في الدقائق الأولى من صباح الأربعاء 24 مايو/آيار الماضي، شهد البيت الخليجي انقلابًا كبيرًا، تمثل في هجمة إعلامية مدوية أعقبت تصريحات نُسبت لأمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني،أذاعتها وكالة الأنباء القطرية «قنا»، وحملت في طياتها حديثًا إيجابيًا عن كل من حركة المقاومة الفلسطينية حماس، وجماعة الإخوان المسلمين ودولة إيران.

الأخبار التي نفتها الدولة القطرية بعد دقائق وأكدت خلال نفيها عن تعرُّض الموقع الإلكتروني الخاص بوكالة الأنباء القطرية للقرصنة، وخروجه من أيدي المسؤولين القطريين.

هذه الأخبار التي تلقتها قنوات محسوبة على دول كالسعودية والإمارات ومصر ما أوحى بأن شيئًا ما كان مدبرًا، حتى أن بعضها إلى منتصف الليل لم ينقل خبر النفي القطري الذي أعقب التسريبات بفارق زمني ضئيل جدًا.

تزايدت ردات الفعل وعمدت الدول الثلاث لحجب الكثير من المواقع المحسوبة على مؤسسات قطر الإعلامية وغيرها مما هي على خصومة مع أنظمة الدول الثلاث، وتوالت حملات التشويه الممنهجة والتصعيد بحق دولة قطر، ولم تتوقف هذه الحملة حتى وقتنا هذا.

من جانبها أصرّت قطر على النفي لهذه التصريحات والتأكيد على اختراق الموقع الرسمي لوكالة الأنباء القطرية، و تبادلت الزيارات مع دولة الكويت في محاولة لبحث سبل التهدئة، لكن يبدو وكأنها لم تفلح في مسعاها.

في سياق متصل، نشر موقع ذا ديلي بيست الأمريكي أمس خبرًا مفاده أن مجموعة مجهولة تمكنت من اختراق البريد الإلكتروني لسفير الإمارات لدى واشنطن، يوسف العتيبة، وهو الرجل الأكثر سحرًا في واشنطن كما أسمته منصة هافنجنون بوست بنسختها الإنجليزية، ويظنه البعض مهندس العلاقات الإماراتية الإسرائيلية كذلك، وبريدٌ كهذا بالطبع سيفيض بالكثير من الأسرار، حول الإمارات وما تضطلع به من دور حيال الحلفاء والأعداء.


العتيبة يتفوق على بندر بن سلطان

يوسف العتيبة
يوسف العتيبة، سفير الإمارات العربية المتحدة في واشنطن (يمين)، مع الجنرال مارتن ديمبسي، رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة السابق وزوجته

حينما بدا الحلفاء التقليديون عاجزين عن تقديم الحلول السريعة أو حتى غير قادرين على تنميط أطراف الصراع الإقليمي بالشكل الذي تريده واشنطن ويسهل بالنسبة لها التعامل معها، كان العتيبة يقدم أوراق اعتماده لدى البنتاجون. صحيحٌ أن رصيده الحالي في الإنجازات لم يضاهي الخدمات التي قدمها بندر بن سلطان لتعبيد العلاقات الأمريكية الخليجية لكنه لا يزال شابًا يملك الكثير من الفرص.

الشاب الأربعيني، الأصلع، المدلل لأب إماراتي وأمٍ مصرية، والده مانع سعيد العتيبة، أول وزير للتعدين والموارد البترولية بدولة الإمارات، حضر إلى واشنطن كسفير لدولة الإمارات العربية المتحدة عام 2008م، ومنذ ذلك الحين ونجمه صاعد في سماء واشنطن، لم يأفُل بعد. ولفهم الدور الذي نجح فيه بما يخدم مصالح الدولة الإماراتية، ننقل هذه القصة التي أورددتها هافنجتون بوست في تقريرها عن الرجل في سبتمبر/أيلول لعام 2015.

في العام 2006، قامت الشركة الإماراتية «موانئ دبي العالمية» بالاستحواذ على شركة بريطانية كانت تدير موانئ أمريكية رئيسية في ذلك الوقت. عملية الاستحواذ تمت بموافقة إدارة الرئيس بوش، وعندها قامت حملة لرفض عملية البيع؛ قادها بارزون في الحزب الديمقراطي، وعلى رأسهم وزيرة الخارجية السابقة والمرشحة الرئاسية الخاسرة هيلاري كلينتون. السيناتور الأمريكي تشاك شومر هو الآخر قاد حملةً رافضةً لهذه الصفقة لاعتبارات الأمن القومي الأمريكي، واتهم الإمارات بأنها دولةً راعيةً للإرهاب وسيئة السمعة.

تحدثت شبكة فوكس نيوز عن الصفقة ما لا يقل عن 70 مرة خلال فترة بلغت شهرين فقط، ما أثّر بشكل كبير على جميع السياسيين، حتى أصبح الأمر بالنسبة لهم كأن أسامة بن لادن هو من سيدير هذه الموانئ بعد هذه الصفقة. وفي النهاية تراجعت الإمارات عن الصفقة في ضربة مُذِلَة.

بعد أقل من 10 سنوات على هذه الخسارة الإماراتية المذلة، كانت الإمارات على موعدٍ مع نجاح كبير لكنه مرّ بهدوء على خلاف ما سبق. شركة مملوكة للإمارات، تسمّى «جلوبال فاوندريز» دخلت في مناقصة بعدة مليارات من الدولارات للاستحواذ على عدة مصانع في نيويورك وفيرمونت. هذه المصانع هي المسئولة بالكامل عن تجارة تصنيع الإلكترونيات الدقيقة وأشباه الموصّلات، لشركة IBM.

كان الاستحواذ من الخطورة والحساسية حتى إنه احتاج إلى تصريح من لجنة الإستثمار الخارجي في الولايات المتحدة، لأن نجاحه يعني أن المتعهد الأوّل بتزويد وزارة الدفاع بأشباه الموصّلات اللازمة للأنظمة الدفاعية، والجوية وأنظمة حكومية تقنيّة أخرى، سيُستبدل بشركة مملوكة لدولة أجنبية «الإمارات».

تمت الموافقة على الصفقة بعد أقل من عِقد من نزاع شركة الموانئ الإماراتية «دبي بورتس وورلد»، الذي خسرته الإمارات. لم يغضب أحد في فوكس نيوز، لم يحتجّ أيّ من أعضاء الكونغرس، ولا حتّى عدو الإمارات الأكبر، تشاك شومر، الذي امتدح الصفقة باعتبارها خبرًا رائعًا!

هذا النجاح كان حليفًا ليوسف، الذي عرف من أين تؤكل الكتف الأمريكية، رجلٌ يبرز عداءً غير مسبوق لخصمي الولايات المتحدة في المنطقة، جماعة الإخوان المسلمين وإيران. ويبدي تقاربًا وتضامنًا كاملين مع إسرائيل -فتى أمريكا المدلل-، كان العتيبة كذلك مصدرًا سهلًا للمال في عالم السياسة في واشنطن، وبه أتم العديد من مهماته.


هل وقع العتيبة في الفخ؟

يوسف العتيبة
نموذج من الرسائل المسربة، يتحدث فيها العتيبة عن موقفه من الوضع في مصر وينقله لأصدقائه في أمريكا
على غرار هيرودوتس، الذي قال بأن مصر هبة النيل فكذلك الخليج هبة النفط، وبمئات الملايين من الدولارات تغيرت الاهتمامات الأمريكية وسيئت سمعة حلفائها
جلبير الأشقر -بتصرف-

أمس الجمعة، نشرت صحيفة ذا ديلي بيست الأمريكية خبرًا يفيد بأن البريد الإلكتروني للسفير الإماراتي، يوسف العتيبة وقع في فخ القرصنة، وبهذا فإن مئات الرسائل باتت بيد مجموعة من القراصنة توزعها على الصحف والمجلات، وبحسب الصحيفة فإن لمياء جباري، المتحدثة باسم السفارة أكدت أن البريد الإلكتروني المسجل على موقع «hotmail» يعود فعلًا للعتيبة، مؤكدةً أنها لم تكن تعلم بموضوع الاختراق قبل اتصال الصحيفة، غير أنها تعتقد أنهم ليسوا الوحيدين الذين حصلوا على الوثائق المسربة!

ذكرت الصحيفة كذلك أن الوثائق المسربة والبالغ حجمها 55 صفحة، يبدو أنها صُورت بواسطة كاميرا رقمية. ويعود تاريخ أول رسالة إلى العام 2014، وآخرها إلى الشهر الماضي. ما يعني أن عملية القرصنة كانت قبل شهر من الآن، لكنها لم تخرج إلا في ظل الأزمة الخليجية.

وبحسب الصحيفة فإن مجموعةً تطلق على نفسها اسم «جلوبال ليكس» كانت وراء الاختراق، غير أن الصحيفة أكدت أنها تلقت من بريد إلكتروني مجهول رسالة إلكترونية تحت عنوان «DC Leaks- The Lobbyist Edition Part 1»، في إشارة إلى موقع «دي سي» للتسريبات، الذي تأسس قبل عام والمتخصص في نشر وثائق مقرصنة من بريد مسؤولين أمريكيين، ما جعل البعض يعتقد بتورط روسي، لكن لا أحد يعلم ما استفادة الروس من مثل هذا، العتيبة ليس هيلاري كلينتون!

وقالت الصحيفة إن الوثائق في مضمونها تدور حول الكيفية التي استطاعت بها دولة صغيرة تغيير اهتمامات الولايات المتحدة الأمريكية وإيذاء سُمعة حلفائها، بما لديها من الدولارات.

يدور الحديث ابتدءًا حول صحة التسريبات من عدم صحتها، وفي هذا الشأن تؤكد صحيفة ذي إنترسبت الأمريكية أن صحيفة هافنجتون بوست قد تأكدت على الأقل من صحة إحدى هذه الرسائل، فما الذي ورد فيها؟


لنعاقب إيران

أوضحت صحيفة ذي إنترسبت أن بعض الرسائل المسربة لديها تشير إلى علاقات متنامية بين الإمارات العربية ومركز أبحاث المحافظين الجدد، الموالي لإسرائيل، والمعروف باسم مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات FDD، إلى حد اتفاق الطرفين فيما بينهم على الضغط على الشركات التي لها فروع في أي من الإمارات والسعودية، والراغبة في الاستثمار في إيران، لإثنائها عن ذلك للتضييق اقتصاديًا على الأخيرة بعد الاتفاق النووي يوليو/تموز 2015.

وكانت رسالة إلكترونية وجهها مارك دوبويتز، المدير التنفيذي للمؤسسة، في العاشر من مارس/آذار لهذا العام، لكل من العتيبة وكبير مستشاري المؤسسة جون حنا، قد حملت قائمة بهذه الشركات التي تستثمر في إيران والإمارات والسعودية، لتضغط الأخيرتين عليها لمقاطعة السوق الإيرانية. وضمت القائمة شركات كبرى غير أمريكية كـ «شركة إيرباص الفرنسية وشركة لوكويل الروسية».

وتجدر الإشارة إلى أن مركز الأبحاث FDD يموله رجل الأعمال الموالي لإسرائيل،شيلدون أديلسون، وهو بالمناسبة صديق شخصي لرئيس وزراء إسرائيل الحالي، بنيامين نتنياهو.


انقلاب تركيا

هكذا كتب جون حنا للعتيبة في 16 أغسطس/آب بُعيد الانقلاب التركي الفاشل في يوليو/تموز من العام الماضي في مقالة صرّح خلالها بأن الإمارات العربية ومؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات FDD كانا شريكين في هذا الانقلاب الفاشل.


قطر التي لا نحبها

في إحدى الرسائل عاتب «حنا» العتيبة لاسضافة فندق إماراتي في قطر لمؤتمر حركة حماس الأخير، لكن رد العتيبة كان حاضرًا: «إنه ليس خطأ الإمارات وإن كانت القضية الرئيسية في وجود القاعدة العسكرية الأمريكية على أراضيهم، فإذا ما نقلتم القاعدة نقلنا الفندق :-)»

وتحدثت الرسائل عن اجتماعٍ مرتقب في الفترة الزمنية ما بين 11 و 14 يونيو/حزيران الحالي بين المؤسسة ومسؤولين من الحكومة الإماراتية. مفترض حضور محمد بن زايد ولي العهد الإماراتي لهذا الاجتماع، وتتضمن أجندة الاجتماع نقاشًا حول قطر وقناة الجزيرة كأداة لعدم الاستقرار الإقليمي. ويفترض أن يناقش الاجتماع كذلك الجهود الإماراتية الأمريكية لبحث سبل التأثير الإيجابي على الداخل الإيراني بُغية احتواء الخطر القادم منها وهزيمته في مهده.


مصر والإخوان المسلمين

إبان الثورة المصرية في 2011 أرسل العتيبة للعديدين من أصدقائه في الإدارة الأمريكية لتبني موقفًا داعمًا للرئيس المصري الأسبق مبارك، لكن الحظ لم يحالفه، فأعاد الكَرّة عليهم في أعقاب انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013، وضغط يوسف على مسؤولين سابقين في إدارة الرئيس بوش للترويج لوجهة نظره أمثال، ستيفن هادلي ويوشوان بولتن. مؤكدًا أن الربيع العربي عظّم من وجود المتطرفين على حساب محور الاعتدال الذي لم يبقَ منه اليوم سوى الإمارات والأردن!

وشرع العتيبة في وصف أحداث الثلاثين من يونيو/حزيران 2013 لأصدقائه في أمريكا، على أنها ثورة ثانية، إذ أن المحتجين في الشوارع المصرية يفوق عددهم هؤلاء الذي نزلوا في يناير/كانون الثاني 2011. إنه ليس انقلابًا، لأن الجيش لا يُنفذ اليوم إرادته وإنما فقط يستجيب لنداء الشعب.


من وراء التسريبات؟ «فتش عن المستفيد»

سُررنا بالشراكة معكم

بتتبع مسار الأحداث تظهر لنا ثلاث نقاط رئيسية يمكنها أن ترجح لنا من يقف وراء هذه التسريبات:

1. أول من أعلن عن هذه الرسائل كانت صحيفة «ذا ديلي بيست» أمس الجمعة، وقالت أنها اتصلت بالمتحدثة باسم السفارة الإماراتية لمياء جباري، والتي بدروها أكدت أن البريد الإلكتروني المسجل على موقع «hotmail» يعود فعلًا للعتيبة، ورغم تأكيدها على أنها لم تعلم بشأن الاختراق إلا من خلال الصحيفة، إلا أنها ذكرت للصحيفة أنه «ربما لستم وحدكم من حصل على نسخ من هذه الرسائل»!

ويحمل الكلام تناقضًا، فكيف عرفت بإمكانية امتلاك عدد من الصحف الأخرى لهذه الرسائل -وهو ما حدث بالفعل اليوم السبت بنشر ذي إنترسبت الأمريكية نسخًا كانت لديها من الرسائل- وهي لم تعلم بشأن التسريب إلا من خلال الصحيفة «ذا ديلي بيست» -أول من اتصل بها للتحقق-؟

2. تقتضي الأعراف الدبلوماسية في هذا الصدد التريث، إذ كان ينبغي على السفارة الروية وإنكار عملية الاختراق مخافة أن يكون بها ما يُوقع البلاد في ورطة دبلوماسية مع أحد الجيران أو الحلفاء؟ فهذا الذي اختُرق حسابه ليس نادلًا في أحد فنادق الإمارات، إنه يوسف العتيبة، سفيرها لدى واشنطن ومهندس اتصالاتها الخارجية الإماراتية وذراع بن زايد الأيمن!

3. فحوى هذه الرسائل لم يخرج بأي حال عن الخط المعلن للدبلوماسية الإماراتية وسياسياتها الإقليمية والدولية، فمعروفٌ كم هو العداء الذي تُكنه الإمارات للربيع العربي، ولجماعات الإسلام السياسي، وداعميهم. ولا نرى هذه الرسائل إلا في إطار رغبة الإمارات تضخيم ذاتها وأثرها في المنطقة، فهي التي تحارب إيران والإخوان المسلمين وهي اليوم كما تسوّق نفسها الحليف العربي الأول للولايات المتحدة الأمريكية ونافذة «بن سلمان» إلى المكتب البيضاوي، فمَن مِن شأنه أن يسفيد من مثل هذا الاختراق غير الإمارات؟