرجح بين هيمنة السنّة والشيعة دوريًا، حيث استمر لما يقرب من 500 عام. وبعد نحو خمسة قرون من الحادثة الأول حدثت موجة ثانية من عودة الشيعة مع صعود الإمبراطورية الصفوية عام 1501. حيث شكّل الصفويون آنذاك تحديًا كبيرًا لكل من القوى السنّية الرئيسية في ذلك الوقت: العثمانيون في الشرق الأوسط والمغول في جنوب آسيا.

ومع أواخر القرن العشرين كنا مرة أخرى في عصر النهضة الشيعية مع صعود جمهورية إيران الإسلامية. يتجلى هذا المظهر الأخير للطائفية مجددًا بسبب المنافسة الشديدة مع السنّة. يفهم الإيرانيون جيدًا اللحظة الفريدة التي يمرون بها ولن يتخلوا عن هذه الفرصة التاريخية، وهذا يفسر سلوك طهران العدواني في جهودها لمحاولة تغيير البنية الأمنية للمنطقة، على الرغم من تعرضها لعقوبات دولية شديدة، والتي أثرت على الرفاه السياسي والاقتصادي للجمهورية الإسلامية.

ومن هنا جاءت جهودهم المحمومة لاستغلال التيارات الإقليمية الرئيسية الثلاثة، الطائفية والجهادية والانهيار الاستبدادي. هذه ليست ثلاث ديناميكيات متباينة تتحرك مستقلة عن بعضها البعض، بل هم مترابطون كل منهم يؤثر على الآخر. كانت نتيجة هذه العملية الثلاثية المعقدة هي أن موقع إيران الإستراتيجي في المنطقة أصبح أفضل بكثير من وضع المملكة العربية السعودية.

حسم معركة سوريا

في الواقع، عندما اندلع الربيع العربي كانت إيران في وضع جيد للاستفادة من تفريغ القوى التقليدية في المنطقة. سمحت الفوضى التي أعقبت ذلك للإيرانيين بتوسيع بصمتهم الجيوسياسية من مساحة بلاد ما بين النهرين والمشرق إلى شبه الجزيرة العربية. اليمن مثال رئيسي؛ فقد نقلت جماعة الحوثي، النائبة عن إيران، الحرب الجغرافية الطائفية إلى قلب السعودية، وهو أمر لم يفعله وكلاء طهران في البحرين والعراق وسوريا.

على الرغم من كل هذه المكاسب، وكجميع القوى، تواجه إيران قيودًا تحد من مدى قدرتها على توسيع نفوذها الإقليمي، لكن المهم هنا أنه لا توجد قوى موازية في العالم العربي يمكنها إخراج طهران من المناطق التي تسيطر عليها بالفعل (العراق وسوريا ولبنان واليمن). كانت إيران قادرة على تحقيق مثل هذه الاختراقات العميقة في المقام الأول لأنه لم يكن هناك ما يعيق غزواتها.

ومع ذلك فإن الانتفاضة في سوريا مثّلت تهديدًا كبيرًا للخطط الإستراتيجية لإيران. كان من الممكن أن يُحدِث إسقاط نظام الأسد فجوة خطيرة في منطقة نفوذ إيران المتجاورة، والتي تمتد غرب جبال زاغروس (العراق) إلى شرق البحر الأبيض المتوسط (سوريا ولبنان). كان ليتم عزل إيران عن وكيلها الإقليمي الرئيسي، حزب الله اللبناني، فيما هددت ساحة المعركة السورية التي يهيمن عليها المتمردون السنّة النظام السياسي الشيعي الهش الموالي لإيران في العراق. بالنسبة للنظام الديني الإيراني كان هذا سيناريو كارثيًا قد يطيح بما يزيد على 30 عامًا من جهود السياسة الخارجية.

لذا استثمر الإيرانيون بشكل كبير في جهودهم للحفاظ على نظام الأسد. وبالنظر إلى أن قدراتهم الاستخباراتية والعسكرية تفوق بكثير قدرات المملكة العربية السعودية فقد أثبت الجيش السوري أنه أكثر فعالية من المتمردين، وتمكنت إيران من التغلب على التهديد المباشر لخططها الإقليمية.

أما العامل الأساسي الذي عمل لصالح إيران، فهو أن الجانب السنّي من المعادلة الجيو-طائفية أصبح أكثر انقسامًا من ذي قبل. لم يكن للسعوديين أي احتكار للنفوذ في العالم العربي، وأدت الانتفاضة في سوريا إلى ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية»، المعروف باسم داعش، والذي أصبح تحديًا للسعوديين أكبر بكثير من تنظيم القاعدة في أي وقت مضى.

تمكنت داعش من استغلال الصراع الجغرافي الطائفي بين السعوديين والإيرانيين لصالحها. وكلما دعم السعوديون الانتفاضة ضد الأسد في سوريا كلما أطعموا وحشًا اسمه داعش. على عكس منافسيهم الإيرانيين، كان الأداء السعودي ضعيفًا فيما يتعلق بالحرب التقليدية بالوكالة. وبالإضافة إلى ذلك، خسرت الفصائل التي يدعمها السعوديون الأرض أمام كل من داعش والقاعدة.

لم تستطع السعودية وحدها إدارة هذا الأمر وكانت بحاجة دائمًا إلى المساعدة من الإمارات. والأهم من ذلك أن المملكة واجهت أيضًا معارضة من قطر، نظرًا لجهود الأخيرة في اتباع سياسة خارجية مستقلة عن المملكة. لطالما تعرضت الرياض للتهديد بسبب صلات الدوحة الوثيقة بالإسلاميين المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين، فضلًا عن عناصر أخرى أكثر تطرفًا. القطريون أنفسهم ليسوا تحديًا كبيرًا للسعوديين كما هو الحال عندما يتعلق الأمر بحقيقة أنهم حلفاء لتركيا.

تركيا والتعافي الجيوسياسي

لقد رأى الأتراك في الربيع العربي فرصة لإعادة ترسيخ أنفسهم في أراضيهم القديمة. ولهذا السبب تحاول تركيا استغلال أزمة القيادة العربية السنّية. وهكذا، فإن الصراعات داخل السنّة تعمل على تغيير النزعة الجغرافية الطائفية، إذ يتم استبدال الصراع السعودي-الإيراني بالصراع بين إيران وتركيا، الخصمين التاريخيين في المنطقة.

في حين أن قطر هي حليفها العربي الوحيد، كانت أداة أنقرة الرئيسية هي جماعة الإخوان المسلمين. في السنوات الأولى التي أعقبت انتفاضات الربيع العربي أملت تركيا في ظهور جماعة الإخوان المسلمين كبديل رئيسي للأنظمة العربية. وقد كان صعودها إلى السلطة في تونس ومصر مشجعًا لأنقرة. لكن هذا التفاؤل لم يدم طويلًا عندما تمت الإطاحة في مصر بحكومة الإخوان في غضون عام من توليها السلطة.

وفي حين لم يتمكن السعوديون والإماراتيون من النجاح ضد إيران في سوريا، فقد تمكنوا من كبح جهود تركيا لتوسيع نفوذها عبر الإخوان المسلمين. من نواحٍ عديدة، لم تكن تركيا مستعدة للاستفادة من الربيع العربي على نطاق إقليمي نظرًا لأنها كانت خارج اللعبة في الشرق الأوسط لما يقرب من قرن. منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية وحتى صعود نظام أردوغان ركز الأتراك على أن يصبحوا قوة غربية، وعندما وصل حزب العدالة والتنمية ذو الجذور الإسلامية بزعامة أردوغان إلى السلطة، أعادت تركيا توجيه تركيز سياستها الخارجية نحو الشرق الأوسط.

كان هذا التحول مدفوعًا أيديولوجيًا أكثر منه جيو-سياسيًا. أدرك الأتراك أنهم لن يكسبوا عضوية الاتحاد الأوروبي التي كانوا يسعون إليها -دون جدوى- منذ عقود. إلى جانب أن العضوية في الاتحاد الأوروبي لم تعد جذّابة كما كانت من قبل. حاولت تركيا إعادة تأكيد نفسها كقوة إقليمية، ولم تعد راضية عن حصر نفسها في التصرف بشكل متعدد الأطراف كدولة عضو في الناتو، واتجهت بشكل متزايد نحو سياسة خارجية أحادية الجانب. والمنطقة الوحيدة التي يمكن أن تتابع فيها هذه الأجندة هي الشرق الأوسط.

على الرغم من أن تركيا هي أكبر قوة سياسية وعسكرية واقتصادية في الشرق الأوسط إلا أنها تواجه العديد من العقبات في طريقها إلى التعافي الجيوسياسي. ربما يكون الأهم على الجبهة الداخلية حيث يواصل حزب العدالة والتنمية الحاكم مواجهة العديد من التحديات. لقد بدأ الأمر مع «المؤسسة الكمالية» التي يقودها الجيش، والتي تمكنت من التغلب عليها بمساعدة حليفها السابق، «حركة غولن».

ومع ذلك لم يمض وقت طويل بعد إثبات التفوق المدني على الجيش حتى بدأ حزب العدالة والتنمية في الخلاف مع أتباع غولن، والذي بلغ ذروته في الانقلاب الفاشل لعام 2016، الذي سهّل جهود أردوغان لترسيخ نفسه في السلطة.

أدى انزلاق تركيا نحو الاستبداد إلى إضعاف حزب العدالة والتنمية كما يتضح من نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة، التي فقد فيها الحزب الحاكم السيطرة على مجالس البلديات في المراكز الحضرية الرئيسية الثلاثة في البلاد. وبعد سنوات عديدة من النمو الاقتصادي في ظل حكم الحزب فإن الاقتصاد التركي آخذ في الضعف. وفي الوقت ذاته فإن مشكلة الانفصالية الكردية التي طال أمدها تُقيِّد تركيا من وجهة نظر السياسة الداخلية والخارجية، إذ تجد نفسها على خلاف مع كل من الولايات المتحدة وروسيا فيما يتعلق بسياستها تجاه سوريا.

ولكن حتى لو كانت هذه العوامل المحلية تُقيّد رغبة تركيا في الحصول على وضع القوة العظمى، فلا يمكن للدولة أن تتجنب التورط في الصراع على أطرافها الجنوبية. بالفعل أصبحت البلاد موطنًا لحوالي 3 ملايين لاجئ سوري، ما يجعلها تخشى أن ينشط النفوذ المتنامي للأكراد السوريين، خاصة بعد أن لعبت الأقلية العرقية دورًا رائدًا في تفكيك خلافة داعش، ويؤدي إلى تنشيط حركة كردية محلية. أضف إلى ذلك أن تنظيم الدولة الإسلامية قد سقط ولكن لم يمت، بينما تهيمن الجماعات السلفية الجهادية على مشهد المتمردين في محافظة إدلب.

بعبارة أخرى، هناك الكثير من الدوافع الأخرى التي تحتم على تركيا زيادة تواجدها العسكري في سوريا، وبالطبع فإن الهدف الأول يتضمن الحد من الحكم الذاتي للأكراد السوريين. أنقرة بصدد تولي رعاية مختلف الفصائل المتمردة من أجل حشدها في قوة متماسكة قادرة على إضعاف السيطرة الكردية على المناطق التي كانت تحت سيطرة داعش سابقًا. وفي النهاية سترغب تركيا في تغيير طبيعة النظام السوري الذي يمكن القول إنه يمر بعملية انحلال لا رجوع فيها.

معركة إقليمية صفرية

أنقذت إيران النظام من الثوار، لكن بحلول الوقت الذي حدث فيه ذلك أصبح نظام الأسد أقل نفوذًا، فسوريا بلد في حالة تفكك حيث يقود الرئيس بشار الأسد أكبر «تحالف للميليشيات» وليس دولة فعلية. هذا الوضع الراهن غير مُستدام، والإيرانيون يفتقرون إلى الخيارات. وفي غضون ذلك يُصمِّم الأتراك على ملء الفراغ المتزايد على حدودهم الجنوبية.

تدرك إيران أنها مسألة وقت فقط قبل أن تشكل تركيا تهديدًا خطيرًا للمكتسبات التي حققتها في المنطقة منذ الثمانينيات. في المرة الأخيرة التي انخرطت فيها هاتان القوتان في منافسة جيوسياسية سيطر الأتراك على العراق وسوريا. والوضع الحالي هو انعكاس غير مسبوق للفرص لذلك يسعى الإيرانيون إلى توطيد أنفسهم قدر الإمكان لأن هذه الفرصة قد لا تأتي مرة أخرى لعدة قرون.

كل من هذه العوامل تضع تركيا مباشرة في مرمى إيران، وتدرك طهران أنه إذا كان هناك لاعب واحد يمكن أن يشكل تهديدًا لمصالحها فهو أنقرة. من وجهة النظر الإستراتيجية الإيرانية يعتبر الوضع الحالي لحظة تاريخية فريدة، فلأول مرة منذ أوائل القرن السابع يسيطر الفرس على بلاد ما بين النهرين والشام. علاوة على ذلك فإنهم يرون أن منع الأتراك من العالم العربي بديل عن منعهم هم أنفسهم من قبل تركيا، كما كان الحال خلال الصراع العثماني-الصفوي.

كان للجمهورية الإسلامية ما يقرب من 30 عامًا من السبق في إبراز نفوذها في العالم العربي، بينما لا يزال الأتراك يكافحون في الأطراف الشمالية لسوريا، ومع ذلك لا يمكن لإيران أن تأخذ هذا الوضع كأمر مُسلَّم به لأن تركيا قوية وطموحة في المنطقة، وبالتالي فإن الموقف الإيراني في سوريا (وبالتالي نطاق نفوذها الإقليمي) ضعيف للغاية. ما يعني أن الإيرانيين سيعملون بجد للحد من قدرة تركيا على كسب موطئ قدم في البلاد.

على العكس من ذلك، لكي تكون تركيا لاعبًا إقليميًا سيتعين عليها كسر الحصار الإيراني في العراق وسوريا. يُعد شمال العراق (خاصة منطقة سنجار) جزءًا مهمًا يسمح لإيران باستخدام الانفصالية الكردية للتحقق من طموحات تركيا في كل من العراق وسوريا بينما تدير المشكلة نفسها في الداخل. هذه نتيجة مباشرة لظهور طهران باعتبارها المستفيد الأكبر من هزيمة داعش. إنه شرط أساسي لتكون قادرًا على لعب دور أكبر في شبه الجزيرة العربية/منطقة الخليج، والشرق الأوسط الأوسع. ومثل طهران، ترى أنقرة أيضًا أن الفراغ الناجم عن الانهيار الاستبدادي في العالم العربي فرصة لتعزيز طموحاتها الإستراتيجية.

صحيح أن الأتراك والإيرانيين في الوقت الحاضر يلعبون بلطف مع بعضهم البعض، لكن هذه لحظات سريعة الزوال. وستقودهم ضروراتهم إلى الاصطدام مع بعضهم البعض بغض النظر عن تفضيلاتهم الشخصية، فإيران تعتبر نفسها المُدافِع عن المصالح الشيعية وطليعة «محور المقاومة» في المنطقة، كما ترى تركيا نفسها بطلة المسلمين السنّة.

بؤر صراع جديدة

تحتاج إيران إلى حماية جناحها الغربي الممتد إلى البحر الأبيض المتوسط – الطريق السريع التاريخي الذي شهدت منه العديد من الغزوات عبر التاريخ. ومن الناحية المثالية تريد طهران من حلفائها تشكيل حكومات قوية في العراق وسوريا ولبنان، ولكن من الواضح أن هذا غير مُرجَّح الحدوث، لذلك ستركز على ضمان أن وكلاءها في البلدان الثلاثة يمكنهم الاحتفاظ بنفوذهم الحالي.

من وجهة نظر تركيا تقف إيران في طريقها، والسنّة المجزأة بشدة تتوق إلى راعٍ. بالطبع بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين ليست الأماكن الوحيدة التي يحاول الأتراك الدخول إليها، فأنقرة تحاول إنشاء مجال نفوذ في الفراغ الإستراتيجي الذي في ليبيا. ومع ذلك فإن دولة شمال أفريقيا الغنية بالطاقة هي جسر بعيد جدًا في الوقت الحالي لا سيما مع المنافسة التي تواجهها من روسيا والإمارات ومصر.

في المستقبل المنظور ستكون ليبيا «بؤرة استيطانية» تركية بعيدة المدى في البحر الأبيض المتوسط، وستكون الساحة الرئيسية لتركيا هي حدودها البرية مع العالم العربي والأماكن التي لا تستطيع فيها تجنب الصراع مع إيران، خاصة مع تراجع النفوذ الروسي بسبب قيوده المالية المتزايدة.

بينما سيكون المسرح الرئيسي للصراع الجيوسياسي التركي-الإيراني هو بلاد الشام، ظهرت ساحة معركة جديدة غير متوقعة تشمل هاتين القوتين في شكل حرب بين أذربيجان وأرمينيا في ناغورنو كاراباخ، والتي أثبتت أنها نقطة تحول. فقد استشعر الأتراك الضعف الروسي ورأوا انفتاحًا واستغلوه من خلال تقديم دعم وثيق للعمليات العسكرية الأذربيجانية، التي أدت إلى استعادة «باكو» لمساحات شاسعة من الأراضي التي فقدتها لصالح الأرمن في أوائل التسعينيات. إن عدم قدرة روسيا على منع الأتراك من إحداث هذا التحول في ميزان القوى في جنوب القوقاز يدل على تصميم تركيا على توسيع مجال نفوذها عبر منطقة جغرافية واسعة.

خلقت المكاسب الإقليمية التي حققتها أذربيجان حقيقتين جديدتين:

  • أولًا: أن تركيا تمتلك الآن ممرًا بريًا من ناخيتشيفان عبر ناغورنو كاراباخ إلى البر الرئيسي لأذربيجان وما وراءه إلى بحر قزوين وآسيا الوسطى.
  • ثانيًا: أن أذربيجان لديها الآن حدود أطول مع إيران، وهو ما يمثل تهديدًا كبيرًا لطهران، نظرًا للأقلية العرقية الآذرية المضطربة، خاصة في وقت تتعرض فيه إيران لضغوط كبيرة على جبهات عديدة (مالية، هجمات إسرائيلية) على مواقعها في بلاد الشام، وحتى في الداخل.

لقد أدخل الأتراك أنفسهم في جنوب القوقاز من خلال رسم مسار جيوسياسي بين الروس في الشمال والإيرانيين في الجنوب.

منْ يقود الحملة ضد النفوذ الإيراني؟

يمكن قياس درجة التهديد التي يشعر بها الإيرانيون من المكاسب التركية على حدودهم الشمالية من تغريدة وزير الخارجية الإيراني في 11 ديسمبر/كانون الأول 2020، التي انتقد فيها أردوغان بمرارة بسبب تلاوة قصيدة أذربيجانية-إيرانية عن تقسيم أراضي أذربيجان بين روسيا وإيران في القرن التاسع عشر، قائلًا:

لم يتم إبلاغ الرئيس أردوغان بأن ما تلاه بشكل سيئ في باكو يشير إلى الفصل القسري بين المناطق… من (الوطن) الإيراني… لا أحد يستطيع الحديث عن أذربيجان الحبيبة.

وبالنظر إلى أن تركيا وإيران (على الرغم من كونهما على طرفي نقيض للحرب في سوريا) تربطهما علاقات وثيقة، فإن تغريدة ظريف تمثل تحولًا ملحوظًا في مضمون العلاقات الثنائية.

في الواقع، أظهرت تقارير وسائل الإعلام أن تصريحات أردوغان اعتُبرت مسيئة للغاية، ومن الواضح أن طهران تشعر بالتهديد من أن نتيجة حرب 2020 خلقت وضعًا يمكن أن يثير الميول الانفصالية بين الأقلية الآذرية في إيران. وقد شمل رد الفعل الإيراني أيضًا استدعاء السفير التركي لدى وزارة الخارجية، حيث «أُبلغ بانتهاء عهد المطالبات الإقليمية والإمبراطوريات التوسعية. إيران لا تسمح لأي شخص بالتدخل في سلامتها الإقليمية».

إحساس إيران بالضعف ينبثق من حقيقة أن أسلوب عملها الجغرافي الطائفي قد فشل في حالة أذربيجان، على الرغم من أنها دولة ذات أغلبية شيعية، إلا أن الطابع العلماني لأذربيجان عزلها عن الجهود الإيرانية لتوسيع نفوذها. وكانت إيران تشعر بالارتياح لفترة طويلة من حقيقة أن حليفها أرمينيًا كان له اليد العليا في نزاع ناغورنو كاراباخ وأن الروس كانوا يديرون الموقف.

الآن بعد أن أصبحت أنقرة وحليفتها باكو مُستندتين إلى أسس قوية، سيتعيَّن على الإيرانيين القلق بشأن الأتراك، ليس فقط في الغرب ولكن أيضًا في الشمال. ما يثير الاهتمام في كل هذا هو أن أيًا من الطرفين لا يسعى إلى صراع مع الآخر، لكن أهداف كل منهما التي تشكّلت من خلال محيط جغرافي مشترك تُوجهه نحو صراع أكبر. ستبقى منطقة جنوب القوقاز ساحة ثانوية لإيران وتركيا لأن دول المنطقة لا تزال قوية. لكن في تناقض حاد فإن العراق وسوريا دولتان ممزقتان حيث تمثل الجهات المسلحة غير الحكومية القوات الأساسية، والتي ستكون في السنوات المقبلة ساحة المعركة الرئيسية بين تركيا وإيران.

العلاقة بين تركيا وإيران تجعل من الصعب رؤية المنافسة المتنامية، وغالبًا ما يتعزز مفهوم الاصطفاف التركي-الإيراني من خلال المبادرات الدبلوماسية المتكررة والاتفاقيات الثنائية ودعم بعض الحلفاء ضد الخصوم المشتركين على ما يبدو، وهذا من شأنه أن يُفسِّر سبب حديث الأشخاص المطلعين للغاية عن محور (تركيا وإيران وقطر) مقابل الكتلة التي تضم (المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل ومصر).

غالبًا ما يدور الحديث في الدوائر السياسية عن الحاجة إلى دحر النفوذ الإيراني في المنطقة. لكن السؤال هو: منْ سيقود هذا الجهد؟ فإيران ووكلاؤها لن يُطردوا من العالم العربي دون تدخل قوة خارجية. وبالتأكيد لا تريد الولايات المتحدة الالتزام بحملة عسكرية كبيرة أخرى، لا سيما في الشرق الأوسط. إن إسرائيل معنية فقط بالتأكد من أن الإيرانيين لن يرتاحوا كثيرًا إلى حيث يهددون الدولة اليهودية، وهذا يجعل تركيا القوة الوحيدة التي لديها النية والقدرة على مواجهة الإيرانيين… قد لا يحدث ذلك لبعض الوقت، لكنه أمر حتمي.