لم تكد تخفت أنغام الاحتفالات الشعبية بفوز الرئيس «رجب طيب أردوغان»، حتى استيقظ الأتراك على تراجع تاريخي غير مسبوق شهدته عملة البلاد (الليرة التركية) أمام الدولار الأمريكي، حيث كسرت حاجز 6 ليرات للدولار واحد، مع قرب وصولها لـ 7 ليرات، وهو مالم يحدث منذ أكثر من 16 عامًا.دوران في الرأس والعيون صاحب هذا التراجع لبحث الأسباب التي تقف وراءه، فيما انحسرت أغلبها بين اتجاهين، أحدهما يرى أن مؤامرة خارجية تقودها الولايات المتحدة الأمريكية هي السبب الرئيسي وراء هذا الانهيار، وآخر يعتقد أن سياسات الحكومة وتحديدًا أردوغان هي التي أسهمت في نتائج ما حدث.


عصا المال المؤلمة

أدرك الأمريكيون جيدًا من أين تؤكل الكتف، وتوجهت سياساتهم مؤخرًا نحو استهداف قوة مشروع العدالة والتنمية في الحكم المرتكز على تحقيق نجاحات اقتصادية متتالية. مشاهد متسارعة حدثت في المشهد التركي في الساعات القليلة الماضية، بدأت عندما أعلنت تركيا عدم الإفراج عن القس الأمريكي أندرو برونسون، تلاها تهديد من مايك بنس مستشار الأمن القومي ثم دونالد ترامب بفرض عقوبات واسعة على تركيا.حاولت أنقرة تهدئة الوضع بالأساس عندما قررت وضعه تحت الإقامة الجبرية بدلًا من حبسه، رغم اتهامها له بالتجسس لصالح حزب العمال الكردستاني وجماعة غولن الإرهابيين، وهو الأمر الذي يدفع نحو التعجب من دلالة وتوقيت العقوبات في وقت كان يُنتظر فيه حدوث عكس ذلك. لاسيما بعد دخول الخلاف الأمريكي – التركي الثلاجة بعد اتفاق منبج.

اقرأ أيضًا: هل اصطدمت «درع الفرات» بفيتو أمريكي – روسي؟

بسرعة مفاجئة، فرضت الإدارة الأمريكية عقوبات اقتصادية على وزيري العدل والداخلية التركيين رغم عدم ملكيتهما أرصدة في واشنطن.حاول وزير الخزانة والمالية التركي الحد من التأثيرات السلبية لهذا القرار على الوضع الاقتصادي المهتز من خلال تصريحات هدفها خلق أجواء إيجابية، فسارعت واشنطن إلى الإعلان مجددًا عن مراجعتها إجراءات دخول البضائع التركية المعفاة من الرسوم الجمركية إلى السوق الأمريكية، وهو الإجراء الذي قد يؤثّر عمليًّا على قرابة 1.7 مليار دولار من البضائع التركية التي تدخل السوق الأمريكية.


عاد بخفي حنين

استردت الليرة التركية جزءًا ضئيلًا من عافيتها مع زيادة التوقعات الإيجابية بعودة العلاقات إلى صفائها بين واشنطن وأنقرة مع قرب الاجتماع الذي سيحدث في أمريكا. ذهب الوفد التركي إلى واشنطن على أمل إنهاء فترة من التوتر الكبير في العلاقات. ذهب الوفد وهو يدرك أنه ليس من مصلحته استمرار العداء مع حليفه الاستراتيجي الأكبر، إلا أن واشنطن أصرت على شرط الإفراج عن القس الأمريكي المتهم بالتآمر مع جماعة غولن فضلًا عن أعضاء الأخيرة المعتقلين على خلفية نفس القضية ممن ينتمون للجنسية الأمريكية. حاولت أنقرة الضغط بانسحاب الوفد سريعًا من واشنطن والعودة للبلاد، إلا أن الإدارة الأمريكية وجدت أن الكيل قد فاض بسياسات أردوغان خارج السرب، فأرادت إخضاعه بقسوة هذه المرة، ففي الوقت الذي تقود فيه واشنطن حملة دولية لإسقاط نظام الحكم في إيران، خرجت أنقرة لتعلن رفضها لسياسات واشنطن، بل أعلنت أنها لن تلتزم بقرارات أمريكا ضد طهران، في تحدٍ واضح لاستراتيجية ترامب، يأتي ذلك بعد أيام من قيادة تركيا للحراك المعارض لقرار ترامب حول القدس، فضلًا عن إصرار تركيا على الحصول على منظومة إس- 400 الروسية فائقة التطور.

اقرأ أيضًا: الطريق لم يبدأ بـ S 400: رحلة تركيا إلى الاستقلال العسكري

اضطرت تركيا في النهاية لفرض عقوبات مماثلة لوزراء العدل والداخلية الأمريكيين لحفظ ماء وجهها، لكنها فوجئت بتصعيد جديد تمثل في قرار ترامب رفع سعر الألمنيوم والصلب على تركيا.يسعى ترامب للفوز بأصوات الجناح الإنجيلي الصهيوني المناوئ للعدالة والتنمية في انتخابات التجديد النصفي المقبلة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، ولذا من المحتمل أن يزيد الضغط الأمريكي على أنقرة.


بيدي لا بيد عمرو

يبدو أن أصحاب نظرية المؤامرة محقون في جزء من تصورهم لما يحدث، إذ استهدفت القرارات الأمريكية ضرب حالة الاستقرار الاقتصادي المتوقع حدوثه بعد استقرار النظام السياسي في أنقرة، إلا أن الأمر ليس صحيحًا على إطلاقه، فللحقيقة وجه ثانٍ.لا يمتلك الاقتصاد التركي قاعدة صناعية رأسمالية قوية تمكنه من تحمّل الضغوط المحلية والإقليمية والدولية، إذ يظل عنصر الاستثمار الأجنبي أحد أهم أضلاع معادلة النهضة الاقتصادية، وهو رهن للوضع السياسي. كذلك العامل الأكبر في سوء الأوضاع الحالية يعود إلى الاستبداد بالقرار الذي يفرضه أردوغان فيما يخص الشأن الاقتصادي، وهو ما أشعل الخلافات داخل الحكومة التركية حول الاستراتيجية الاقتصادية التي ستتبعها في المرحلة المقبلة. يستهدف فيها أردوغان تحقيق نمو اقتصادي واستهلاكي متسارع، متجاهلًا الغطاء الكافي لتحقيق ذلك، بينما يعتقد المسئولون الاقتصاديون أن الأهم ضبط المؤشرات المالية والسياسة النقدية، وسرعة معالجة التضخم ورفع أسعار الفائدة، للتحكم في انهيار الليرة، ومعالجة ملف الديون الذي وصل إلى أربعة تريليونات ليرة. استغلت الوكالات الاقتصادية العالمية تدخل الرئيس في الاقتصاد وتعديه على صلاحيات محافظ البنك المركزي لتبث الذعر في نفوس المستثمرين من التوجه نحو أنقرة. سعى أردوغان لإقصاء المعارضين لسياساته الاقتصادية؛ إذ قام بعزل محمد شيمشيكالمستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء لمعارضته توجهات أردوغان، وقام بتعيين صهره ألبيراق مسئولًا عن الشأن الاقتصادي برمته بعد أن دمج الوزارات المسئولة عن الملف المالي والتجاري والاستثماري في جهة واحدة وقام بتولية مسئول خاضع لرؤيته بها.

اقرأ أيضًا: بيرات ألبيراق: هل يصبح صهر أردوغان رئيس تركيا القادم؟

واصل أردوغان التحكم في سياسات البنك المركزي من خلال تحديد مدة محافظه، بعد أن عارض محافظ البنك المركزي سياساته علانية، وهو أمر جديد دفع نحو انهيار الليرة سريعًا.لكن لا يزال الاقتصاد التركي قادرًا على تجاوز الأزمة الحالية إذا قرر أردوغان رفع يده عن التدخل في الشأن الاقتصادي وإعادة شيمشيك إلى منصبه، ومنح المسئولين الاقتصاديين استقلاليتهم في اتخاذ القرارات، أما إذا قرر الرئيس التركي تجاوز كل ذلك والاستمرار في توجهاته، والاعتقاد بنظرية المؤامرة وحدها في تفسير ما يحدث، فربما يكون الوضع كارثيًّا، كما يتوقع خبراء اقتصاديون.على الجهة الأخرى، يبقى الاقتصاد التركي بحاجة إلى تهدئة الأزمات السياسية الخارجية، فليس منطقيًّا ولا متوقعًا أن تظل جبهات تركيا الخلافية مفتوحة على مصراعيها، وغالبًا لن تتدهور الأمور ، ولن تصل الليرة التركية للانهيار الكامل، إلا أن ذلك رهين بتحسن سياسات إدارة الملف الاقتصادي داخليًّا، وتحسن الأخير رهين بتفكك أزمات السياسة الخارجية التركية مع الغرب، خاصة الولايات المتحدة، ومحاولة تسوية الحرب الأهلية السورية بأسرع فرصة، وتحسين العلاقات مع الخليج، وإدارة الخلاف بهدوء مع الحليف الأمريكي وطمأنته من أن التوجه الخارجي لأنقرة لن يكون لصالح الدب الروسي، حينها يمكن للوضع أن يستقر قليلًا.وإذا قررت واشنطن إزاحة العدالة والتنمية من الحكم بوضعه تحت تهديد وجودي اقتصادي – وهو سيناريو مستبعد – فإن تركيا ستتوجه حتمًا نحو محور الصين وروسيا وإيران، لكن ذلك إذا لم تقرر أنقرة الخضوع لإملاءات واشنطن وأرادت الصمود.صدّر العدالة والتنمية مشروع النظام الرئاسي للشعب التركي باعتباره الوسيلة المثلى لتحقيق نهضة تركية كبرى تعرقلها صراعات النظام البرلماني، إلا أن الانهيار غير المسبوق الحادث هذه الأيام يشير أن للمستقبل وجوهًا أخرى مجهولة، أو على الأقل متغيرة.