تشتعل الساحة السياسية التركية بأجواء التنافس الشرس على اجتذاب أكبر نسبة من المؤيدين استعدادًا لانتخابات 14 مايو/أيار، التي يُنظر إليها كمفترق طرق يتوقف عليه مصير الديمقراطية في هذا البلد، وتشير استطلاعات الرأي إلى إقبال قياسي متوقع للناخبين.

وتنحصر المنافسة فعليًا بين الرئيس رجب طيب أردوغان، وكمال كليتشدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري ومرشح «تحالف الأمة» المعارض.

ويفوز بالرئاسة من أول جولة المرشح الذي يحصل على أكثر من نصف الأصوات، وإلا سيتم إجراء جولة ثانية في 28 أيار/مايو بين أكثر اثنين حاصلين على أعلى عدد من الأصوات، كما تُجرى الانتخابات التشريعية في نفس يوم الانتخابات الرئاسية.

تحالف الجمهور

يترشح أردوغان ممثلًا لـ«تحالف الجمهور» وهو يضم حزب «العدالة والتنمية» الذي يتزعمه، وحزب «الحركة القومية» بزعامة دولت بهشلي وهو حزب قومي محافظ، ويرتكز التحالف على هذين الحزبين بشكل رئيسي، بحانب بعض الأحزاب الصغيرة كحزب «الهدى» (يعرف أيضًا بحزب «الدعوة الحرة») بزعامة زكريا يابجي أوغلو، وهو حزب إسلامي كردي، وحزب «الرفاه الجديد» بزعامة فاتح أربكان نجل الأب الروحي لتيار الإسلام السياسي التركي، نجم الدين أربكان.

ويضم التحالف أيضًا حزب «اليسار الديمقراطي» بزعامة محمد أكساكال، وهو حزب قومي علماني، وحزب «تركيا الكبير» بزعامة حسين دورماز، وهو حزب ليبرالي قومي، وحزب «الطريق الصحيح» بزعامة شيتين كوز، ويوصف بأنه محافظ، وحزب الاتحاد الكبير بزعامة مصطفى دستينجي، وتوجهه مشابه لحزب الحركة القومية.

وعلى الرغم من ارتفاع حظوظ أردوغان الذي فاز حزبه في جميع الانتخابات السابقة، فإنه يواجه هذه المرة تحديات مقلقة أبرزها تراجع الحالة الاقتصادية وتأثيرها السلبي على الأوضاع المعيشية، وكذلك نزوع قطاع من الناخبين إلى التجديد ورغبتهم في نظام أكثر ديمقراطية وإنهاء تفرد العدالة والتنمية بالسلطة.

وتأتي الانتخابات كذلك بعد ثلاثة أشهر تقريبًا من وقوع زلزال 6 فبراير/شباط الذي قتل عشرات الآلاف وأدى لنزوح أعداد كبيرة من المواطنين، ولهذا الحدث صلة وثيقة بالانتخابات؛ فتصويت المواطن سيتأثر بتقييمه لتعامل الحكومة مع هذه الكارثة.

كما أن معظم المناطق التي ضربها الزلزال معروفة بأنها تقليديًا مؤيدة لأردوغان، ومن المتوقع ألا يصوت مليون ناخب في هذه المناطق بسبب النزوح عن أماكنهم وفقًا لما ذكره رئيس اللجنة العليا للانتخابات، أحمد ينر.

واختار أردوغان يوم 14 مايو/أيار تحديدًا ليوافق ذكرى أول انتخابات حرّة تشهدها تركيا، فاز بها زعيم الحزب الديمقراطي، عدنان مندريس عام 1950، وأطاح بحكم حزب الشعب الجمهوري الذي يتزعمه اليوم منافس أردوغان المدعوم من تحالف الأمة المعارض، ويعد هذا التاريخ يومًا مشهودًا في مسيرة الديمقراطية التركية.

تحالف الأمة

يترشح كمال كيليتشدار أوغلو، ممثلًا لـ«تحالف الأمة»، ويترأس حزب «الشعب الجمهوري»، أبرز أحزاب المعارضة، وهو حزب علماني أنشأه مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية، وفي الانتخابات الرئاسية الماضية قدّم الحزبُ المرشحَ المنافسَ لأردوغان، وهو اليوم يقود تحالف الأمة المكون من ستة أحزاب في سبيل إنهاء عهد العدالة والتنمية الذي زاد عن عقدين.

وحزب «الجيد» هو ثاني أكبر أحزاب المعارضة، وهو حزب قومي تتزعمه وزيرة الداخلية السابقة، ميرال أكشنار، المنشقة عن حزبي العدالة والتنمية، والحركة القومية، ومؤخرًا تنازلت عن الترشح لرئاسة الجمهورية بعد تحالفها مع كيليتشدار أوغلو.

ويضم التحالف المعارض أيضًا أربعة أحزاب صغيرة هي حزب «الديمقراطية والتقدم»، وحزب «المستقبل»، وحزب «السعادة»، و«الحزب الديمقراطي» الذي يقوده غول تكين أويصال.

ويقود حزب الديمقراطية والتقدم، علي باباجان، وزير الخارجية والاقتصاد سابقًا قبل أن ينشق عن العدالة والتنمية ويؤسس هذا الحزب الليبرالي المحافظ.

كما يقود حزب «المستقبل» رئيس الوزراء الأسبق، أحمد داود أوغلو، بعد انشقاقه عن حزب العدالة والتنمية مع عدد من السياسيين، والحزب محسوب على التيار المحافظ، لكنه يعارض أردوغان ويرى أن حزبه حاد عن مبادئه.

ويضم التحالف السداسي أيضًا حزب السعادة الذي أسسه الزعيم الإسلامي الراحل، نجم الدين أربكان، ويتزعمه حاليًا تمل كرم الله أوغلو، ونظرًا للتناقض الأيديولوجي العميق بين هذا الحزب المقرب من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وكيليتشدار أوغلو فإن قيادة الحزب لاقت معارضة داخلية قوية.

ومؤخرًا تم رفع صورة مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك على واجهة مقر الحزب لأول مرة، مع ترديد شعارات «تركيا علمانية»، وأعرب العديد من أعضاء حزب السعادة عن رفضهم ترشيح زعيم حزب الشعب الجمهوري العلماني، ورفضهم لخط سير الحزب بشكل مجمل.

وفي تشرين الأول/أكتوبر الماضي شكل عدد من قادة الحزب تكتلًا معارضًا تحت مسمى «هيئة اتفاق هيمانا»، تدعو للرجوع لمبادئ رئيس الوزراء الراحل نجم الدين أربكان، واليوم تعارض هذه المجموعة ترشيح كليتشدار أوغلو، وأعلنوا أن قرارات إدارة الحزب غير ملزمة لهم ولا تعبر إلا عن موقف رئاسة الحزب، بينما ترفض أغلب قواعد الحزب هذا الموقف، واتهموا رئيس السعادة بفقدان الشرعية وخيانة القضية مقابل منصب نائب الرئيس وعدد من النواب.

وسبق أن انشقت مجموعة عن الحزب وكونوا حزب الرفاة الجديد بزعامة فاتح أربكان، ويرى الحزب الجديد نفسه حاملًا لإرث نجم الدين أربكان بعدما حاد السعادة عن طريقه.

أزمة حزب الشعوب الديمقراطي

يقود حزب الشعوب الديمقراطي سياسيون أكراد يساريون، ويهيمن على تحالف «العمل والحرية» اليساري الذي يضم ستة أحزاب صغيرة، وعلى الرغم من أن الحزب خارج التحالف السداسي المعارض فإنه يدعم كيليتشدار أوغلو رسميًا.

ويُعتقد أن هذا الحزب يتبعه من 10% إلى 13% من الناخبين، لكن دعمه لكيليتشدار أوغلو جاء بأثر عكسي بالنسبة للكثيرين لأن الحزب الكردي متهم بأنه الذراع السياسي لحزب العمال الكردستاني الانفصالي والمدرج على لوائح الإرهاب لتورطه في حرب عصابات امتدت لعقود وراح ضحيتها عشرات الآلاف من القتلى، لذلك ينفر أغلبية الأتراك بشدة من هذا الحزب رغم نفيه لتلك التهمة.

ويهدف حزب الشعوب الديمقراطي إلى إسقاط حكم أردوغان والتوصل إلى صيغة لحل القضية الكردية بما يشمل وقف الحملات الأمنية ضد الميليشيات الكردية في تركيا وسوريا والعراق، ويبدو أن الحزب توصل لتفاهمات غير معلن عنها مع كيليتشدار أوغلو تخص ترتيبات مرحلة ما بعد إسقاط أردوغان وتتعلق بإقرار حقوق وحريات أكبر للحزب الذي عانى من سحب إدارة البلديات من ممثليه على يد حكومة العدالة والتنمية لاتهامهم بدعم الإرهاب.

وتلكأ الحزب في دعم كيليتشدار أوغلو واكتفى في البداية بعدم ترشيح منافس له لعدم تفتيت أصوات المعارضة لكنه خشي من أن خيار عدم دعمه لمرشح المعارضة وحشد الأصوات له قد يترك قواعده الانتخابية عُرضة للتأثر بدعاية وخطابات الأحزاب الأخرى في هذا التوقيت الحرج.

ويعد التقارب مع الحزب الكردي خطًا أحمر بالنسبة لميرال أكشنار زعيمة حزب الجيد مدفوعة بالمعارضة الشديدة داخل حزبها القومي لأي تقارب من هذا النوع، لذلك منعت دخول الأكراد في التحالف السداسي المعارض، فالتقى كيليتشدار أوغلو بقادة الحزب الكردي وحصل على دعمهم الرسمي له، مما وضع ميرال أكشنار في حرج بالغ أمام حزبها وقواعدها الشعبية.

واستقال ألف عضو من حزب الجيد، احتجاجًا على تقارب مرشح المعارضة مع الحزب الكردي، وتلقوا تكريمًا من الرئيس أردوغان، وانضموا إلى حزبه، كما أعلن 300 عضو استقالتهم من حزب أحمد داود أوغلو وانضموا إلى حزب العدالة والتنمية لنفس السبب.

وهناك مسألة حساسة أخرى وهي انتماء كيليتشدار أوغلو إلى الطائفة العلوية، مما زاد من نفور قطاع كبير من الناخبين من ترشيحه؛ فالمتدينون لا يريدون انتخاب رئيس علوي، والقوميون لا يريدون انتخاب رئيس موالٍ للانفصاليين الأكراد، وهناك قطاع محافظ من الأكراد يتخذ موقفًا سلبيًا مبدأيًا من حزب الشعب الجمهوري.

لذلك تعد مخاطبة الشريحة المحافظة من الناخبين مهمة صعبة على مرشح المعارضة، وهذا سر تكثيف الدعاية الانتخابية في المناطق المعروفة بتوجهها المحافظ لعلها تسهم في اجتذاب أي نسبة من هذه الأوساط، كما تبرز هنا أهمية وجود رموز لها وزنها لدى المحافظين مثل أحمد داود أوغلو وعلي باباجان ورئيس حزب السعادة كرم الله أوغلو، مع أن حجم تأثيرهم يظل مشكوكًا به.

وكذلك لم ينجح حزب العدالة والتنمية في كسب ود الطائفة العلوية في البلاد رغم الخطوات التي بذلها في هذا السبيل، وبالتالي يمكن افتراض أن الصوت العلوي محجوز تلقائيًا لمرشح حزب الشعب الجمهوري، فعلى الرغم من إيلاء العامل الاقتصادي الأولوية لدى الناخبين في هذا الاستحقاق فإن مسألة الهوية يظل لها وزنها الهائل الذي لا يمكن تجاوزه.

محرم إينجه وأوغان

يكرر محرم إينجه ترشحه ضد أردوغان بعدما حصد أكثر من 30% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية عام 2018، ويتمتع بشخصية كاريزمية وتأثير واسع مما أهله ليترشح المرة الماضية ممثلًا لحزب الشعب الجمهوري بدلًا من رئيس الحزب الذي لا يجاريه في تلك المؤهلات.

وقد انشق إينجه عن حزب الشعب الجمهوري ويترشح في الانتخابات الحالية منفردًا، مما سبب إزعاجًا كبيرًا لمرشح المعارضة فالتقى به وحاول إقناعه بالعدول عن الترشح دون جدوى، إذ لا يُتوقع أن يحصل إينجه سوى على نسبة ضئيلة جدًا من الأصوات.

أي أن ترشحه يمنحه الفرصة للتأثير على نتيجة الانتخابات دون الفوز بها، ويرجح أن يكون هذا التأثير لصالح أردوغان لأنه يفتت الكتلة التصويتية المعارضة في معترك انتخابي حاسم قد تصنع فيه تلك النسبة الصغيرة المؤيدة له فرقًا كبيرًا.

كما يشارك في هذا السباق الانتخابي السياسي المتطرف، سينان أوغان (55 عامًا)، الذي يشتهر بانتمائه لحركة الذئاب الرمادية القومية المتهمة بالإرهاب، وقد تعرض للطرد من حزب الحركة القومية سابقًا بعد أن كان مقربًا من رئيسه دولت بهشلي.

 ويترشح أوغان اليوم ممثلًا عن تجمع أحزاب صغيرة تجمعها نزعات عنصرية ويتمحور خطابها حول معاداة اللاجئين، وليست له شعبية كبيرة، ولا حظوظ تذكر في الانتخابات الرئاسية.

حسابات الداخل والخارج

تحولت مسألة اللاجئين وخاصة السوريين إلى قضية انتخابية في تركيا؛ فعلى الرغم من موافقة المرشحَين الرئيسيَين على مبدأ إرجاع اللاجئين إلى بلادهم لكنهما يختلفان في تفاصيل تنفيذ هذا المبدأ؛ فكليتشدار أوغلو وعد بإرسال جميع اللاجئين في تركيا إلى بلادهم خلال عامين من استلامه السلطة، وإعادة النظر في تسهيلات التأشيرة مع مختلف الدول، ومراجعة اتفاق اللاجئين مع الاتحاد الأوروبي، والتفاوض مع الرئيس السوري بشار الأسد بشأن عودة اللاجئين إلى سوريا .

وبدلًا من ذلك وعد المواطنين الأتراك بالسفر من دون تأشيرة إلى دول الاتحاد الأوروبي «منطقة شنجن»، إذا تم انتخابه، وذلك في غضون ثلاثة أشهر فقط، من دون توضيح كيفية تحقيق هذا الإنجاز.

ويبلغ عدد اللاجئين في تركيا نحو 5.5 مليون، معظمهم من سوريا، وقد تغير المزاج المجتمعي المرحب باللاجئين وصار يُنظر إليهم على نطاق واسع باعتبارهم عبئًا على الدولة، وأحد أسباب أزمتها الاقتصادية، خاصة مع تكريس بعض الرموز القومية المتطرفة جهودهم لشحن المجتمع ضد السوريين، فتحول أغلب الجمهور المؤيد لحزب العدالة والتنمية لتبني مطالب ترحيل اللاجئين الذين -وللمفارقة- باتوا يشاركونهم هذه الرغبة ويريدون الرحيل من تلقاء أنفسهم بسبب تفاقم التمييز العنصري في تركيا، لكن أغلبهم يتطلع للذهاب إلى بلد ثالث نظرًا لتدهور الأوضاع في سوريا.

وتستغل الأحزاب المعارضة قضية اللاجئين للمزايدة على العدالة والتنمية مما دعا الأخير لتبني خطط إعادة السوريين إلى بلادهم، وصار مسؤولو الحزب يتفاخرون بعدد عمليات الترحيل، وإن ظل أردوغان يرفع شعار العودة الطوعية والآمنة، ويمضي قدمًا في مشروعات تشييد مساكن لاستيعاب العائدين في مناطق آمنة في شمال سوريا ينتشر فيها الجيش التركي.

وبعد الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا مؤخرًا اشتعلت حملات كراهية عنيفة ضد السوريين وسعى الرئيس التركي للتقارب مع نظام بشار الأسد قبل الانتخابات بهدف إبطال حجج المعارضة التي تصر على ضرورة الانفتاح على دمشق لحل أزمة اللاجئين.

وتظل نتيجة الانتخابات المقبلة غير محسومة سلفًا، بل يشحذ حزب العدالة والتنمية همم مؤيديه لموازنة الكفة في مواجهة الترتيبات غير المسبوقة للمعارضة التي تكتلت ضده في معسكر واحد خلف مرشح واحد لأول مرة، وتناسى خصوم أردوغان خلافاتهم شديدة العمق في سبيل تحقيق هدفهم المشترك وهو الإطاحة به وإنهاء حكمه الممتد منذ عام 2002.

ولا يمكن اعتماد نتائج استطلاعات الرأي على أنها مرآة عاكسة بدقة لاتجاهات التصويت، وذلك لعدة أسباب منها أن هناك شريحة تصويتية وازنة تعاني من التردد في الاختيار ولا تحسم أمرها إلا قبيل الاقتراع، وكذلك لوجود جهات ذات مصالح تقف وراء نشر نتائج معينة لاستطلاعات الرأي بهدف التأثير على آراء المواطنين وليس مجرد رصدها؛ فعلى سبيل المثال يشير النائب البرلماني عن حزب العدالة والتنمية، أمر الله إيشلر، إلى أن بعض استطلاعات الرأي التي توقعت تفوق كليتشدار أوغلو تم إجراؤها بتمويل من المعارضة، ونفس الأمر يصح قوله بالنسبة للطرف الآخر أيضًا الذي يسعى للجوء لكل الأساليب الممكنة لإدامة حكمه.