مشهد 1

نهار/ داخلي – شقة سكنية بأحد الأحياء الراقية – غرفة نوم.
تقترب الكاميرا من وجه البطلة.

هبت سناء من نومها فزعة، ثم استقرت جالسة ومضت تلعب بخصلات شعرها كعادتها عندما تفكر في أمر مهم، ثم صاحت: «أنا غبية جدًّا، أنا أسخف امرأة قابلتها في حياتي». ذهبت للحمام، غسلت أسنانها واستحمت، وما زالت تفكر بالحلم الذي راودها. هي لا تملك إيمان ربات البيوت بالقدرات الغامضة للأحلام، لكنها تصدق الأبحاث التي تقول باستخدام المخ للحلم وسيلة لتقوية الذاكرة وترتيب المعلومات. ما حلمت به كان يتفوق حتى على هذا؛ كأنه فيلم سينمائي يعرض حياتها من وجهة نظر شخص آخر، شخص خفي كان قابعًا في لا وعيها طول السنين وقرر فجأة أن الوقت قد حان لعرض تحفته الفنية.

تتوجه للمطبخ لتعد كوب النسكافيه الصباحي، لعله يساعدها على ترتيب أفكارها. كانت تفضل تناول العصير صباحًا لكن زوجها كان يحب القهوة ومشتقاتها، وكان هذا ما يطلبه لها عندما يخرجان، ومن هنا صار النسكافيه واجبًا صباحيًّا. ابنتها ليست هنا وزوجها لم يعد من المستشفى بعد كعادته مؤخرًا، أو على الأقل هذا ما يقوله، لا يهم كذبه الآن، المهم أن أحدًا لن يزعجها بينما تفكر.

مشهد 2

نهار/ داخلي، الموقع نفسه.
تتجول سناء والكاميرا تتبعها.

تبدأ تنظيف الشقة بتلقائية، تجمع الأكواب الفارغة وقشور اللب، تشغل مكنستها الكهربائية وتنساب معها بنعومة، يعلو صوت أفكارها على ضجيج المكنسة وتتذكر؛ تتذكر سناء حياتها بداية من نتيجة الثانوية العامة، هكذا بدأ فيلمها/ حلمها. كان مجموعها يؤهلها لدخول كليات «القمة» في القسم الأدبي لكنها اختارت الدراسة بكلية التربية. رحَّب الأهل بهذا الاختيار وسرعان ما حوَّلوه لقرارهم الخاص، «خفنا عليها من السفر والجامعات البعيدة، على الأقل الكلية بجوار البيت»، هكذا كان ردهم كلما سألها أحد المهنئين عن سبب اختيار تلك الكلية، ولم تهتم بأن تصحح هذه النظرة فقد اختارت ما تحبه وعدا ذلك لا يهم.

في سنتها الأخيرة بالجامعة، بدأ موسم تزاوج الطالبات وتساقطت الزميلات من حولها، ولم تهتم، لم يكن لها موقف محدد مع أو ضد فكرة الزواج، وإن كانت لم تتحمس لها يومًا، فهي كذلك لم تنفر منها. كان موقفها المتوازن انعكاسًا لحالة لامبالاة تامة بما يحدث خارج عالمها، وعالمها هو عقلها وأفكارها. تلك هي الحقيقة ولا يهمها ما عداها.

حتى عندما جاء دورها للمشاركة في الموسم البهيج، قابلت خُطَّابها بنفس الثبات واللامبالاة، إلى أن جاء فارسها الهمام الذي اختارته؛ أدهم. كان أول منْ أثار اهتمامها، فقد وجدته ذكيًّا وله حس دعابة غير مصطنع، وكانت حماسته تشبه ذاتها الحقيقية. لذلك فقط وافقت، لكن الجميع غيرها نظروا إلى وسامته، ومستقبله المضمون باعتباره طبيبًا، وأكثر من أي شيء نظروا إلى ثراء أسرته. ظنُّوا أن الخاتم الماسي الذي قدمه كأول هدية هو ما أدار رأسها، لكنها لم تحبه لارتفاع ثمنه بل لأنها وجدته ببساطة مختلفًا، ولذلك كانت تحبه أكثر من القلادة الماسية والأسورة اللذين صاحباه، كانا فاحشي الثراء في نظرها وكانت تشعر بالخجل حين تضطر لارتدائهما.

تُطفِئ المكنسة وتنتقل إلى المطبخ، تبدأ غسل الأكواب التي جمعتها سابقًا، وتبتسم إذ تخطر لها تلك الذكرى الرقيقة.

عندما ولدت ابنتها «نور» تغيَّرت حياتها جذريًّا، لا يعني هذا انعدام النوم، والفوضى الدائمة والإرهاق المستمر، فقد حدث كل هذا طبعًا، لكن التغيير المقصود هو أن سناء خرجت لأول مرة منذ فترة بعيدة من عالمها الداخلي، بتلقائية وحب خطت خارج عقلها، وجدت «نور» لا تقل واقعية عن أفكارها. تلك الصلة المنعقدة منذ الحمل بين الأم وطفلها جعلتها تشعر بـ «نور» كما لم تشعر بأي إنسان، وقد ظلت تحيط بها كما كانت تفعل أثناء حملها. وامتزج العالمان، فكأن «نور» وُلِدت من عقلها لا رحمها.

تعود إلى الصالة وتبدأ رتق بعض الثقوب وإصلاح عيوب في كومة ملابس صغيرة بجوارها، تنحني بصبر وتركيز على ما بيديها.

جذبت «نور» كل اهتمام أبيها (أو ما تبقى منه) بسناء إليها، ولم تحفل سناء بذلك كثيرًا أو تشعر بتلك الغيرة الظريفة بين الأم وابنتها، حتى عندما فاجأها بقوله: «أعتقد أننا لسنا بحاجة لمزيد من الأطفال، أرى أن نكتفي بنور فقط»، قال ذلك بلهجة تقريرية آمرة، ولكنها كانت توافقه الرأي فلم تكترث بالاعتراض على طريقته.

ترفع رأسها وتضيق عينيها قليلًا كأنما تحاول تذكر حادثة بعيدة ثم تومئ برأسها موافقة.

في الحقيقة، هي لم تعارضه مطلقًا في أي أمر عدا مرة واحدة؛ عندما قرر أن ينقل «نور» من مدرستها إلى أخرى أبعد وأعلى تكلفة.

احتجت لأن قرب المدرسة الحالية يسمح لـ «نور» بالنوم فترة أطول، والاستمتاع بإفطار هادئ معها، كما أنها كانت تستمتع بوجه خاص باصطحابها إلى المدرسة ومنها، لكن أدهم رفض رفضًا قاطعًا وقال لها: «هل تذهب ابنتي إلى مدرسة حكومية رخيصة لتبقى بجوارك، بينما كل من أعرفهم يذهب أبناؤهم إلى مدارس خاصة بل دولية، ما الذي سيُقال عني؟ أنني أبخل على ابنتي الوحيدة بينما يعرف الجميع أنه لا يعوزني المال؟».

قالت له إنه صار سطحيًّا، وإنه لم يكن يهتم بتلك المظاهر الفارغة من قبل: «أتريد إرهاق طفلتك بنظام تلك المدارس وزيادة قلقي عليها أثناء الذهاب والرجوع كل يوم فقط لتحسين مظهرك؟» هكذا عبَّرت عن رأيها غاضبة، حتى إنها قاطعته عدة أسابيع، ولكنه كان أكثر عنادًا منها، وهكذا لم يبدأ العام الدراسي الجديد إلا وكان أدهم قد نقل أوراقها بالفعل كما قرر.

تبدو شاردة وتخزها الإبرة فتلعنها وهي تبحث عن منديل تمسح به قطرات الدماء الصغيرة.

أقنعت نفسها أن ذاك كان الاختيار الأفضل لابنتها على المدى البعيد، وفرَّغت وقتها أكثر لتساعدها على الوفاء بمتطلبات المواد الدراسية الجديدة ولتنظم مواعيد نومها أيضًا.

مشهد 3

نهار/ خارجي – شرفة واسعة بها أريكة صغيرة وأصص نباتات وزهور مختلفة، وقفص عصافير للزينة.
تحمل سناء رشاش المياه وترتدي قفازًا لتنظيف الأصص.

كبرت نور وازداد حب سناء لها، لم تكن تحبها لأنها ابنتها فقط، بل كانت معجبة بها وبشخصيتها بصدق، كانت تملك كل ما أحبته في أدهم، بدءًا من شعرها الفاحم وعينيها المتقدتين، حتى سخريتها الذكية وصلابة رأيها، بينما أخذت عنها البساطة والعفوية وأكثر ما أحبته تحديدًا أنها كانت نقيضًا لها، إذ كانت متحمسة وجريئة، وتدافع عما تريده بقوة، والأهم أنها لم تنعزل أبدًا في عالمها الداخلي، بل كانت تغير ما حولها ليشبه ذلك العالم الذي تريده.

تنظر بحب إلى زهرة عباد الشمس إذ التفت بقدر بسيط لتواجه الشمس التي تغير موقعها منذ دخلت الشرفة.

ازداد إعجاب سناء بابنتها عندما تفوقت في الثانوية العامة ورفضت الالتحاق بكلية الطب كما قرر لها أدهم مسبقًا، وأعلنت أنها ستدرس بمعهد السينما، ورغم ثورة والدها واستنكاره لهذا القرار «لمن سأترك المستشفى والعيادة إذن! على الأقل اختاري مجالًا نافعًا»، لكنها تمسكت بموقفها «يكفينا طبيب واحد في الأسرة، هذا ما أحبه وما ينفعني»، ساندتها سناء بكل قوتها، إذ كانت هذه الرغبة تتويجًا لأحلامها وشغفها المستمر بالسينما.

تخلع قفازاتها وتعود إلى الصالة لتقف بمنتصفها، وتبدو على وجهها ملامح الحيرة والتعجب؛ كيف بدأت أفكارها من حياتها وانتقلت بقفزة سريعة إلى حياة ابنتها. كانت تخشى دائمًا أن تنغمس فيها حد الذوبان أو أن تفرض أهدافها الخاصة على حياتها. لكنها مع ذلك، لم تكن تجد ما يستحق التفكير أو يثير الإعجاب في حياتها الآن غيرها. هي لم تنتبه لحياتها أصلًا حتى بدأت نور دراستها بالمعهد وقلَّ تواجدها بالمنزل، وباختصار لم تعد بحاجة إليها، فوجدت حياتها فارغة.

مشهد 4

نهار/ داخلي – غرفة النوم مرة أخرى.
تدخل سناء وتبدأ ترتيب الملابس المتناثرة، تلتقط سترة رمادية وتعلقها والكاميرا تتابعها.

لقد أقصاها أدهم عن حياته منذ فترة طويلة، لا تتذكر آخر مرة طلب منها مرافقته إلى حفل أو مناسبة تخص أحد معارفه، لم يعد يصحبها في زياراتها لأهلها إلا قليلًا، حتى إنها لا تذكر آخر مرة تناولا فيها الغداء معًا.

كانت تسخر من صديقاتها إذا شكت إحداهن غيرة زوجها أو تقييده لحركتها أحيانًا بدون مبرر، بل كانت تظن أنهن جاحدات. أدهم لم يعد يسألها إلى أين تذهب أو متى تعود، إذا خرجت في غيابه فلن يعرف أبدًا، لأنه لا يستمع حين تحكي له ماذا فعلت في يومها. نعم، هي تحب حريتها تلك، لكن بعض الغيرة اللطيفة والأسئلة ستدل على أنه ما زال يراها ويهتم لها.

هل أقصاها حقًّا أم استغنت هي عنه بنور وعالمها الخاص؟ لا، فهو لم يكن هكذا دائمًا، كان يحرص على انتشالها من أفكارها إذا غرقت فيها طويلًا وكان يشاركها تساؤلاتها وبحثها الدءوب عن إجابات لأشياء لم تهم سواها. لا تدري ماذا تغير لكنها تعلم أنها لم تعد تحتمل هذا الوضع ؛ هذا التجاهل والبرود الدائم وسخريته المبطنة منها ومن كل ما تفعله الآن، لا بد من حدوث شيء ما لتغييره.

تفتح أحد أدراجها وتخرج منه منديلًا حريريًّا طرزت عليه أسماؤهما بخيوط فضية، تفتح طيَّاته وتخرج منه خاتم زواجهما الذي انكسر الأسبوع الماضي، تتأمله بحرص، لم تكن تظن هذا ممكنًا، لكنها تفاجأت بجرح في إصبعها الذي حمله لسنوات، فخلعته ولفته بهذا المنديل حتى تسنح لها فرصة إصلاحه. قبل أن تعيده تبرز ورقة بيضاء من الدرج. غريب، لا تتذكر أنها تضع أيًا من أوراقها هنا. تفتح الورقة المطوية، إنه عقد زواج، يحمل اسم زوجها، وصورة امرأة أخرى. عقد رسمي موثق. هل يعقل هذا! هل حقًّا لم يتكلف مشقة إخفاء هذا عنها؟ أم تراه وضع العقد متعمدًا لتكتشفه بنفسها ولا يزعج نفسه بمهمة إخبارها؟!

تسقط جالسة ويدها ممسكة بالورقة وهي تحدق بها كأنها تفكر أو تتأمل.

ترى كل شيء واضحًا الآن، غيابه غير المبرر لأيام متصلة، وملابسه التي لم تشترها له، والهدايا المخفاة التي لا يعطيها لها أو لابنتها أبدًا، وفهمت الآن لماذا وصفها عقلها بالغباء والسخافة.

مشهد 5

نهار/ خارجي: سيارة أجرة (ميكروباص).

أتململ في مقعدي، يخنقني الحر والملل، أنتظر بنفاد صبر اكتمال عدد الركاب للانطلاق. تصعد فتاة وتجلس خلفي، أميز فيها ملامح زميلة من المعهد ويبدو أنها تفعل، فتلقي تحية مهذبة ثم تكمل حديثها في الهاتف. يصلني صوتها «… نعم، إنه يتفوق على ما ندرسه في نصوص الأفلام، ماما تقول إن الخاتم حين انكسر لفَّته في أقرب منديل ورقي وجدته، وتركته على الطاولة، اليوم وهي تنظف البيت ظنته مجرد منديل مستعمل وألقت به في القمامة، لا أعرف هل أضحك على الخبر أم …».

أمَّا أنا، فأعرف ماذا أفعل!

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.