بالمصادفة وحدها وقبل ثلاثة أسابيع كنت أقضي إجازة نهاية الأسبوع، وقررت فيها مشاهدة فيلمين بشكل متتالٍ، أولهما «ثلاثة لوحات إعلانية خارج بلدة إيبينج بولاية ميزوري – Three Billboards Outside Ebbing, Missouri»، ومبعث اهتمامي به هو عشقي لبطلة الفيلم «فرانسيس مكدورماند» نجمة أفلام عظيمة أخرى أحبها لقلبي «Fargo» في 1996، و«Burn After Reading» في 2008، وعشقي لزوجها «جويل كوين» الذي يكوّن مع أخيه «إيثان كوين» ثنائي الإخراج الاستثنائي «الأخوين كوين» مخرجا أفلام بقامة «No Country for Old Men» عام 2007.

حصد الفيلم الأول 74 جائزة و7 ترشيحات لجوائز أوسكار، ونال الثاني 75 جائزة و5 ترشيحات للأوسكار.

الفيلم الثاني «Lady Bird»، وهو تحوير للفظة الإنجليزية «Ladybird» التي تشير لـ«خنفساء» طائرة لطيفة المظهر بأجنحتها الحمراء المبرقشة ببقع دائرية سوداء، وما اجتذبني إليه هو تريلر الفيلم نفسه ذو الإيقاع السريع الذكي الموتر، الذي نبأني بفيلم يغوص في حياة الطبقة تحت الوسطى الأمريكية بشكل أمين وكاشف.

قررت حينها أن أكتب مقالًا واحدًا عن الفيلمين لأني وجدت قاسمًا عظيمًا مشتركًا بينهما، واليوم أجد أن الكتابة عنهما أيضًا تصبح أكثر أهمية أيضًا بعدما حصد الأول 74 جائزة و7 ترشيحات لجوائز أوسكار، ونال الثاني 75 جائزة و5 ترشيحات للأوسكار.

الفيلم الأول يروي قصة الأم المكلومة «ميلدريد» التي تقوم بدورها «مكدورماند» التي تُقتل ابنتها المراهقة بعد أن يتم اغتصابها ثم حرق جثتها، وتعجز الشرطة المحلية عن العثور على القاتل فتقوم الأم بتأجير ثلاث لوحات إعلانية كبيرة على طريق البلدة الرئيسي، تطليها باللون الأحمر وتكتب عليها رسالة تأنيب موجعة لمأمور البلدة «ويلوبي» الذي يقوم بدوره «وودي هاريلسون».

الفيلم الثاني يتتبع قسمًا من حياة مراهقة تصر أن يدعوها الجميع بالاسم المستعار «لادي بيرد» التي تلعب دورها «سيرشا رونان» التي سبق أن فاجأتنا بأدوار عظيمة رغم حداثة سنها في أفلام مثل «Brooklyn» عام 2015 و«Atonement» عام 2007.

تلعب «سيرشا» في الفيلم دور فتاة تعيش في عامها السابع عشر ببلدة «سكرامنتو» بولاية «كاليفورنيا» مع والدين يمران بظروف قاسية، الأب عاطل ومصاب باكتئاب حاد، والأم طبيبة تكافح من أجل الإنفاق على عائلتها بمفردها وتضع حسابًا قاسيًا لكل دولار تنفقه في السوبر ماركت، والابنة في المدرسة الثانوية تكافح من أجل الخروج من الحياة النمطية وتحلم بالانضمام لجامعة مرموقة رغم استحالة ذلك عمليًا؛ نظرًا للظروف الاقتصادية التي تعصف بأسرتها.

يغوص العملان بعمق في أحشاء أمريكا ما بعد 11 سبتمبر، وينجحان في رسم معالم حقبة أمريكية تعاقبت عليها أزمات طاحنة.

يغوص العملان بعمق في أحشاء أمريكا ما بعد 11 سبتمبر، وينجحان في رسم معالم حقبة أمريكية تعاقبت عليها 16 سنة، وثلاثة رؤساء، وأزمة اقتصادية، وحرب مع الإرهاب، ومغامرات حربية في العراق وأفغانستان، وزيادة للبطالة، وتصاعد لاضطهاد الأقليات، واهتزاز للعظمة الأمريكية على المسرح العالمي، وحالة من الخوف والقلق من المستقبل تسري داخل المجتمع الأمريكي وتضرب طبقته الوسطى بعنف.

يبدو المأمور «ويلوبي» في «ثلاث لوحات..» بدماثة أخلاقه ومحبة أهالي بلدة «إيبينج» له، وأيضًا بصراعه مع السرطان واحتضاره وعدم قدرته على تحقيق العدالة واكتشاف قاتل ابن «ميلدريد»، يبدو كبطل أمريكي جريح، كصورة للسلطة الأمريكية في حالة من الضعف وقلة الحيلة، ويبدو اختيار ولاية «ميزوري» تحديدًا للأحداث ذا دلالة بالغة؛ وهي الولاية التي شهدت منذ عامين تقريبًا أحداث عنف واسعة إثر قتل الشرطة لشاب أسود على خلفية عنصرية، لم يكن ذلك الحدث أولها أو آخرها.

تبدو «ميلدريد» في سعيها للبحث عن العدالة، ووضع السلطة في مواجهة مع نفسها –رغم امتعاض باقي أهالي «إيبينج» المتعاطفين مع مأمورهم المحتضر- رمزًا لروح الوطن الأمريكي المكلوم، الذي اكتفى من الصمت أمام حالة الضعف والشقاق والصراع ويرغب في أمريكا متحدة قوية عادلة من جديد.

أثناء أحداث الفيلم –الذي يعج بالرمزية- يكتب «ويلوبي» ثلاث رسائل موجهة لثلاثة أشخاص بعينهم، زوجته التي يكشف لها عن معاناته أمام حالة الضعف التي تعتريه، ولمساعده «ديكسون» –يلعب دوره الممثل الموهوب «سام روكويل» مجسدًا دور الشرطي الأمريكي الأخرق والعصبي الذي يمكن أن ينزلق للعنف العنصري بسهولة- يحدثه فيه عن إمكانياته الخفية التي يجب عليه أن يعيد اكتشافها من أجل أن يصبح رجل شرطة عظيمًا وليعيد ضبط بوصلته من جديد. والرسالة الثالثة لـ«ميلدريد» نفسها، حيث يعترف لها بتقصيره وبإعجابه لما تفعل من أجل قضيتها.

الثلاث الرسائل من وجهة نظري تمثل جوهر العظمة الأمريكية، وعظمة أي مجتمع ديقراطي حقيقي في قدرته على مواجهة النفس ومحاولة النهوض دومًا من أي كبوة، دون التهرب من الأخطاء ولصقها بأي ظروف أو مؤامرات أو أطراف خارجية.

وعلى نفس استقامة خط مقاومة الشعور بالضعف تمضي حياة الفتاة المراهقة «لادي بيرد» في الفيلم الثاني «Lady Bird» التي تحاول اكتشاف وتحقيق الحلم الأمريكي الخاص بها على الرغم من كل المعوقات التي تواجهها في حياتها.

ترفض حالة الخوف التي يعيش فيها المجتمع الأمريكي وتسعى للانتقال للعيش في «نيويورك» رغم تحذيرات أصدقائها بأن «التفاحة الكبيرة» –كما يطلق عليها الأمريكيون- لم تعد مكانًا آمنًا بعد أحداث 11 سبتمبر، وأن الإرهاب قد يطالها في أي لحظة.

ترفض أن تعيش على الحد الأدنى الاقتصادي كما يعيش أهلها، وتنخرط في حلم يقظة طويل تؤهل فيه نفسها لأن تعيش في بيت كبير يغص بالثراء مثل بيت جدة صديقها، وترفض كل مسلمات مجتمعها ومدرستها المسيحية المحافظة وتنخرط في مواجهات عقلية تتحدى بها الجميع، الراهبة مديرة المدرسة، وأعضاء فرقة التمثيل المدرسي التي تلتحق بها، والصورة النمطية للحياة التي تحاول والدتها عبثًا إقناعها بالاستمرار على منوالها.

الفيلمان يعرضان صورة تختلف تمامًا عن صورة المجتمع الأمريكي الزاهر البراق التي تغص بها أفلام «هوليوود»، ويواجهان حقيقة متاعب شريحة عريضة من المجتمع الأمريكي بشجاعة.

يعاونها في ذلك والدها العاطل والمكتئب الذي لا تزال داخله بقية باقية من إيمان قدرة «لادي بيرد» على العيش بالطريقة التي ترغبها وتحقيق حلمها والعثور على ذاتها، وهو في ذلك يتماهى للغاية مع شخصية «ميلدريد» في «ثلاث لوحات..» من حيث رمزية دوره للروح الأمريكية الحية تحت الرماد على الرغم من كل شيء.

في نهاية الفيلم فقط نعرف من «لادي بيرد» اسمها الحقيقي الذي تصرح به في فخر، وكأنها تعلن خروجها من شرنقة ما لتحلق في طور جديد تعيد فيه تعريف نفسها وتعريف العالم من حولها بإرادة حقيقية.

في «ثلاث لوحات..» تنفق «ميلدريد» تقريبًا كل ما تملك لاستئجار تلك اللوحات الدعائية الثلاث من أجل قضيتها، وفي «لادي بيرد» لا تكاد الفتاة تملك شيئًا من الأصل – تذهب مع والدتها لمحل الملابس المخفضة الذي يذكرك بملابس البالة من أجل شراء فستان حفل التخرج من المدرسة البروم- لكن ذلك لم يمنعها أيضًا من أن تقاوم الواقع، ولم يمنع والدها من رهن منزلهم مرة أخرى من أجل المساعدة في تحقيق حلم ابنته للحصول على تعليم جامعي مناسب وتحقيق ما ترغب فيه.

الفيلمان يعرضان صورة تختلف تمامًا عن صورة المجتمع الأمريكي الزاهر البراق التي تغص بها أفلام «هوليوود»، ويواجهان حقيقة متاعب شريحة عريضة من المجتمع الأمريكي بشجاعة. لافتين النظر أن ذلك المجتمع في حاجة لفرصة أخرى، وفي حاجة للانتباه للمشاكل الحقيقية التي تواجهها هذه القوة العظمى التي لا يفتأ سياسيوها يجرونها من مغامرة إلى أخرى، بينما مجتمعاتهم في أشد الحاجة للانتباه لأبسط احتياجات الأمن القومي الداخلي من تعليم جيد، وفرص عمل، واقتصاد قوي، وأمن داخلي، وعدالة اجتماعية، وفرص للشباب من أجل الإيمان بأنفسهم وأمتهم مرة أخرى.

بالنسبة لي هما الرد الأبلغ أمام تهورات «ترامب» وعنصريته وتويتاته وعشوائية قراراته وحربه ضد الإعلام والمؤسسات والمجتمع الأمريكي نفسه.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.